نقد ثقافي أم نقد أدبي؟"عنوان الكتاب المشترك بين الناقدين، السعودي عبدالله الغذامي والسوري عبد النبي اصطيف سلسلة حوارات القرن الجديد - دار الفكر - دمشق 2004. وهو عنوان يحمل معنى المفاضلة والتفضيل، من جانب، ويشير الى"التحديد"ويحمل دلالة"التوصيف"من جانب آخر: فهو في بعده الأول كمن يتساءل: هل نريد"نقداً ثقافياً"أم"نقداً أدبياً"؟ والسؤال في بعده الثاني هو: هل ان النقد"نقد ثقافي"أم"نقد أدبي"؟ الا ان الكتاب يدور، اكثر ما يدور موضوعاً ومعالجة، حول البعد الاول، وان كان لا يهمل البعد الآخر. ويأتي الكلام فيه في بعدين يمثلان موقفين: موقف يميل الى"النقد الثقافي"ويجعل منه بديلاً من"نظيره الأدبي"، بينما الموقف الآخر يتعصب للنقد الأدبي، مدافعاً عنه لا من باب تأكيد الأهمية التاريخية له فقط، وانما ايضاً، من خلال التشديد على صلته بالأدب، التي يجدها"صلة عضوية". والكتاب، في وجهيه هذين، كتاب خلافي أساساً وجوهراً، منطلقاً وتوجهات: الغذامي يتحول بفكرة"الموت"من"موت المؤلف"- الذي قال به رولان بارت - ليقول بموت النقد الأدبي. وبدل"حياة النص"التي يقيمها بارت يحل الغذامي"النقد الثقافي"جاعلاً منه"بديلاً منهجياً"لما أعلن موته. وفكرة"النقد الثقافي"التي يقدمها هنا - وقد سبق أن قدمها في كتاب مستقل بالعنوان نفسه - فكرة تستوعبها"متطلبات المتغير المعرفي والثقافي الضخم الذي نشهده الآن عالمياً وعربياً". ويجيء تحديده معنى"النقد الأدبي"وبيان أبعاده الموضوعية من خلال احالته الى"البلاغة". لذلك - على ما يرى الغذامي - ظل هذا النقد"يبحث عن الجمال حصراً، وعما هو خلل فني"مقرراً، في ضوء ذلك، انه، في هذا المنحى، لم"يتجاوز ذلك في مدارسه كلها قديمها وحديثها". ويجد أن"النقد الأدبي"على ما له من انجازات كبرى على مر العصور، فانه لم يضع في سياقاته امكان تحول"الجميل الذوقي ... الى عيب نسقي في تكوين الثقافة العامة وفي صوغ الشخصية الحضارية للأمة"- وهو ما يسند مهمة القيام به الى"النقد الثقافي"،"بصفته بديلاً معرفياً ومنهجياً من النقد الأدبي"- كما يريد الغذامي ذلك. الا انه مع كل ما يبدي من حرية وصرامة في التعامل مع معطيات"المنهجين"، يقرر"ان النقد الثقافي لن يكون الغاء منهجياً للنقد الأدبي، بل انه سيعتمد اعتماداً جوهرياً على المنجز المنهجي الاجرائي للنقد الأدبي". واذا كانت"معاجم الأدب"تعرف النقد الأدبي بصفته"علماً في نقد النصوص وفي تفسيرها"- والغذامي نفسه يشير الى ذلك - فإن"النقد الثقافي"، كما يريده، يتعين، معنىً وحدوداً ودلالات عملية، في"ان في الخطاب الأدبي، والشعري تحديداً، قيماً نسقية مضمرة تتسبب في التأسيس لنسق ثقافي مهيمن"يجد الغذامي ان الثقافة العربية ظلت"تعاني منه على مدى ما زال قائماً". ويرى أن هذا النسق ظل"غير منقود ولا مكشوف بسبب توسله بالجمالي الأدبي، وبسبب عمى النقد الأدبي عن كشفه مذ انشغل النقد الأدبي بالجمالي وشروطه، او عيوب الجمالي، ولم ينشغل بالأنساق المضمرة، كنسق الشعرية"، والذي"هو كل دلالة نسقية مختبئة تحت غطاء الجمالي ومتوسلة بهذا الغطاء لتغرس ما هو غير جمالي في الثقافة"، وهو ما يقرر في ضوئه وجود"مؤلف مزدوج"للنص، أحدهما تمثله"الثقافة"، بينما يمثل الآخر"المبدع". يمثل وجهة النظر الأُخرى في الكتاب الناقد والباحث السوري عبد النبي اصطيف الذي يبدأ بالتساؤل عما اذا كان النقد الأدبي استنفد"مسوغات وجوده وأخفق في تأدية وظائفه ومهماته"ليجعلنا ندعو الى تقديم"بديل منهجي"منه، وهو ما يتمثل في"النقد الثقافي"بحسب الغذامي. ومن خلال هذا التمييز ينطلق"اصطيف"لتأكيد موضع كل"مفهوم"ضمن حدوده الاصطلاحية: ف"النقد الأدبي كلام ننشئه، نتحدث به عن"كلام"آخر هو الأدب"، وأهم ما يميزه - بحسب"جيرار جينيت"-"أنه يتكلم اللغة نفسها التي يتكلمها موضوعه"، ف"ينشئ من خلالها نصاً نقدياً يتناول فيه جوانب مختلفة من هذا الموضوع"ويشمل ذلك الشرح، والتفسير، والتحليل، والموازنة، والمقارنة، ثم اصدار الحكم الذي تم التعارف عليه ضمن مصطلحات النقد الأدبي ب"الحكم النقدي". وهذا، بحسب رأي الكاتب، ما يجعل الصلة عضوية بين"النقد الأدبي"و"النص الأدبي"، فهي صلة"تمنح النقد الأدبي هويته الخاصة به". وكذلك الأمر بالنسبة الى اللغة"فالصلة ما بين اللغة في الأدب واللغة في النقد الادبي صلة وثيقة تقوم على المكونات المشتركة لكل منهما، مثلما تقوم على حضور كل منها في الآخر". وفي علاقة النقد الأدبي بالعالم، يرى اصطيف"ان النقد الأدبي وثيق الصلة بعالمه الاجتماعي"، محدداً لهذه الصلة وجوهاً ستة أساسية تتمثل في"أداة"هذا النقد والتي يدعوها ب"اللغة الطبيعية"، واجتماعية موضوعه، و"وظيفته الاجتماعية". ثم"ان الأعراف الجمالية التي يستند اليها النقد في ممارسته هي اعراف اجتماعية"، وفضلاً عن هذا وذاك فهو، في طبيعته،"انشاء موجّه الى الآخر". أما آخر هذه الوجوه الستة فيتمثل في"ان النقد الأدبي يمارس ضمن مؤسسات اجتماعية مختلفة لكل منها نيتها الخاصة، وحدودها، وعلاقاتها، وأنظمتها، ولوائحها، وامكاناتها، وأعرافها، وقيمها، ووظائفها، وتطلعاتها، وأهدافها، وغير ذلك مما يؤثر على نحو من الانحاء في الممارسة النقدية فيها، ويشكل جوانب العملية النقدية الى حد بعيد". وينظر من زاوية ثالثة في موضوعه هذا فيجد ان"النقد الأدبي انشاء انساني"، وفي هذا له وجوهه التي يحددها في أن"أداته إنسانية"- بمعنى استخدام"اللغة الطبيعية"- و"ان منتجه انسان"بكل ما يحكم هذا الانسان ويحتكم اليه في حياته وعلاقاته، وان"مستقبله انسان"،"مثله في ذلك مثل منتجه"، وهو"محكوم بالأدب والأدب محوره الانسان"، لأننا"في كل ما نكتب انما نفتش عن انفسنا"، كما يرى"ميخائيل نعيمة". وفي المحصلة، فإن"النقد الأدبي انشاء مرتبط بشبكة معقدة غاية التعقيد من الصلات يقيمها مع العناصر المشكلة للفضاء، او الفسحة، التي يتحرك فيها". - فاذا كان الأمر عند اصطيف أمر دفاع عن"النقد الأدبي"من منطلق الايمان"بقدرته على ممارسة وظائفه الحيوية"، فإنه، وتأسيساً على هذا، يجد"الغذامي"في ما يصدر عنه من تصور خاص"جداً للنقد الأدبي ... يجافي الكثير من الحقائق المتصلة بطبيعة هذا الحقل المعرفي المهم ووظيفته وحدوده"، داعياً، بديل النبذ والالغاء اللذين يعمد إليهما"الغذامي"في اطروحته، الى تطوير"النقد الأدبي"وتوسيع آفاق تفاعله مع علوم العصر ومعارفه وفنونه، من غير ان ينكر على"النقد الثقافي"وجوده ودوره، بل يرى فيه"رصيفاً"للنقد الأدبي، وفي الوقت نفسه، لا يرى ضرورة او متطلباً وحاجة"الى خلق هذا التنافس الجذري بين هذين النشاطين المهمين، بل الحيويين، لتدبر الانتاج الأدبي والثقافي في المجتمعات الحديثة"- من دون ان يعني هذا الغاء، أو تعطيلاً، لملاحظاته على"أطروحة الغذامي"التي رأى فيها من الثغرات ما لا يمكن اغفاله، او التغافل عنه، فهو، في نظره، مشروع يشوبه نقص كبير، اذ انه"لا يقدم من خلال اجراء سليم معافى في البحث والتنقيب، ولا يقوم على مسح واسع وشامل لمعطيات كافية يمكن ان يدلل من خلالها على صحة ما يذهب اليه". - ينطلق الغذامي في أطروحته من رؤيته العالم الذي يجده"اليوم ومنذ اكثر من عقد ما زال يشهد حالاً من التحول الضخم، وهو تحول نوعي في رؤية الانسان لنفسه وللآخر والكون من حوله"، ويرى ان"هذا يشمل قراءة الانسان للتاريخ وللثقافة، بما ان الاثنين شاهدان لغويان على الأذهان المنتجة لهما، مثلما انهما علامتان على الأنساق المكونة للذهن البشري والمصنعة لذوق الناس وتصوراتهم وأحكامهم". وبقدر ما نجد في موقف الغذامي من النقد الأدبي من"جدانوفية"قائمة على الاقصاء والالغاء، نجد في كلام"اصطيف"شيئاً غير قليل من"المدرسية"، وهو يتكلم في توصيف النقد الأدبي، وبيان عناصره، وتعيين مجالاته، وكأننا نقرأ درساً في"النقد الأدبي، أصوله وطرائقه". غير ان نزعة اصطيف لم تكن"نزعة إلغائية"وان طغت عليها"التعليمية"، فهو لا ينكر"النقد الثقافي"، ولا يتنكر له، بل يعده"مجالاً آخر"ينفرد بطرائقه، وأساليبه في البحث والاستقصاء... بل نجده يعيده الى مجالاته الأولى التي انبثق عنها في الدراسات الغربية. ولعله لو استقصى ذلك في التراث العربي، والنقدي منه في وجه خاص، لوقف على شيء من هذا... ولوجد أيضاً"أصولاً"و"ركائز"لهذا الاتجاه/ التوجه قد تشكلت في الثقافة العربية الحديثة منذ اكثر من نصف قرن، في توجهات بعض الدارسين العرب الى دراسة الأدب ونقده من وجهة اجتماعية، وكذلك من الوجهة النفسية. فالنقد الثقافي ليس بجديد على ثقافتنا العربية من ناحية اجرائية. كل الجديد فيه هو"المصطلح". أما محتوى المصطلح فسابق على وضعه"توصيفة"في ثقافتنا العربية.