في أول أيام تكوّن الدولة العراقية المعاصرة في عشرينات القرن الماضي، هزت سكرتيرة المندوب السامي البريطاني"مسز بيل"، الصورة التقليدية عن قدرات النساء وقيمة تأثيرهن في العمل العام، صورة كانت ترسخت لدى قطاعات عريضة من المجتمع العراقي الخارج لتوه من حكم عثماني ابقى البلاد تحت رحمة تخلف مريع. وبلغ تأثير سطوة المرأة الإنكليزية تلك حداً جعل العراقيين يطلقون عليها لقب"خاتون"الذي كان متداولاً بينهم ويشير الى السيدة المحترمة، في اشارة تقدير منهم الى امرأة استطاعت السيطرة على رجالات النخبة السياسية. هذه المرأة التي لعبت دوراً حاسماً في تأسيس الدولة العراقية، عندما نجحت في الاطاحة بالمرشح العراقي طالب النقيب وفرضت الملك القادم من الحجاز فيصل الاول. هذا"الإختراق"النسوي لعالم ظل رجولياً بامتياز، ولّد اسئلة لدى ذهنية محلية استفاقت على قوة انثى قادرة على تحديد مسار بلاد بأكملها. وما كانت تلك الإسئلة الا مجموعة من الإجراءات اتخذتها المؤسسة الحكومية الناشئة والنخب المثقفة، ومعها بدأت المرأة العراقية تخرج للتعلّم والعمل لاحقاً. النهضة الحديثة التي عاشها المجتمع العراقي منذ مطلع القرن العشرين، عملت على تخليص المرأة العراقية من عزلتها التي دامت قروناً عدة، ودفعها الى مشاركة الرجل في الحياة العامة. وبحسب مجلة"ميزوبوتاميا"العراقية الصادرة حديثاً في اكثر من لغة ، هناك مدارس افتتحت على نطاق واسع بعد قيام الدولة العراقية المعاصرة واعلان دستورها في العام 1924، فضلاً عن مدارس اوروبية. وكانت تنفتح على بنات العوائل العراقية المعروفة مثل"مدرسة الاليانس"في بغداد، وهي التي تأسست في العام 1905 لتكون اولى المدارس الحديثة للبنات. واذا كانت عشرينات القرن الماضي وثلاثيناته شهدت اولى موجات النهضة في العراق، فإن مرحلة نهاية الحرب العالمية الثانية شكلت فعلياً قطاف الثمار وتاريخاً حقيقياً لخروج المرأة العراقية الى الحرية. وثمة ريادة لافتة في مجالات عدة حققتها المرأة العراقية بعد العام 1945، ففي الأدب والشعر تحديداً، نجد الشاعرة سافرة جميل حافظ، والشاعرة رباب الكاظمي التي ولدت في القاهرة وورثت الشعر عن ابيها الشاعر عبدالمحسن الكاظمي. وقريباً من الشعر واجوائه التي كانت تحض على الحرية الإجتماعية وتحديداً في ما يخص المرأة، نجد سيدة المجتمع المثقفة سلمى عبدالرزاق التي تزوجت في سن مبكرة من صادق الملائكة، ليقدما الى الثقافة العراقية والعربية رائدة في تحديث الشعر والثقافة الشاعرة نازك الملائكة المولودة في بغداد في العام 1923 . من اجواء المجتمع الراقي هذا، جاءت الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي التي ولدت في بغداد عام 1924، وتخرجت في دار المعلمين العالية عام 1945 ثم حصلت على الدكتوراه من السوربون في باريس. وفي حين تكتظ سنوات النهضة النسوية في العراق بالكثير من المعلومات حول الرائدات العراقيات، الا انه من اللافت العدد الكبير من الكاتبات والناشطات اللواتي اصدرن صحفاً متخصصة بثقافة النساء. فأول مطبوع نسوي"مجلة ليلى"صدر 1923 وكانت السيدة بولينا حسون رئيسة تحريره. أضف الى ذلك مجلة ذات طابع تربوي وعظي يحاول ان"يحرض المرأة للحصول على حقوقها وتعليمها". وفي عام 1936، اصدرت السيدة حميدة الأعرجي مجلة"المرأة الحديثة". وكانت تدعو الى تحطيم القيود البالية وعدم التفريق بين الرجل والمرأة. وفي العام ذاته، اصدرت حسيبة راجي مجلة"فتاة العراق"، ومحررتها سكينة ابراهيم كانت تدعو الى التجديد واطلاق الأفكار الجريئة وتشكيل"برلمان نسوي"ودعم نضال المرأة في العالم ودعوة النساء للعمل مع الرجل جنبا الى جنب. وفي حين كانت ملامح النهضة النسوية اكتملت في سنوات النظام الملكي، الا ان السنوات التالية العهد الجمهوري حملت خطاً متصاعداً من الريادة، فالوزيرة العربية الأولى كانت العراقية نزيهة الدليمي التي اشتهرت في ميدان الثقافة والعمل العام وتسلمت حقيبة البلديات 1959-1962 . ومع استعادة ايام"الريادة النسوية"الخوالي في ثلاثينات القرن واربعيناته، تجد مثقفات وناشطات من النساء العراقيات انفسهن وهن محاطات باجواء ملبدة بسبب تهديدات قوى سياسية واجتماعية اصولية مسلحة. ولا تنتهي بإشاعة جو من القيم المحافظة حتى بين اوساط تعتبر الى حين حاضنة طبيعية لدعوات الحرية واشاعة قيم المعرفة، وهي اوساط الشباب الجامعي. وما يوفر نوعاً من"الضمانة"لإبقاء الجهد الريادي لنساء بدأن منذ اكثر من ستين عاماً الدفاع عن حرية المرأة وحقها في المشاركة في بناء المجتمع، هو وجود قانون ادارة الدولة الدستور الموقت حالياً الذي الزم القوى المنضوية في بناء العراق سلمياً بأن تخصص 25 في المئة من مرشحيها الى الإنتخابات العامة من النساء. غير ان هناك ناشطات نسويات من احزاب علمانية ومسؤولات حكوميات يشككن في تلك"الضمانة"متسائلات:"أي قيم ستبشر بها نساء يخضعن للسطوة الرجولية في احزابهن الدينية المحافظة"؟