بعد ان طوّفت حنان الشيخ في فضاءات لبنان الملتهبة بنيران الحرب الأهلية، وفي اجواء تمتد من السعودية الى إيطاليا ولندن، تعود في روايتها الأخيرة"حكايتي شرح يطول"دار الآداب، إلى رحم السرد والتخييل، الى قصة امها لتتقمّص شخصيتها وكلامها وما حكته لها عن حياتها المتفرّدة وتصوغه في سيرة ذاتية ترويها الأم الأمّية وتكتبها حنان المفتونة بالتي اعطتها الحياة وجعلتها، كلما فكّرت بها"تبتسم وتضحك". وهي سيرة ذاتية تمتد من طفولة الأم"كاملة"الى ما بعد موتها، لأن صوتها يأتينا ايضاً من وراء القبر ليصف الجنازة وحزن الأسرة والأصدقاء، ويسترجع مراحل تكوُّن هذا النص عندما كانت حنان تُنصت إليها"وتخطّ في دفاترها الصغيرة التي تشبه المفكرات التي أُلصقت عليها الصور: ومنها صورتي وأنا أتسلّم كأساً فضية عندما تُوجتْ احدى بناتي ملكة الرقص". هي، إذاً، سيرة عن الطفولة الدائمة ل"كاملة"التي زُوّجت وهي في سن الرابعة عشرة، وظلت محتفظة بروحها الطفولية المرحة، الساخرة، لتتمكن من مواجهة العالم الخارجي الممعن في غباوة التقاليد وسطوة الذكورية... كتابة تستظل بالطفولة ولُغتها، وبكلام الأم الحيوي وروحهه المرحة، فتعطينا نصاً آسراً يطفح بالبهجة ولذة الاستكشاف. يأتي السرد من خلال صوت الأم كاملة ومن خلال فصول معنونة بعبارات مستمدة من لغة الكلام الدارج، مثل"والله انك بتخيَّطي فستان للبرغوت"، أو"بتبكي مشان تروحي عالسينما وبترجعي من السينما عم تبكي"... ويظل السرد، في جزء كبير، قريباً من لغة الحكي الشفوي مستثمراً مقاطع وقصائد كان محمد، عاشق كاملة ثم زوجها الثاني، يكتبها بالفصحى ذات النفحات الجبرانية، وكأن التعبير عن عاطفة الحب مرتبط اساساً باللغة الغنائية الرومانسية. تحكي كاملة عن طفولتها في النبطية، وعن محنة امها مع زوجها الأول وعن بيروت العام 1934 عندما رحلوا إليها من الجنوب... وهي طفولة يحاصرها الفقر الى حد ان كاملة تتمنى ان تشحذ لتحظى بقليل من الحلوى والدبس! في بيروت، تتكشّف لها الحياة في تجلياتها المتنوعة، المسلية، وبخاصة افلام السينما المصرية التي استولت على لبّها. وعلى رغم الرقابة القاسية التي يفرضها عليها كل من زوج شقيقتها المتزمّت وشقيقها العابس، فإن كاملة عرفت كيف تتسلل الى مشاهدة"الوردة البيضاء"و"رابحة"و"يحيا الحب"...، لتجعل من شخوص هذه الأفلام وحواراتها وأغانيها فضاء موازياً تنفّس به عن كبتها وتنسى من خلاله المناخ الديني المتجهّم الذي يقهر رغباتها. ومن خلال الجارة، فاطمة الخياطة، تعرفت إلى الشاب محمد الذي كان يدرس في بيروت ويحب السينما مثلها. نشأت بينهما عاطفة حب جارفة، إلا ان موت شقيقتها جعل العائلة تُرغم كاملة، وهي في سن الرابعة عشرة، على ان تتزوج من زوج شقيقتها البخيل، المنغلق على ذاته والمنصرف الى تجارته... كانت ثمرة هذا الزواج ابنتين: فاطمة وحنان، لكن كاملة استأنفت علاقتها مع حبيبها محمد المتيّم الذي ألح عليها ان تطلب الطلاق ليتزوجها هو. وكانت اخبار لقاءاتهما الغرامية انفضحت، فلم يجد الزوج بدّاً من تطليقها، فتزوجت من محمد وولدت معه خمسة اولاد وبنات، متحملة التقشف وضغط التقاليد... بين إشراقات زواج الحب وعتمات الملل والشك، ظلت كاملة متلألئة بمرحها وسخريتها وتعلقها بالغناء ومشاهدة الأفلام. إلا ان الموت اختطف زوجها وحبيبها محمد، فتابعت الرحلة وحدها ناشرة الفرح والدعابة بين جاراتها وأفراد عائلتها. وفي الأثناء، تحسّنت علاقتها بوالدها وبابنتيها فاطمة وحنان، وسافرت الى اميركا لزيارة ابنها... ما مِنْ شيء يوقف إقبالها على الحياة لولا السرطان الذي تسلل الى جسمها الصغير في غفلة منها، فسهرت حنان على علاجها الى ان غادرت الحياة، لكن صوتها ظل يحكي، من وراء القبر، حزنها على فراق الأهل والأحباب... في هذه السيرة الذاتية المكتوبة عبر الحكي الشفوي وشذرات من رسائل محمد الى كاملة، وعبر المعايشة والتخييل، تحتل شخصية الأم بؤرة الدائرة التي تنداح منذ ثلاثينات القرن الماضي الى نهايته، لتلامس تجربة امرأة استطاعت، على رغم أميتها وقسوة بيئتها، ان تلتقط نبضاتٍ ولحظات دالة في مسارها الخاص وفي علائقها بالمجتمع المنغمر في تحولات متسارعة. لم تمنعها الأمية من ان تستوعب تعقيدات العلائق البشرية وثقل التقاليد والجمود الديني. من هذا المنظور، يمكن القول إن كاملة أنموذج للمثقف الواعي، المتخلق من صلب التجربة والإحساس والحدس. كانت، في سلوكها ومواقفها، تستند الى منطق الحياة وإلى طاقتها الداخلية التي تحثّها على التحدي والمغامرة. كان من بين افراد عائلتها من يفرض الوصاية على المرأة ويشيّئها ويقمعها باسم قيم موروثة جامدة. وكانت كاملة تحس ان الحياة تستحق ان تعاش من خلال علائق الحب والغناء والمرح والسخرية. وقد وجدت في افلام السينما المصرية جسراً ربطها برحابة المتخيَّل، وعوَّضها عن سجن البيت وأعباء الزوجية:"افكر لو أهرب فأدخل السينما ومنها الى الشاشة حيث اعيش مع الممثلين الذين كانوا يتحدثون في الفيلم بكل رقّة، وينشغل بال معظمهم على البعض الآخر، وأتأكد من انهم من طينة اخرى لأنهم ذهبوا وتعلموا في المدارس". وعندما تعرفت الى محمد الطالب الرومانسي، لم تتردد في الاستجابة للرغبة المكبوتة في اعماقها والتي كانت تعيشها فقط من خلال مشاهد سينمائية. لذلك استمرت تحبه حتى بعد زواجها القسري، غير مبالية بتهديدات الزوج والشقيق العابس، ولا باتهام الناس لها بالخيانة الزوجية... اختارت الحب والحياة متحدية الجلاد والقيود - على حد تعبيرها - فاستطاعات ان تسترجع حريتها وأن تفرض على اسرتها المحافظة زواجها من حبيبها محمد. إلا ان ما يميّز تجربة"كاملة"، هو انها لا تتقصد الدفاع عن"قضية"او الانتصار لمبادئ معينة، وإنما هي، بذكائها وحساسيتها، تتجاوب مع الحياة في تفاصيلها ومفاتنها، مترجمة حبها للناس من خلال حرصها على ان تنشر المرح حولها محتفية باللحظات المضيئة وسط عتمات الاكتئاب والبؤس، من ثم، ينبض استحضارُها للشخوص بالحيوية والمتعة، على نحو ما يُطالعنا وهي تتحدث عن خالتها التي تزعم انها بلعت فرخَ الحيّة المستقر في بطنها:"... وصار يكبر ويكبر... عم يلفّ ببطني بدّو يطلع"، وكانت قد جربت جميع الوصفات للتخلص منه حين كانت في الجنوب،"قليت بيض بالسمنة الحموية، بعت كيس برغل مشان شوية سمنة... وفتحت تمّي حتى تشم الحية البيض والسمنة المقلية وتطلع. ومسكتْ حجر، ومقصوفة الرقبة تحركت وتحرّكت، وصلت لزلعومي وغيرت فكرها... معلوم تغيّر فكرها ما زالها عم تشرب وتاكل في بطني على باب المستريح". يحفر الحوار، بلغته العامية الجميلة، اخاديد في مخيلة القارئ ويضيء مراحل الانتقال التي عرفها لبنان اجتماعياً او في لحظات التوتر والاحتراب مثل سنتي 1958 و1975 ... وكل ذلك يأتينا عبر السخرية والمشاهد الفكاهية ومن دون قصدية اخلاقية؟ بل نجد كاملة تسخر من احد اخوتها فتسميه"شقيقي العقائدي". وحتى بعد موت زوجها الثاني ومواجهتها الوحدة والفقر، لم تكف عن مرحها، ولم تقلع عن كرمها وإقبالها على المتع المتاحة... كأن كاملة نهر متدفق يعرف كيف يتحايل على الحواجز والعقبات ليتيح للذات ان تحقق رغباتها وتظل في دائرة الفرح والاستمتاع. وامتداداً لمنظور هذه القراءة، نجد ان صاحبة السيرة الذاتية تفتحها على بعدَي الحاضر والمستقبل من خلال تصالحها مع ابنتيها فاطمة وحنان اللتين اهملتْهما عندما تزوجت من حبيبها محمد. ويتخذ هذا التصالح امتدادات ابعد عبر حواراتها ومناجاتها مع ابنتيها حنان التي اصبحت روائية تعبر عن مشاعر تحرك وجدان امها:"كلما تكلمت حنان كشفتْ لي عن نفسي، وعرفتُ ان الحاضر هو الماضي من غير ان أدري، كأنني أتلبّس شخصيتها وأصبح هي"، أو تخاطبها في رسالة أكملت كلماتها:"... وسمعت كلامك العذب الرنان، فاسترجعت جمالي من جمالك، واسترجعتُ ذكائي من ذكائك والشجرة العارية تُنبت من جديد اوراقاً لامعة". عند هذا المستوى، يتداخل مساران، وتتعانق حياتان: حياة الأم الأمية وحياة حنان الروائية التي تعيد كتابة ما روته"كاملة"متذكرة ومتخيلة مشاهد ماضيها. يغدو النص - نتيجة لذلك - كأنه كتابة على كتابة وتخييل على تخييل، وامتزاج للماضي بالحاضر، وتآلف بين صوت الابنة وصوت الأم. ولعل هذا ما يجعل حنان تخاطب امها قائلة:"لو علّموك كنتِ أنتِ الكاتبة مش أنا". ان هذا"التضعيف"لمحكيات السيرة من خلال الصوغ الروائي هو عنصر جمالي وتخييلي في آن ويُضفي على"الوقائع"ابعاداً إضافية، او كما تقول كاملة عن علاقتها الغرامية بمحمد:"وكنتُ اعيش في هذا النعيم الذي يُغدقه عليّ الله مرتين: مرة وأنا ألتقي محمد بشحمي ولحمي، ومرة اخرى وهو يكتب عن لقاءاتنا فور وصوله الى بيروت ليلتقي بي ولو على الورق". تروي الأم ما عاشته لابنتها، وتقرأ حنان ما كتبه محمد مستحضرة علاقتها بذلك المسار، ثم تكتب سيرة ذاتية للأم فتأتي متعددة الزوايا والأصوات واللغات، متلألئة بحضور"كاملة"الكاسح الذي يُشعرنا بأن ما عاشته كان اقوى من التخييل، وأكثر إقناعاً من كل حبكة او مفاجآت: فعندما يتحقق حب الحياة في الأعماق، كأنما مالك هذا الحب هو اقوى من مكائد الدهر والبشر. وأعتقد بأن حنان الشيخ، بعودتها الى علاقتها بهذه الأم الفاتنة إنما تعود الى رحم الحكايا وأصل الحياة، الحياة التي تتخطى في تجددها كل البدايات و"الأصول"، مؤشرة على استمرارية الفعل البدئي الذي يوهمنا - لحسن الحظ - بقدرتنا على استعادة الزمن الضائع كلما غمسنا الريشة في المحبرة التي تقول عنها كاملة:"ان المحبرة كالبئر داكنة وما تخطه الريشة يشبه المسامير على الورق". لكن مسامير حنان الشيخ تبعث النشوة وتُغرينا بالاستسلام لعالم الأم الشجاعة ذات الكينونة الشفافة والحب المطلق لكل ما يمت بصلة الى الحياة.