تماماً كما يصعب على المرء أن يصدق أن ذلك الشاب الأبدي المولع إلى حدّ الجنون بالسينما والحياة متضافرتين معاً، رحل عن عالمنا وهو في الرابعة والسبعين من عمره، كذلك ليس من السهل إطلاقاً تصديق أن محمد خان غاب إلى الأبد. صحيح أن في إمكاننا من أجل تصديق ذلك أن نلجأ إلى تلك العبارة الشهيرة التي تقول إن الشعراء، ومحمد خان كان منهم على أية حال، لا يموتون أبداً إذ تظلّ «قصائدهم/ أفلامهم» محوّمة هناك في كل ميدان عام، غير أن هذه المقولة تظل ناقصة في ما يتعلق بمبدع كان هو، جسدياً وروحياً وعملياً ونظرياً، جزءاً من سينماه، وكانت هي شديدة الالتصاق به، بل كانت قرينته، إلى درجة لم يحتج معها إلى أن يحقق فيلماً عن سيرته الذاتية، وإلى حد نُذِر معه ابنته وابنه للفن السابع وكانت زوجته كاتبة سيناريواته. يصعب علينا أن نصدق نبأ رحيل ذلك الشاب المبتسم أبداً، المتكلم في شكل متواصل عن السينما وعن مشاريعه التي تملأ رأسه، والمحب للحياة والمرح إلى درجة أنه كان ما إن يراك بعد غياب وقبل أن يروي لك آخر فكاهات الموسم، ومنها ما كان يبتكره بنفسه، يسألك عن آخر ما شاهدت من أفلام، إنما من دون أن يعرف منك ما إذا كنتَ شاهدت فيلمه الأخير. فبعد كل شيء كان محمد خان مسكوناً بتواضع من الصعب ملاحظته، إلى جانب انسكانه بابتسامة دائمة تتأرجح بين الحنان والسخرية، لم نلحظ غيابها لدقائق إلا في العام الماضي، حين أُخبِر برحيل الصديق الناقد مصطفى مسناوي في القاهرة قبل ساعات. حينها غابت ابتسامته الأبدية وطفرت من عينيه الوديعتين تلك الدموع التي اعتدنا أن نشاهدها حين يغرق ضاحكاً حتى الجنون على آخر نكتة. محمد خان المولود عام 1942 في القاهرة لأب من أصل باكستاني ولد بدوره في القاهرة، التي ضنّت عليه بجنسيتها إلى عامين خليا هو الذي حقق المتن السينمائي الأكثر حباً لمصر ودفاعاً عنها في تاريخ السينما المصرية كلها، لم يبدأ حياته سينمائياً بل دارساً للفن المعماري في لندن، حيث اكتشف روعة السينما من خلال ارتياده الصالات العارضة لكل ما هو طليعي من أفلام الستينات التي أعطت الفن السابع خير وأقوى ما عرفه في تاريخه. لاحقاً اكتشف خان أن بإمكانه هو أيضاً أن يكون سينمائياً، وقصد بيروت حيث عمل مساعداً لفاروق عجرمة ثم سيف الدين شوكت وغيرهما من مصريين كانوا يعملون في لبنان، قبل أن يعود إلى لندن مرة أخرى دارساً للإخراج السينمائي ولكتابة السيناريو هذه المرة، وممارساً للكتابة بالإنكليزية حول بعض تاريخ الفن السابع. وهو بعد عودته إلى مصر، انصرف كلياً إلى إخراج وإنتاج وكتابة سيناريوات أفلام سينمائية سرعان ما استحوذت على مكانتها كتجديد أساسي في سينما مصرية كانت وصلت إلى دروب مسدودة. طبعاً، لم يكن محمد خان في ذلك، وحده، بل كان ضمن إطار ذلك التيار الذي أبدعه جيل وُلد بداية سنوات الثمانين وأطلقنا عليه اسم «جيل صلاح أبو سيف والشارع والكوكا كولا»، تكوّن منه ومن عاطف الطيب وعلي بدرخان وخيري بشارة ورأفت الميهي وداود عبد السيد، إضافة إلى مصورين كمحسن الشيمي ومونتيرة كناديا شكري. صحيح أن هؤلاء وبمساندة من جيل جديد من منتجين يمثله حسين القلا، أبدعوا معاً متناً سينمائياً مدهشاً (نعود إليه في ملحق الجمعة المقبل من «الحياة»)، لكن محمد خان كان بالضرورة الأكثر دينامية بينهم والأكثر تحريكاً لهم، يكتب لهذا وينتج لذاك ويدافع عن أفلامهم، في الوقت الذي يحقق فيه متناً سينمائياً قل نظيره في السينما المصرية المعاصرة... متناً ظلّ يواصل إبداعه حتى لحظاته الأخيرة ومن علاماته «الحرّيف»، «أحلام هند وكاميليا»، «سوبر ماركت»، «خرج ولم يعد»، «زوجة رجل مهم»، «أيام السادات» وغيرها وصولاً إلى «في شقة مصر الجديدة» و «فتاة المصنع» وأخيراً قبل شهور قليلة «قبل إجازة الصيف»... وكلها أفلام تعبق بالحياة والسينما، أفلام علّمت متفرجيها، وكنّا دائماً بينهم، حب الحياة وحب السينما اللتين ستفتقدان مُحبّاً كبيراً للحياة والسينما معاً.