إن دعم المجتمع الدولي للمناطق المتضررة من كارثة تسونامي يجب أن يبقى حاضرا وفاعلا من أجل إزالة ما يمكن إزالته من أوضاع كارثية.بيد أن الواضح من مجريات الأحداث أن العون المادي لتشييد البنى التحتية المدمرة لا ينساب بالصورة المرنة والفاعلة. وهو الأمر الذي يعني أن معاناة الضحايا سوف تمتد وتطول، وتجلب معها مضاعفات اجتماعية غير محسوبة. لقد دمرت كارثة موجات المد الزلزالي العاتية (تسونامي) قرابة 400 ألف منزل وشردت ما يربو على مليوني شخص وحرمت 1,5 مليون إنسان من مصدر رزقهم. وقتل واختفى في أسوأ كارثة طبيعية أكثر من 216 ألف شخص، فيما رفعت الأممالمتحدة عدد الضحايا إلى 223 ألف شخص على الأقل. وعلى الرغم من ذلك، فان المحصلة الحقيقية ستظل في طي المجهول، نظراً لعدم وجود سجلات دقيقة بتعداد السكان في المناطق المتأثرة، وكذلك بسبب اختفاء العديد من الضحايا في البحر. في الذكرى الأولى للكارثة، ألقى الرئيس الإندونيسي سوسيليو بامبانغ يودويونو كلمة بموقع قريب من المسجد الرئيسي بندا آتشه،وهو المبنى الوحيد الذي لم تدمره الأمواج، أكد فيها عزم بلاده إعادة إعمار منطقتي آتشه ونياس. « فالوقت حان للتطلع إلى الأمام». ربما كانت كلمات الرئيس الإندونيسي ضرورة تفرضها البيئة النفسية الصعبة للضحايا الأحياء، بل وعامة شعب إندونيسيا الذي لن ينسى الكارثة، بيد أن الواقع المعاش ينبئ بكثير من الأسى. فقد أفاد مسح حديث بأن معظم ضحايا تسونامي، الذين يعيشون على نظام الإعانات، ما زالوا يواصلون إقامتهم بمخيمات مؤقتة. وقد شمل الإحصاء الذي أجراه معهد «فريتز» المتخصص بمنظمات إغاثة اللاجئين وإمدادهم بالمواد التموينية 2300 شخصا ينحدرون من قرى تأثرت بشدة بأمواج المد في إقليم آتشه والهند وسريلانكا.ووجدت الدراسة أن 100٪ ممن شملهم المسح في آتشه ما زالوا يعيشون في معسكرات أو نوع من المأوى المؤقت الذي تديره الحكومة أو منظمات الإغاثة، بينما كانت النسبة في الهند 92٪ وفي سريلانكا 78٪. وحسب منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة (فاو) ، فان اهتمام المجتمع الدولي ودعم المانحين بضحايا تسونامي في آتشه قد يصل الى نهايته قبل استكمال عمليات الانعاش المستدام، التي تتطلب جهدا من خمس الى عشر سنوات. وتروي تقارير إعلامية أن عشرات الآلاف من طلبة المدارس في آتشه ما زالوا يعزفون عن الذهاب إلى مدارسهم بسبب الحالة النفسية الصعبة التي يعيشونها نتيجة لحجم الكارثة الهائلة التي ألمت بهم، إضافة إلى الأوضاع المعيشية التي ما زالت شاقة وعاصفة. وتشير مصادر منظمة الأممالمتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسيف) إلى وجود نحو 65 ألف طفل من الفئة العمرية بين 7 و15 سنة لا يذهبون إلى مدارسهم. وهو ما يشكل ما نسبته 8٪ من مجموع طلاب الإقليم في هذه المرحلة العمرية. وتقول اليونيسيف إن مشكلة حقيقية تكمن في عملية بناء المدارس، حيث لا تتوفر المقومات الأساسية لإتمام عمليات البناء في الإقليم، مثل الكهرباء وآليات إيصال المياه، وإن الكثير من الفصول المدرسية القائمة الآن هي عبارة عن خيام لا تتوفر فيها أدنى وسائل الراحة وظروف التحصيل. بل إن هناك الكثير من الحصص تعقد في العراء حيث لا تتوفر الفصول لجميع الحصص في اليوم الدراسي. وتشير مصادر السلطات المحلية في آتشه إلى أن كارثة تسونامي دمرت ما مجموعه 2225 مدرسة ، إضافة إلى رياض الأطفال، وما تم بناؤه خلال هذا العام لا يتجاوز 150 مدرسة مؤقتة، من أصل 400 مدرسة كان قد تم التخطيط لبنائها في هذه الفترة. ولقد كانت إحدى المهام المركزية التي حملتها الدول المتضررة من تسونامي على عاتقها، لتجنب تكرار الكارثة، قد تمثلت في بناء شبكة إنذار مبكر إقليمي لرصد الزلازل وموجات المد العاتية. بيد أن المهمة لم تنجز بعد.ولو حدث تسونامي جديد الآن فان حجم التداعيات الإنسانية والمادية التي سوف يفرزها لن تختلف كثيرا عما حدث قبل عام، إن كانت قوة الزلزال مشابهة. ومنذ وقوع كارثة تسونامي تقوم اللجنة الدولية الحكومية للمحيطات التابعة لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) بتنسيق الجهود من أجل إنشاء نظام إنذار مبكر ضد الزلازل والموجات العاتية في المحيط الهندي على غرار ذلك القائم في المحيط الباسفيكي.وحسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، فان شبكة من الاتصالات اللاسلكية لدعم هذا النظام ستكتمل منتصف العام القادم. بيد أن ما يجب الانتباه له هنا هو أن النقاشات بشأن أنظمة الإنذار المبكر لموجات المد العارمة قد ركزت على البرامج التقنية الأولية، في حين أن الإنذار المبكر يعني ما هو أكثر من مجرد إنشاء مجسات للمحيطات أو استخدام الأقمار الصناعية لمراقبة حركتها؛ وأكثر من توسيع شبكة الاتصالات، فالأمر لا بد أن يتضمن بناء شبكات هاتف واسعة وفعالة متاحة لعموم سكان المناطق المعرضة لخطر المد،وكذلك تأكيد وصول التيار الكهربائي لكافة القرى والأرياف المعنية،وتحسين شبكات الطرق بما يتيح فرصة حركة الإجلاء السريع الفردي والجماعي للسكان فور صدور الإنذار بالخطر، كما يتطلب الأمر توجيه أعمال البناء والتشييد بعيداً عن المناطق المعرضة لخطر المد ، وحث الشركات الخاصة على مواصفات بناء يراعى فيها طبيعة الأخطار القائمة. ولا ريب أن الدول التي تعرضت لكارثة تسونامي بعيدة بمسافة عقود من الزمن عن تحقيق هذه المتطلبات، خاصة إذا تعلق الحديث بدولة مثل إندونيسيا. وفي المجمل، يجب على الدول المعنية أن تجري تقييماً دقيقاً للمخاطر التي تواجهها، بما في ذلك تلك الناجمة عن تغير المناخ، والظواهر الجوية العاتية، والزلازل. والنجاح في إعداد مثل هذا التقييم يتطلب إنشاء وصيانة نظام رفيع المستوى يعتمد على المشورة العلمية عالية الكفاءة. وقد انتهى مؤخراً «معهد الأرض» في جامعة كولومبيا من إعداد تقييم عالمي للعديد من أنواع الكوارث الطبيعية، مثل الجفاف، والزلازل، والفيضانات، وذلك بالاشتراك مع البنك الدولي. وباستخدام طرق حديثة متطورة في جمع البيانات الإحصائية ورسم الخرائط، تمكن الخبراء من تحديد النظام الذي يحكم حدوث هذه التهديدات المتنوعة في كافة أنحاء العالم. وهناك خبراء في معاهد بحثية مختلفة يتولون إعداد تقديرات دقيقة لكيفية نشوء وتطور مثل هذه المخاطر في ضوء التغير الذي يطرأ على مناخ الأرض، والتغيرات الحادثة في الاتجاهات السكانية والأنماط التي تحكم ترحال واستقرار البشر على مستوى العالم. والحقيقة لابد من إنشاء وتمويل مراكز علمية صغيرة في المناطق المعرضة للكوارث. هذا علاوة على البعثات والمهام التي تلقي الدعم من بيئاتها المحلية. وقد تتمكن المناطق المعرضة للخطر من استحداث وتنمية الأساليب الملائمة ثقافياً للتعامل مع الكوارث التي من شأنها أن تؤثر عليها في الأغلب. فضلاً عن ذلك فإن الموهبة المحلية تنمو وتترعرع في بيئتها الأصلية على نحو أفضل. وتمتد المعاني الضمنية التي يحملها هذا التوجه إلى ما هو أبعد من مجرد تجنب الكوارث أو التقليل من أخطارها، ذلك أن المؤسسات العلمية النشطة تشكل الجذور التي تعمل على ترسيخ أي اقتصاد، ولن تشهد دول العالم الثالث أية تنمية حقيقة في غياب مثل هذه المؤسسات. ومن هنا فإن الاستثمار في العلوم المحلية يشكل دعماً مباشراً لإمكانات النمو في أي مجتمع، وهو استثمار يعود في النهاية على المستثمرين في هيئة تطورات جديدة في حقول العلم والمعرفة. من جهة أخرى، لا بد للدول المعنية من تأكيد حضور شركات التأمين في المناطق المعرضة للخطر، وبحيث تقدم هذه الشركات خدمة إدارة المجازفة على نحو يتميز بالحرفية ودقة التفاصيل، وتحترم مدى تعقيد المخاطر التي ينبغي صدها والوقاية منها، وتستجيب على نحو إبداعي للاحتياجات الفردية. وقد يبدو الترويج لإنشاء شركات تأمين خاصة وكأنه استجابة غير مباشرة لكارثة تسونامي، لكنها استجابة عقلانية وقوية. بيد أن شركات التأمين لم تنفذ حتى الآن إلى الكثير من المناطق التي تتحمل أشد الخسائر. وطبقاً لدراسة أجراها «معهد معلومات التأمين» في الولاياتالمتحدة، فإن الإنفاق على التأمين على غير الحياة في العام 2003 قد بلغ 0,83٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي في إندونيسيا، و1,19٪ في تايلاند، و0,62٪ في الهند، مقارنة بِ 5,23٪ في الولاياتالمتحدة. ولنتذكر أن كارثة تسونامي قد أدت إلى وفاة أكثر من 13,000 من صائدي الأسماك كما تم إجلاء الآف آخرين في سريلانكا وحدها، علاوة على خسارة 80٪ من أسطول صيد الأسماك أو تعرضه لضرر شديد. وطبقاً لتقرير منظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة فقد تسببت موجات المد العارمة في سحق 4500 من مراكب صيد الأسماك، الأمر الذي عرض مصدر رزق 120,000 نسمة من ساكني قرى صيد الأسماك هناك للخطر. والموقف في إقليم آتشه على نفس القدر من القتامة، وربما كان الأمر أكثر سوءاً في جزر المالديف، وفي جزر لاكاديفز، وأنادامانز، ونيكوبار، حيث لم تقتصر الخسائر على صيادي الأسماك وقوارب الصيد فحسب، بل تعرضت الموانئ أيضاً لخراب واسع النطاق. وعلى طول سواحل الولايات الهندية مثل أنديرا براديش، وتاميل نادو، دمرت موجات المد العارمة نحو 30٪ من قدرات مناطق صيد الأسماك. أما في موزمبيق، والصومال، وتنزانيا على الجانب الإفريقي من المحيط الهندي ،فان مصائد الأسماك هناك قد تعرضت هي الأخرى لأضرار شديدة. والمشكلة الجوهرية هي أن فكرة التأمين لا يمكن أن تخطر على أذهان إناس يعانون في الأصل من واقع معيشي مرير، ويكافحون لسد احتياجات يومهم. وفي الظروف المعيشية العادية، غير تلك السائدة لدى غالبية السكان في الدول التي تعرضت لكارثة تسونامي، فان فكرة التأمين لا بصورة طبيعية تلقائية لدى الغالبية من الناس. ولقد أثبت عالما النفس دانييل كانيمان وآموس تفيرسكي وجود ميل نظامي لدى الإنسان نحو التقليل من شأن الاحتمال المدرك لوقوع الأحداث نادرة الاحتمال، وعلى هذا النحو يمارس الناس حياتهم وكأن احتمالات وقوع مثل هذه الأحداث لا تتجاوز الصفر. وعلى نحو مشابه يميل الناس إلى قبول المجازفات الضخمة غير مؤكدة الحدوث من أجل تجنب الخسائر الصغيرة المؤكدة، مثل أقساط التأمين. إن دعم المجتمع الدولي للمناطق المتضررة من كارثة تسونامي يجب أن يبقى حاضرا وفاعلا من أجل إزالة ما يمكن إزالته من أوضاع كارثية.بيد أن الواضح من مجريات الأحداث أن العون المادي لتشييد البنى التحتية المدمرة لا ينساب بالصورة المرنة والفاعلة. وهو الأمر الذي يعني أن معاناة الضحايا سوف تمتد وتطول، وتجلب معها مضاعفات اجتماعية غير محسوبة. لقد قدمت مجموعة السبعة الكبار إسهاماً ملحوظا حين عرضت تخفيف ديون الدول التي لحقت بها الكارثة. ولقد كان هذا في غاية الأهمية بالنسبة لدولة مثل إندونيسيا، التي يتعين عليها تسديد فوائد دين بلغ 132 مليار دولار أميركي (سبعون مليارا من ذلك الدين اقترضت من جهات عامة أو ضمنتها هيئات حكومية). وحتى قبل كارثة تسونامي، فقد كان من شأن أعباء هذا الدين الضخم أن تشكل عقبة كبيرة أمام جهود تنمية الدولة التي كانت قد بدأت للتو في استعادة عافيتها الاقتصادية بعد الأزمة المالية التي ضربتها في العام 1997. وعلى أية حال، هناك حجة قوية لصالح مسألة تخفيف ديون إندونيسيا، وذلك إذا ما أدركنا أن قدراً كبيراً من الدين كان علي هيئة قروض تلقتها حكومة سوهارتو الفاسدة. وكانت الجهات المقرضة تدرك أو كان عليها أن تدرك أن تلك الأموال لن تخصص بالكامل للمساعدة على تنمية إندونيسيا. وعلاوة على ذلك، فقد اقترض بعض هذا الدين كجزء من أزمة 1997-1998، التي تسببت في وقوعها وأدت إلى تفاقمها السياسات الاقتصادية التي فرضها صندوق النقد الدولي. وفي وجه آخر من التداعيات الكارثية ، أصيبت الحياة البيئية وأنواع الكائنات الأخرى بأضرار بالغة جراء الطوفان البحري. ومما لا شك فيه أن الصور الفوتوغرافية ولقطات الفيديو التي بثتها أجهزة الإعلام قد أظهرت أشجاراً تكتسحها الأمواج وأراضٍي تغمرها المياه. كما تحدثت تقارير أخرى عن الحياة البرية التي أفلتت من الدمار، حيث يبدو وكأن نوعاً ما من الحس الغريزي قد حث تلك الحيوانات على اللجوء إلى أراضٍ مرتفعة قبل وصول موجات المد العارمة. ومع هذا فما زال الحجم الكامل للتأثير البيئي الذي خلفته موجات المد العارمة يفتقر إلى التقارير الشاملة، وذلك على الرغم من الأهمية الواضحة لهذه التقارير فيما يتصل باستعادة المناطق المتأثرة لعافيتها. وتؤكد الخبرات المتراكمة عن موجات المد المحيطية العارمة والفيضانات الكبرى الأخرى أن الدمار البيئي الذي تخلفه يرتبط بترسب المياه المالحة في الطبقات الجوفية وباختفاء الشواطئ أو تراجعها إلى الوراء. كما قد تتسبب موجات المد العارمة في جعل الجزر الصغيرة المنخفضة غير قابلة للسكنى. وقد تتعرض الحياة النباتية على مساحات هائلة من الأراضي المنخفضة إلى ضرر شديد. أما بالنسبة للحيوانات النادرة التي لا تتكاثر وتتناسل إلا في مواقع محددة فإن تأثيرات موجات المد العارمة قد تؤدي إلى انقراضها. كذلك، تفيد التقارير بان زيادة الطلب على أخشاب البناء في أعقاب موجة تسونامي قد أدت إلى تكثيف الضغوط، التي كانت لا تحتمل حتى قبل ذلك، على غابات سومطرة. وفي جزيرة سومطرة تقوم شركات تصنيع الورق ولب الأشجار بحملة مسعورة وغير قانونية لتدمير الغابات التي تحتوي على أكثر المجموعات المنوعة من النباتات ثراءً في العالم. بل ومن المحتمل أن تختفي من هذه الغابات نباتات لم تكتشف بعد، علاوة على الأنواع المعرضة لخطر الانقراض. وحين تختفي غابات سومطرة فإن تجمعات سكانية كاملة سوف تجد نفسها بلا مأوى ملائم للحياة أو سبيل لكسب الرزق.