"فتش عن القوى الكبرى في كل أزمة".. ترى، هل تنطبق هذه المقولة على ما يحدث، راهناً، في السودان بصفة عامة، وفي إقليم دارفور على وجه خاص. لعلّ المدخل إلى الإجابة عن هذا التساؤل، هو ملاحظة أنه عقب صدور بيان من الكونغرس الأميركي في 22 تموز يوليو الماضي، يعتبر أن ما يحدث في الإقليم، إقليم دارفور، هو حرب إبادة عرقية، طالب أعضاء الكونغرس إدارة الرئيس جورج بوش بالتحرك لاستصدار قرار من مجلس الأمن، يفوض الأممالمتحدة استخدام قوة متعددة الجنسيات للتدخل في الإقليم "من أجل المدنيين المشردين وعمل الإغاثة هناك".... وبالفعل، فإن مشروع القرار الذي سعت الولاياتالمتحدة إلى استصداره من مجلس الأمن، مدعومة في ذلك من ألمانياوبريطانياواستراليا، بحجة أن ما يجري في دارفور هو: "عملية إبادة جماعية"، والذي يقضي ب"فرض عقوبات على السودان"، صدر في 30 تموز الماضي، ومفاده: "التهديد بعمل ديبلوماسي، أو اقتصادي، ما لم تنزع الحكومة السودانية أسلحة ميليشيات الجنجاويد المتهمة بارتكاب فظائع ضد سكان دارفور، وتقديم أفرادها إلى المحاكمة خلال 30 يوماً". الأمر الجدير بالتأمل والانتباه، هنا، هو الاستعداد الذي أبدته بريطانيا بإرسال خمسة آلاف جندي، وبمشاركة استراليا، إلى دارفور، وذلك قبل تقديم مشروع القرار الأميركي إلى مجلس الأمن. وهو ما يعني أن التوجه إلى التدخل العسكري في غرب السودان، هو توجه واضح، وأن تمرير مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن، لا يمثل سوى الخطوة الأولى لإنجاز هذا التوجه. ملاحظة أخرى في هذا الخصوص، وهي أن التوجه المشار إليه، إنما تتواكب معه "لعبة تبادل الأدوار" بين الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا، أي على عكس الذي حدث في العراق... وفي اعتقادنا، أن تلك "اللعبة"، لا تعتمد على ظرفية الانتخابات الأميركية المقبلة، وحملتها التي دخلت مرحلة ساخنة بين جورج بوش وجون كيري، بقدر ما تعتمد على انتهاز إدارة توني بلير ل"الفرصة التاريخية"، السانحة، في ما يبدو، لخلع عباءة "التبعية" للولايات المتحدة الأميركية والسير في اتجاه الاقتراب، أو محاولة الاقتراب، من تقاسم "القمة الدولية" مع أميركا.. أو قل الاقتراب أكثر من مركز صنع القرار العالمي، على أقل تقدير. المسألة، إذاً، ظاهرها إنساني، بيد أن باطنها "مؤامرة"، تستهدف محاولات "فدرلة" السودان، و"التمركز" عسكرياً في غربه. وهذا ليس اعتماداً ل"النظرية" إياها، ولكن هو - في حقيقته - مجرد توصيف لما نراه في الراهن. قولنا الأخير، هذا، تشير إليه، وتؤكده، ملاحظتان: الملاحظة الأولى، وهي تلك التي تتعلق ب"التوجه الأميركي نحو تشكيل عامل ضغط على الحكومة السودانية"... إذ، أن صدور مشروع القرار الأميركي، ك"قرار" عن مجلس الأمن الدولي، يضع الحكومة السودانية في مأزق، حقيقي، خصوصاً عندما عاد المتمردون ضدها في إقليم دارفور إلى طاولة المفاوضات مجدداً. فها هنا، ستقلص القدرة التفاوضية للحكومة في مواجهة المتمردين. وعلى رغم أن الحكومة السودانية كانت بادرت، فعلاً، إلى إلقاء القبض على بعض العناصر من ميليشيات الجنجاويد، وقدمت عدداً منهم إلى المحاكمة، وصدرت أحكام إدانة ضدهم، إلا أن المتمردين، مدفوعين، في ما يبدو، بالتأييد الأميركي والبريطاني، لم يجدوا في هذا التحرك إجراءً كافياً لمعالجة الأزمة. ومن ثم، تم تجاهل التحرك السوداني، واستمرت الولاياتالمتحدة في سعيها إلى استصدار قرار من مجلس الأمن، إلى أن صدر. من الواضح، هنا، أن هذا المشهد السيناريو نفسه، كان تم من قبل في ما يخص المتمردين في جنوب السودان، وبالتحديد حركة جون قرنق. إذ، كلنا لا يزال يتذكر قانون الكونغرس الأميركي المسمى: "قانون سلام السودان"، وهو القانون الذي شكل عاملاً ضاغطاً على الحكومة السودانية في مفاوضاتها مع حركة قرنق، ولولاه لما تم التوصل إلى الاتفاقات كافة بين الحكومة والحركة في هذا الشكل الذي رأيناه، وبهذه السرعة التي شهدناها، وبكم تلك التنازلات من جانب الحكومة، كما تتبدى عبر نصوص الاتفاقات ذاتها. وبما أن المطلوب إنجازه بخصوص جنوب السودان، تم يدخل جنوب السودان وشماله، راهناً، مرحلة انتقالية مدتها 6 سنوات، يقرر بعدها الأول ما إذا كان يمكنه الاستمرار في إطار السودان الموحد، أم يقرر الانفصال" هذا، من دون أدنى تدخل من الأخير. لذا، فالمطلوب، الآن، أميركياً، وربما من قبله بريطانياً، تكرار المشهد نفسه بخصوص غرب السودان، ومجموعة الحجج في هذا الشأن متعددة، بل وقوية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر ب"الإنسانيات" تشريد البشر، وبؤسهم، واغتصاب النساء... إلخ. الملاحظة الثانية، وهي تلك التي تختص ب"لماذا السودان؟!" ولماذا الجنوب من قبل؟!، ولماذا الغرب الآن؟!.. والأهم، لماذا "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وحدها، في ما يخص الجنوب؟ ولماذا "حركة تحرير السودان" وحدها، في ما يخص الغرب؟!". صحيح أن السودان يعاني مشكلات خاصة بالإثنيات والعرقيات المتعددة، في داخله، والتي يصل عددها إلى 572 عرقية، وصحيح أن في السودان أكثر من 30 حركة تمرد، تسعى جميعها للإنفصال وتكوين دويلات مستقلة، أو تتمتع ب"الحكم الذاتي" على أقل تقدير... إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضاً، التساؤل عن تخصيص حركة قرنق وحدها بالتفاوض مع الحكومة السودانية، من دون الحركات الموجودة في الجنوب لاحظ أن قرنق، بعد توقيع اتفاق "السلام"، سيكون نائباً للرئيس السوداني، بعد اتمام المرحلة الأخيرة من التسوية، خلال ثلاثة أشهر" وكذلك الحال في ما يخص حركة تحرير السودان وحدها، من دون الحركات الموجودة في الغرب لاحظ أن هناك ثمة علاقة بين الحركتين. إنه النفط أولاً، ثم الموارد المعدنية ثانياً... ناهيك بما تتمتع به المنطقة، منطقة القرن الأفريقي، من أهمية "جغراستية" جغراستراتيجية، ثالثاً. ف"حركة تحرير السودان"، مثلها في ذلك مثل حركة قرنق، ترغب في اقتسام عائدات النفط الذي تم اكتشافه في جنوب السودان ووسطه. والأهم، أن التمرد في دارفور لم يظهر إلى السطح إلا عند اكتشاف النفط. أضف إلى ذلك، أن إقليم دارفور يتمتع بمميزات، تجعل من محاولات التدخل العسكري "الغربي" فيه أمراً مفهوماً، بعيدً عن أية دوافع إنسانية. فهذا الإقليم يتمتع باحتياطي ضخم من الفوسفات يضاهي الصحراء الغربية، وربما يتفوق فيه عليها" هذا، فضلاً عن اليورانيوم والكوبالت... ثم، فإن إقليم دارفور يلامس في موقعه الجغرافي كلاً من مصر وليبيا وتشاد" وهذه الأخيرة وصلت نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي لها خلال العام 2003، إلى 15 في المئة ورد هذا الرقم على موقع C.I.A الأميركي، وبالتحديد الجزء الخاص ب The World Factbook، وهو معدل - من حيث نسبة النمو، وليس من حيث حجم الاقتصاد - يتفوق على المعدل الذي حققته الصين، في العام نفسه. وباستخدام التعبير الذي استخدمته مجلة "الإيكونوميست"، يمكن القول: "شكراً للنفط". هذا وإن كان يؤكد المقولة الأولى في مقالنا هذا، أي "فتش عن القوى الكبرى في كل أزمة". إلا أنه في اعتقادنا غير كاف لتأكيد المحاولات الغربية المستميتة ل"فدرلة" السودان. وبعيداً من "نظرية المؤامرة"، وبعيداً من "الموقف النفسي" الناتج من الممارسات الأميركية على طول الأرض العربية وعرضها يكفي ما يحدث في العراقوفلسطين، كمثالين... بعيداً من هذا وتلك، فإن تبيان الدوافع وراء قولنا ذاك، يعتمد على الإجابة الصحيحة عن تساؤل يسبقه: ما هي المصالح الأميركية هناك، في السودان ؟!. هنا، لن نكتفي تأكيد على أهمية السودان "البلد - العربي - المفتاح" إلى منطقة القرن الأفريقي وباب المندب والمحيط الهندي، وهي المنطقة التي تضاف إلى منطقة الخليج العربي ليمثلا - معاً - دائرة "قوس الأزمات" في القرن الواحد والعشرين، الراهن.. كما لن نكتفي بالإشارة إلى التحركات الأميركية في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، ومحاولاتها تغيير خريطة التوازنات والتحالفات الإقليمية هناك، ناهيك بقواعدها العسكرية الموجودة في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر جيبوتي، كمثال" وأيضاً، عن ما أشيع عن محاولاتها في إقامة "دولة التوتسي" في منطقة البحيرات العظمى. لن نكتفي بالتأكيد على هذه وتلك، ولكننا سننقل فقرة من تقرير جون سي دانفورث مبعوث الرئيس الأميركي إلى السودان، وهو التقرير المقدم في 26 نيسان / أبريل 2002، الذي كان ضمن الأسس التي ارتكز عليها قانون الكونغرس الأميركي، "قانون سلام السودان". يقول دانفورث في تقريره: "إن اكتشاف احتياطي نفطي مهم، خصوصاً في الجنوب، وبدء الإنتاج الجدي له في عام 1999، أعاد تكوين شكل الحرب الأهلية في السودان يملك السودان - والكلام ما يزال ل"دانفورث" - احتياطياً نفطياً يتجاوز بليون برميل، مع احتمالات وجود احتياطي إضافي يتراوح بين بليون وأربعة بلايين برميل، ولا يمكن التوصل إلى تسوية دائمة للحرب في السودان ما لم تتم المعالجة الفاعلة للمسألة النفطية". هذا هو أحد أهم النصوص الواردة في تقرير جون سي دانفورث، حول "السلام في السودان". وهو يغني عن أي تعليق حول المصالح الأميركية في جنوب السودان. أما الذي يحتاج فعلاً إلى تعليق، فهو التلاقي الواضح في ما بين: المحاولات الأميركية لفرض توجه محدد على المفاوضات التي دارت بين الحكومة السودانية وحركة قرنق من قبل، والآن بخصوص دارفور، وبين الأهمية التي تتمتع بها منطقة القرن الأفريقي في الإستراتيجية الأميركية، وذلك من منظور أن السودان يمثل أحد أهم "النقاط المفتاحية" إلى هذه المنطقة. يكفي أن نشير، هنا، ك"دلالة" الى الأهمية هذه، إلى المشروع الذي تبنته إدارتا الرئيس السابق بيل كلينتون، وتسير في ما يبدو، على منوالهما، إدارة الرئيس الحالي جورج بوش، نعني: مشروع "القرن الأفريقي الكبير"، ذلك الذي يهدف إلى إقامة تجمع في المنطقة، يشمل إلى جانب بلدان القرن التقليدية "الأربعة" الصومال، جيبوتي، إريتريا، وإثيوبيا، كلاً من أوغندا، الكونغو، رواندا، بوروندي، و"جنوب السودان" ..." وهو مشروع يتضمن إقامة بنية تحتية وطرق نقل إلى سواحل المحيط الهندي، بواسطة شركات أميركية لحساب شركات التعدين والنفط الأميركية أيضاً. أيضاً، يكفي أن نشير، ك"دلالة" الى الأهمية هذه، إلى ما أصبح يعرف باسم "قوس الأزمة"" أي الإقليم الذي يمتد من وسط آسيا إلى أواسط أفريقيا، ويتمدد على جانبي ما يمكن أن نطلق عليه: وتر "غرب أسيا - شرق أفريقيا"، أو بالأحرى وتر "الخليج العربي - القرن الأفريقي"، الذي توليه الإستراتيجيات الكبرى، وعلى رأسها الإستراتيجية الأميركية، أهمية فائقة، وذلك لنتبين مركزية المنطقة في هذا الإطار. ف"الخليج العربي"، بما يتضمنه من احتياط هائل للنفط، ناهيك بكونه من أكثر مناطق العالم إنتاجاً له، هو أحد المرتكزين الرئيسين ل"الوتر" المشار إليه" وفي الوقت نفسه، يمثل "نقطة مفتاحية": سواء بالنسبة إلى جنوب آسيا وشبه القارة الهندية، أو إلى وسط آسيا ومنطقة بحر قزوين، أو إلى المماس الأوراسي أي خط التماس بين آسيا وأوروبا... أما "القرن الأفريقي"، وبما يتضمنه، أيضاً، من اكتشافات نفطية مهمة الصومال، وجنوب ووسط السودان، فهو المرتكز الرئيس الآخر، وفي الوقت نفسه، يمثل "نقطة مفتاحية": سواء بالنسبة إلى منطقة البحيرات العظمى وأواسط أفريقيا، أم إلى الشمال الأفريقي وجنوب البحر المتوسط تحديداً، هذا، ناهيك بكونه نقطة مفتاحية رئيسة بالنسبة إلى البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي في آن واحد. في هذا الإطار، يمكن إدراك المدى الذي يتحكم به، ومن خلاله، القرن الأفريقي، في واحد من أهم طرق التجارة العالمية، وبخاصة تجارة النفط الآن من منطقة الخليج العربية إلى أوروبا والولاياتالمتحدة. والأهم، القيمة الفعلية التي يمثلها هذا "القرن"، كواحد من الممرات المهمة لأي تحركات عسكرية آتية من أوروبا و/أو الولاياتالمتحدة في اتجاه الخليج العربي. وفي هذا الإطار، نفسه، يمكن إدراك مغزى التحركات الدولية عامة، والأميركية خصوصاً، على ساحة هذه المنطقة، في الآونة الأخيرة" وهي التحركات التي تفسر الكثير من الأحداث التي شهدتها منطقة القرن مؤخراً.. بل، يمكن إدراك الدوافع التي تستند إليها تلك التحركات، سواء "المسكوت عنه" في هذه الدوافع، أم "المصرح به". في هذا الإطار، يحق لنا أن نتساءل: إلى أين يمضي هذا الاتجاه بالأزمة السودانية؟!.. وهو التساؤل الذي يتضمن في ثناياه استفهاماً حول الدور العربي والضرورة المطلوبة في الاقتراب "الإيجابي" من هذه الأزمة؟!. في ما يخص التساؤل المطروح، فإن ما نود تأكيده، هنا، كما أكدنا من قبل في مقالات عدة، أن "الاتفاق الإطاري للترتيبات الأمنية"، ومن قبله وثيقة الإيغاد، ومن قبلهما بروتوكول مشاكوس، يتضمن - جميعاً - تسوية لا تقتصر على إجراءات وقف القتال، ولكن تتعداها إلى اتخاذ مواقف حاسمة من قضايا رئيسة تشكل، واقعياً، الملامح الأساسية لمستقبل السودان. بل لا نغالي إذا قلنا إن مثل هذا المنحى الذي تتخذه المسألة السودانية، يحدد مصير السودان سلفاً... ثم، إذا أضفنا إلى ذلك ما تنبئ به الأوضاع في دارفور غرب السودان" مضافاً إليها أيضاً الأوضاع في المناطق الثلاث آبيي وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، التي تنحو هي الأخرى إلى المطالبة ب"إعمال حق تقرير المصير، أو الحكم الذاتي"، مثل ذلك التي طرحته وثيقة الإيغاد، ومن قبلها بروتوكول مشاكوس، بسقف مفتوح. فما الذي سوف يتبقى من السودان" وهل نجاوز الحقيقة إذا قلنا أن انفصال هذه المناطق، في هذه الحال، عن "الوطن السوداني الأم"، لن يكون سوى النتيجة المنطقية لذلك التوجه الذي يتم دفع المسألة السودانية إليه دفعاً؟!. ومن ثم، فالمطلوب الآن من البلدان العربية عموماً، وكل من مصر وليبيا خصوصاً، هو ممارسة دور عربي إيجابي، من أجل إيجاد حل سلمي وشامل في إطار الحفاظ على وحدة الأراضي السودانية" وذلك قبل أن نجد أنفسنا وقد تكرست الهياكل الانفصالية المطروحة كحل للأزمة السودانية. إذ، في هذه الحال، لن يكون هناك السودان الموحد، فنخسر بالتالي إحدى بوابات الأمن العربي. ونكون كمن يلدغ من الجحر نفسه للمرة الثالثة، بعد سقوط "فلسطين"، وبعدها - بخمسين عاماً - "بغداد". * كاتب وباحث عربي مصر.