لا غيرةً من اتساع التضامن الدولي وقوته، ولا ضيق عين بالمساعدات السخية، وانما بحثاً عن حل قد ينجح حيث فشلت بقية الحلول. ذلك ان المجتمع الدولي أثبت قدرته على الفعالية وعلى الغيرية وعلى التسابق على الخير. وأثبت ان الفوارق، وايضاً الخلافات، يمكن ان تذوب في سياق هبة الرجل الواحد التي نشهدها منذ وقع تسونامي المحيط الهندي في الأيام الأخيرة من العام المنصرم. فالمؤسسات الدولية تعمل معاً وجنباً الى جانب مع الجمعيات والهيئات المدنية العالمية التي نسّقت هي الأخرى جهودها معاً. كما يظهر الانسجام ذاته على مستوى كل التقاطعات الممكنة، بين الدولي والمحلي، وفي ما يخص المحلي نفسه، وبين المدني والعسكري، وبين البيئي والانساني والسياسي، وبين المتخاصمين، بل بين أعداء متحاربين حتى أمس قريب، وربما غداً... وهكذا الى آخر الاحتمالات الحسابية المتعاظمة، والى ما يشمل معاً جنوداً أتوا من المكسيك للمساعدة الانسانية، يعملون الى جانب أطباء من الأردن ويستعينون بآليات أرسلتها اليمن، الى آخر تفاصيل اللوحة البهيجة. لا غيرة ولا حسداً ولا ضيق عين، لكن اسئلة تخاطب محركات البشر ومرتكزات وعيهم. وأولها ذاك الذي يتعلق بالفارق بين درء أذى الطبيعة والتصدي لأذى البشر. أي المهمات أسهل، وأيهما اكثر شرعية؟ لعل المسألة الفلسطينية هي من التعقيد والتشعب ما يُصعّب مقارنة ما تقترفه اسرائيل بكارثة التسونامي... على رغم اجتماع عناصر الكارثة في ما تقترفه من تدمير وتهجير وقتل. فإن عدنا الى المقاربات الحسابية واعتمدنا النسبة السكانية، لكانت أعداد الفلسطينيين المصابين بأذى اسرائيل أعلى من أعداد ضحايا تسونامي! سيقول قائل ان الأمر هنا يعود الى السياسة، وهذه تحتمل وجهات نظر يمكن ان يضيع في خضمها الفرز الدقيق بين المجرم والضحية، أو أقله، بداهة ادراك ذلك. اذ يفترض ان لا أحد يمكنه ان يتسلى بإيجاد مبررات لتسونامي، أو يحتار في الجانب الذي ينحاز اليه، سوى حفنة من معتوهي"الأخروية"الذين يرون في تسونامي احدى العلامات، أو يرون، فيها عقاباً مستحقاً للبشر. وما خطر في بال احد مقارنتهم ب"أخرويين"سواهم، ممن لا يمكن نعتهم ببساطة بالعُته، أقله لأنهم يمسكون بأعتى السلطات، على رغم انهم يدرجون معتقداتهم تلك، ولو ضمناً، كمبررات من ضمن سواها لانحيازهم المطلق الى اسرائيل، كما يجرأون، ولو مواربة، على تبرير الحرب على العراق، أو بعض دوافعها على الأقل، بنظرتهم الدينية تلك، فيختلط الدجل بالتقوى المدّعاة، ولا يصيب التقديس المنشود الا الامبراطورية التي يبنون. حسناً، لنترك جانباً فلسطينوالعراق والحالات التي تفسد فيها السياسة العواطف ووضوح الرؤيا. ولنعد الى كوارث الطبيعة وليس البشر. تسونامي ليس أكثرها شراً. فمنذ أمد ليس ببعيد، منذ بضع سنوات، وليس في القرون الغابرة المحكومة بشروط اخرى، حدث اعصار في بنغلادش، قريباً من تلك الشواطئ التي نراها اليوم منكوبة، أودى بحياة عدد مشابه لعدد ضحايا تسونامي. كان ذلك عام 1991. ولعل العالم لم ينتبه ولم يحرك ساكناً وقتها لانشغاله بحرب الخليج الأولى الثانية، اذا ما اعتبرنا الحرب العراقية - الايرانية التي أطاحت حياة أكثر من مليون ونصف مليون آدمي، لكننا قلنا اننا لن نلتفت الى الكوارث الناجمة عن السياسة. بنغلادش الفقيرة تلك كانت قد شهدت إعصاراً قبل هذا، عام 1970، بلغ عدد ضحاياه أكثر من ثلاثمئة ألف انسان، أمواتاً، عدا الجرحى والمشردين والمرضى بعد ذلك. مات ضحايا بنغلادش في المرتين - على الأقل- دون ضجيج، ولم يتحرك ضمير العالم ولا إرادته ولا خزائن المقتدرين فيه، حكومات ومؤسسات. ألا يعني ذلك ان البشرية، لحسن الحظ، تتحسن وتتقدم!؟ أو، وسعياً لتجنب الاطلاق، لعل ذلك يعني ان البشرية تحتاج الى أعمال خير توازن بها الشر الكثير الذي يخنق أنفاسها، فلو"خُليت قُلبت"، مما قد يجبر"الأخرويون"على الانتظار قليلاً! إلا انه، ليس رغبة في إفساد التفاؤل، وليس انطلاقاً من دوافع سوداوية، لا يمكن تجاهل العطب العميق في النظام العام القائم - الفكري والقيمي والسياسي والاقتصادي - والذي يجعل الرضا اشتراكاً في جرائم أخرى أو حجباً لها، كما يجعل الممكن الذي ظهر مع ردة الفعل على تسونامي مثالاً يمكن الاعتداد ببعض جوانبه لتحفيز أو استنباط المزيد. إذ لا يمكن تجاهل الكوارث الأخرى التي تجري في الوقت عينه الذي عصف فيه تسونامي، سيما وأنها أكثر عنفاً من هذا الأخير. مثال واحد هو استفحال مرض الايدز في القارة الافريقية، حيث توفي في العام المنصرم أكثر من مليوني شخص نتيجة الإصابة به: في عام واحد وفي افريقيا وحدها. والمرشحون للموت في السنوات الخمس المقبلة عدة ملايين، خصوصاً أن اطلاق الحلقة الخامسة من البرنامج العالمي لمكافحة هذا المرض قد تعرقلَ بسبب جو عام من التقاعس، تقوده الادارة الأميركية، التي قررت تجميد مساهمتها في العملية بحجة الحاجة"لترتيب البيت"قبل توقيع التزامات جديدة. والحق ان هذا التوقف يحدث في اللحظة التي بدأ فيها البرنامج العالمي يعطي ثماره، وهو يحدث لمصلحة برنامج خاص بالرئيس بوش لا يقل كلفة عن البرنامج المشترك، وانما يستند الى الكثير من الوعظ الأخلاقي بدلاً من الأدوية المجانية... وهو، بوش وليس أنا، من يخلط بين الكوارث والسياسة والأفكار! وقد اطلقت الجمعيات المدنية المختصة، بل حتى المسؤولين في الأممالمتحدة، كل الصراخ الممكن، وكان ذلك قبل شهر بالتمام من تسونامي. إلا أن الصمم واللامبالاة كانا الجواب. في مواجهة ردة الفعل على مرض الايدز الذي يفتك بالأكثر فقراً، قيل تماماً، وعلى طول الخط، ما يناقض الأقوال التي قيلت في مديح العالم بإزاء تسونامي. فهل على الأفارقة، هم أيضاً، اشتهاء تسونامي ليأملوا ببعض الانقاذ؟ سوى انه يجب أن يمتلكوا شروطاً أخرى: شواطئ جميلة موجود بنيت عليها منتجعات تجتذب السيّاح الاجانب يجب زيادتها بسرعة وان يحدث تسوناميهم في فترة اكتظاظ بالمواطنين السويديين والألمان وسواهم، وان يموت بعضهم ويصور الناجون المشاهد، فتمر بلا انقطاع على شاشات التلفزة العالمية، تسلي المشاهدين وتتمكن من إثارة ارتعاشة خوفهم، وفي الحين نفسه سعادتهم لاختلاف أحوالهم عن هؤلاء المساكين، ويجب توفر شروط أخرى ايضاً، كوجود قوتين عظميين محتملتين قرب تلك الاصقاع، شيء كالصين والهند معاً، تنافسهما على تحسين بهاء الطلعة وتوفير شروط العالمية بما فيها مقعد دائم في مجلس الأمن تلك المعجزة المسماة اليابان! وبعد هذا وذاك، يستحسن ان تتم ترجمة التضامن بسرعة، لأن النفس الطويل يعوز النيّات الحسنة، ولأن هناك فارقاً بين القول والفعل، وهو ما خبرته ايران قبل تسونامي بعام يوماً بيوم، حين واجهت كارثة زلزلال بام، اذ لم يصل من البليون دولار الموعودة الا سبعة عشر مليوناً. ثم هناك الحذر من الاستعراضية الذي يجب ان يتخذه المرشحون لتسونامي مشتهى. فالكثير الكثير مما يظهر مع تسونامي الحقيقي ينتمي الى الظواهر السريعة الزوال. فها ان رجاحة العقل عادت لتضبط ايقاع الحماسة، وبات من غير البديهي أبداً ان تلغى ديون تلك البلدان، بل راحت أسماك القرش المالية تفكر بكيفية جني الأرباح من اعادة جدولة الديون وما يتبعها من تراكم فوائد خدمة الدين، مع أن الغاء 80 في المئة من دين العراق لم يتطلب تحقيقه منذ أشهر قليلة كبير جهد من الولاياتالمتحدة. لا يوازي كل الواقعية الباردة هذه الا حرارة التضامن الأصيل والعفوي بين فقراء تلك البلدان المنكوبة، والذي انتزع إعجاب المتطوعين الدوليين الذين تسنى لهم مشاهدته يفعل فعله على الأرض... لا يوازيها سوى مشهد التلامذة العائدين الى مدارسهم في سريلانكا المصابة. بنات وصبيان في غاية النظام والترتيب والنظافة، يرتدون بذلاتهم المدرسية الناصعة البياض والمزدادة ألقاً بالتضاد مع الجو الطيني المحيط. سريلانكا أعادت سريعاً أبناءها الى المدرسة. في هذا البلد الذي نستورد منه الخدم ونعاملهم كالعبيد تبلغ نسبة المتعلمين 90 في المئة من السكان! يحتل المرتبة السادسة عالمياً في مجال التعليم، بما في ذلك في نسبة توفر المعلمين لتلامذة المرحلة الابتدائية. يعني كل ذلك، بعجره وبجره، ان زلزالاً كتسونامي يجب أن يعصف بالنظام القيمي في العالم، فيعيد ترتيب الخيارات، بما فيها تلك التي دمرت حمايات الشواطئ الطبيعية من أجل المنتجعات وحقول تربية الروبيان وسائر الاستثمارات، وسهلت عمل تسونامي.