ما الذي يهدف اليه التحقيق ويتغياه؟ أي لماذا نحقق الكتب والمخطوطات؟ وما الذي يمكن أن يقدمه التحقيق الينا ونحن على أبواب قرن جديد وألفية ثالثة وتحديات مصيرية؟ فهل يهدف الى طباعة الكتب التراثية ونشرها بعد التعريف بها وبأصحابها والتعليق عليها وفهرسة بعض محتوياتها؟ أم يهدف الى"خدمة النصوص"؟ أم يهدف الى تأكيد عبقرية الأمة والاقتداء بالأسلاف والأجداد؟ أم يهدف الى التباهي والتفاخر وتأكيد الذات؟ أم يتمثل هدفه في استنهاض الهمم وشحذ الذاكرة الجماعية؟ أم يهدف الى تأكيد الهوية أو ترسيخ ملامح الشخصية المهددة بالذوبان والتلاشي؟ أم يهدف الى هذا كله؟ ولهذا يضع لنفسه هدفاً محدداً هو"احياء التراث"؟! أما العبارة الاصطلاحية الأخيرة"إحياء التراث"فتطرح أسئلة جديدة: فهل التحقيق يؤدي - حقاً - الى إحياء التراث؟ وكيف يتم احياء التراث؟ وما الغاية من احيائه؟ ومثل هذه الأسئلة تؤكد ان التحقيق يطرح سؤال التراث. سؤال التراث لا يواجه صناعة التحقيق بحسب بل يواجه حركة الثقافة العربية المعاصرة - التي تشكل صناعة التحقيق نسقاً من أنساقها كما تقدم - وسؤال التراث هو: كيف نتعامل مع التراث؟ أو كيف يمكن أن يكون التراث فاعلاً في حركة تغيير الواقع وصياغة آفاق المستقبل؟ وقبل الخوض في سؤال التراث وما يتفرع عنه من أسئلة لا بد من التأكيد ان التراث ذاكرة الأمة، وهو مكون مهم من مكونات الهوية/ الشخصية، كما ان التعامل معه قد شكل - ولا يزال - جانباً من جوانب النهضة العربية الحديثة. وبهذا المعنى، فإن التراث - وتحقيق التراث - حقل خصب لرفد الحاضر واغنائه وربما صياغته وبنائه واستشراف المستقبل. وكل هذا يؤكد ان أسئلة التراث أسئلة كثيرة ومعقدة ومتشابكة ومتداخلة مع حقول لا حصر لها: فلماذا التراث؟ ومتى تبرز أسئلته... ولماذا؟ وكيف نتعامل معه؟ وما ماهيته؟ ما علاقتنا به؟ وماذا نريد من التراث؟ وماذا نفعل به؟ ولماذا ندرسه؟ وكيف ندرسه؟ وما المنهجية الفاعلة لتقديم التراث؟! وهذه الأسئلة وغيرها تواجه - أو يجب أن تواجه - المحققين والمشتغلين بالتراث بعامة. وهي تعني بالمجمل صياغة علاقة فاعلة مع التراث. وهي أسئلة تفرض نفسها على الأمم الحية التي تكابد لتأكيد الصلة بين الأزمان الثلاثة. لكنها تطرح بحدة عند الأزمات أو الهزائم أو الكوارث التي تعصف بالأمة وتهدد وجودها. وفي مثل هذه الأحوال يضطرب الوجدان الجماعي وتهتز الشخصية من جذورها وتشعر الأمة بفراغ فكري وخواء ثقافي فتلوذ بالتراث وتتمسك به وتسعى لاحيائه حفاظاً على الذات وبحثاً عن قدر من التوازن يمكنها من تأمل أسئلة الواقع الجديد: تحدياته واعادة صياغته ومحاولة البحث عن اجابات أو حلول. فإلى أي مدى أسهم التحقيق في صياغة علاقة فاعلة/ متوازتة مع التراث؟ ان نظرة فاحصة متمعنة ومخلصة في مسار الجهود الرامية الى إحياء التراث في القرنين الأخيرين التاسع عشر والعشرين ستنتهي الى القول بأن هذه الجهود قد حققت نجاحاً جزئياً أو محدوداً وليس نجاحاً شاملاً بدليل ما جرى ويجري حتى يومنا. ويبدو لي أن أسباب النجاح المحدود والجزئي - ولا شك في ان النجاح الجزئي يعني ضمناً الفشل الجزئي والتعثر - تكمن في أسباب عدة ذاتية وموضوعية وداخلية وخارجية. ويكفي أن يشير المرء هنا الى ثبات الوظيفة والمفاهيم والتصورات والأسلوب والأدوات في التعامل مع التراث، وفي النظرة الى الأنا وعلاقتها بالتراث، والنظرة للصلات المتعددة بين الأزمان الثلاثة، والى تحول الوسائل الى غايات. وأود أن أشير الى سبب آخر وهو عدم القدرة على الاجابة عن السؤال المهم: ماذا نريد من التراث؟ وماذا نفعل به؟ أ - فهل نحقق التراث ونتعامل معه من أجل تبنيه تبنياً كاملاً فنقلده ونبعثه من جديد؟ هل ننظر اليه نظرة تقديس؟ فنغفل الحاضر ونصادر المستقبل؟ ب - هل نتحصن به من العواصف نتيجة للخوف من مواجهة الواقع ورياح التغيير؟ ج - هل نلجأ اليه ونقوم بتفسيره في ضوء الانجازات العلمية الحديثة فنبحث عن قول هنا وجملة هناك لنؤكد أن أسلافنا وعوا هذه الانجازات وتحدثوا عنها قبل مئات من السنين؟ وألا يعبر مثل هذا الفعل عن المباهاة بالذات ويدل - في الوقت نفسه - على العجز من ناحية ثانية؟ د - هل تقتصر مهمتنا على البحث في التراث عن بذور أو جذور للنظريات والأفكار التي ظهرت في سياق ثقافي وحضاري مغاير؟ وألا يؤدي مثل هذا العمل الى تسويغها وتمريرها بالدرجة الأولى مثال الجرجاني ونظرية النظم/ والبنيوية، والى تكريس التبعية لا الفكاك منها؟ ه - هل نتفاعل معه ونستلهمه في ضوء مستلزمات الحاضر وتحدياته، فيصبح حياً حقاً ومتجدداً وخصباً وقوة دافعة تسهم في فهم الحاضر، وجزءاً من ثقافة العصر؟! إن السؤال: ماذا نريد من التراث؟ وماذا نفعل به؟ أو سؤال التراث الذي يواجه المحققين والمشتغلين بالتراث يرتبط بالإطار الثقافي والحضاري الذي تعيشه الأمة، أي يرتبط بالحاضر أو بوضع الأمة في الحاضر. فالحاضر له أسئلته ومشكلاته وقضاياه وتحدياته الجديدة. وموقف الأمة في حاضرها يسعى الى النهوض والتقدم والتجاوز والتخطي الدائم. وهذه المهمة لا يمكن أن تتجاهل التراث للأسباب التي ذكرت قبل قليل. ولتحقيق هذه المهمة لا بد من أن نستعيد التراث لا أن نعود اليه وخبراته حتى نتمكن من تشكيل الواقع واعادة ترتيبه بما يتواءم مع آمال الأمة وأهدافها وتطلعاتها الى المستقبل. وهذا يعني أننا نقوم بعملية اختيار وانتقاء تنطوي على قبول ورفض. نرفض كل ما يعوق مهمتنا ونقبل كل ما يساعد على انجازها. ويجب أن نتذكر ان للتراث أكثر من وجه. فهو لا يحمل صفة واحدة ايجابية ثابتة مقدسة، إذ ينطوي على عصور ازدهار وعصور انحطاط. كثيراً ما يتم الربط بين التحقيق و"إحياء التراث"، وكثيراً ما نقرأ أن التحقيق يهدف الى احياء التراث. فما معنى إحياء التراث؟ وما المفهوم الذي ينطوي عليه هذا المصطلح؟ وهل من المسوغ ثبات المدلول - لأي مصطلح - في ظل تغير النسق الثقافي والحضاري؟ ويلاحظ ان مصطلح"الإحياء"يستخدم - وقد استخدم فعلاً - بمعان ومدلولات متعددة، ولكنها لا تتجاوز حدود الوظائف المتشابهة أو الوظيفة الواحدة. فقد استخدم مصطلح إحياء التراث بمعنى المحاكاة وفرق بين التقليد والإبداع ودل أحياناً على التبني تبني التراث وفرق بين التبني والتفاعل كما استخدم بمعنى البعث وفرق بين البعث والتطوير والتحديث. ومع ذلك فإن المرء ليرى ان مصطلح الإحياء بمفاهيمه/ ومعانيه السابقة قد أدى دوراً ايجابياً لا يمكن انكاره على الصعيد اللغوي والأدبي والاجتماعي والحضاري، فقد أدى وظائف مهمة تمثلت في شحذ الذاكرة الجماعية واستنهاض الهمم، ومنح الذات قدراً من الثقة في التعامل مع التحديات المصيرية المستجدة. ويبدو ان"إحياء التراث"بالمعاني السابقة قد استنفد أغراضه من الناحية التاريخية لا العلمية مع بدء الحرب العالمية الأولى، فقد فرضت حركة الواقع المعيش ومتغيراته وأسئلته منظوراً جديداً للأنا والتراث والعلاقة بينهما: فالتراث له حضور تاريخي موضوعي مستقل نسبياً عنا أو عن الحاضر. فهناك مسافة بيننا وبين التراث، فالتراث ينتمي الى الماضي ونحن نعيش في الحاضر، فالعلاقة بيننا وبين التراث علاقة انفصال واتصال في الوقت نفسه وهذا ما فرض بدوره تجاوز معاني التبني والمحاكاة والبعث والانتقال الى مرحلة أخرى يتم فيها التفاعل مع التراث في سبيل اعادة تفسيره وفهمه. ويبدو الفهم هنا مجرد وسيلة لبناء علاقة متوازنة بين الأنا والتراث، هذه العلاقة التي تعني تفسير الحاضر من خلال الماضي لا تفسير الحاضر بالماضي، كما تعني ضرورة استدعاء التراث لا العودة اليه، أي ضرورة أن يكون التراث فاعلاً في حركة تغيير الواقع والارهاص بالمستقبل، وضرورة أن تتحول العناصر التراثية وتنصهر لتصبح جزءاً من رؤيتنا المعاصرة للوجود والإنسان والعالم. فالتراث يسهم - أو يجب أن يسهم - في فهم أنفسنا وفي إغناء الذات الجماعية وربما في اعادة بنائها. فإلى أي مدى يسهم التحقيق في انجاز هذه المهمة؟ وهل يؤدي التحقيق الى فهم التراث؟ وهل"خدمة النصوص"تعادل فهم التراث"أو إحياءه"؟! فالتأكيد هنا ينصب على تطوير التحقيق وأدواته ومفاهيمه من أجل تحويل التحقيق من صناعة شبه آلية الى صناعة ذات صبغة ابداعية. وهو ما يفرض - اضافة الى الخطوات الاجرائية المشار اليها - ابراز السياق الخاص والتاريخي للنص المحقق علاقاته القديمة في سياق عصره، أي في سياق الزمن الذي أبدع فيه وابراز السياق العام علاقاته وأثره في ثقافة العصر، أي في سياق الزمن المعيش أو الحاضر الراهن. ومن نافل القول تأكيد المرء هنا أن النصوص والكتب المحققة أفعال ابداعية أساساً وان اعادة الفاعلية لها أو اعادة الحياة اليها - من خلال التحقيق - مهمة تحتاج الى فعل خلاق وطاقة ابداعية متميزة. وهذه المهمة المقترحة مستمدة من الهدف المعلن للتحقيق وهو الإحياء: أليس معنى إحياء الشيء اعادته الى الحياة؟ وكيف نعيد الى الحياة كتاباً ألف منذ مئات السنين وكانت لكل كلمة فيه - وقت تأليفه - ارتباطاتها الخاصة التي يعرفها أبناء العصر، كما كانت للكتاب كله - بصفته عملاً انسانياً - مكانة ووظيفة وسط التيارات السياسية والاجتماعية والأدبية التي ماج بها عصره؟ فنحن إن لم نعرفه هذه المعرفة فما أحييناه". فإن لم نستخلص تفاعلاته الذاتية والموضوعية معاً فلن نكون قادرين على احيائه. فإحياء التراث يعني فهمه وتمثله لا تبنيه أو محاكاته أو بعثه أو نشره، وليس"التحقيق والنشر وما تقوم به لجان إحياء التراث وما شابهها إلا مقدمة للفهم. بل ان الفهم نفسه غير كافٍ للإحياء. ففهم النصوص التراثية في ضوء علاقاتها القديمة يمكن أن يبعث فيها الحياة للحظات، ولكنها لا تلبث أن تموت إذا لم تستطع أن تتنفس هذا الحاضر: أو بتعبير بعيد عن المجاز"لا قيمة للتراث إلا إذا فهمناه في ضوء ثقافة العصر، بحيث يصبح جزءاً من ثقافة العصر". * ناقد أدبي أردني.