لماذا يكتب الكاتب المبدع "تنظيراً" في "فنه" الذي عرف به واشتهر من خلاله؟ وكيف يريدنا، هذا الكاتب، ان نتعامل، نحن القراء، مع كتابة تقع "خارج فنه" ابداعاً، ولكنها تتصل بهذا الفن "نظرية"؟ طرحت على نفسي هذين السؤالين وأنا أقرأ "المقالات" التي كتبها القاص والروائي العراقي فؤاد التكرلي، وقد جعل منها جزءاً سادساً في اعماله الكاملة دار المدى - دمشق. والتكرلي، لمن لم يعرفه من خلال كتاباته الابداعية، قاص وروائي ينتمي الى جيل الخمسينات في القصة والرواية العراقيتين، وهو الجيل الذي وضع الأساس الفعلي لقصة عراقية جديدة بقدر ما تميزت بواقعيتها فانها امتازت ببنائها الفني الذي شكل البعد الفعلي للتجديد في هذه القصة. أما في روايته فإنه، مع المحافظة على الموضوع الواقعي فيها، كان ان قدم رواية متميزة بناءً فنياً وموضوعياً جعل اسمه بين اسماء الكبار في الرواية العربية اليوم. اما "مقالياً"، كما هو في هذا الجزء من اعماله الكاملة، فهي المرة الأولى التي نلتقيه فيها "جمعاً" في مقالات اذا كان لم يخرج فيها عن موضوعات فنه فإنه اكد قدرته على "التنظير" لهذا الفن، كما هو في ممارسته له، لذلك جاءت مقالاته اكثر ارتباطاً بتجربته منها بالأسس النظرية لكل من القصة والرواية. وهذا ما أعطاها "خصوصية" خاصة تتعلق بشخص الكاتب فناناً وبفنه ممارسة من خلال حضور "ذاته الابداعية" في ما قدم من رؤية للانسان والفن والعالم. يؤكد هذا في ما يراه من أن الفنان انما يمارس فنه وهو "يخفي اسراره قدر المستطاع"، ثم يأتي حين من الدهر والعمل "يكشف فيه عن هذه الأسرار" يوم يقرر الكاتب اصطحاب قارئه ليغوص معه "باحثاً عن اشارات أو آثار ذلك الانسان المختبئ خلف الدلالات". 46 على شيء غير قليل من هذا قامت مقالات الكتاب وقد انصب الكلام فيها على محورين، ان كان المحور الأول جاء بتركيز على ما يقع في اطار "التأملات" في الفن القصصي، فإن المحور الثاني انصب على "الذكريات" التي جعل منها عنواناً له دلالته، وهي تمثل انسياقات وراء ما مضى. فإذا كان في مقالات المحور الأول وظف خبرته الفنية والنقدية أيضاً في مجالات القصة القصيرة، فإنه كتب مقالات المحور الثاني، على ما يبدو، بمزيد من العاطفة والشجن وهو يعيد فيها معايشة الماضي، ويستعيد ملامح أساسية من العلاقة التي كانت له مع وجوه غابت، وأماكن غيبها الزمن وحركة الواقع، على رغم كل ما للذاكرة - ذاكرة الكاتب - من ألفة معها... معززاً ذلك بما دعاه "اكتشافات" تمت له: الاكتشاف الأول له كان اكتشاف عالم الرواية، اذ وجد "أن في عالم الرواية حضوراً ذا كثافة يجعلها تماثل في الحيوية والنوعية مستوى الحياة" من حوله 9، وهي فكرة "في جوهرها تساوي الأدب بالحياة" بما يجعله يرى "ان كتابة الروايات هي في مثل تلقائية الحياة وسهولتها" 10، وهي "رؤية" تعود الى البدايات التي تشكل فيها حلم الكتابة لديه، وهو بعد فني. غير انه سيكتشف، من بعد، أن "طريق التعبير باللغة عن العالم وعن الذات" أصعب من هذا التصور وأعقد بكثير، مع ان هذا التعبير سيأخذ عنده نسقه، ويكون الاساس الذي يبني عليه ما يكتب بعد ان منحه "عادة الكتابة على السجية وبتلقائية مطلقة" 12، وستتحرك من خلاله أو بفعله "معاني الشكل واللغة ودلالة الخلق الفني". 14 وعلى هذا يؤسس اكتشافاً آخر، وان يكن مرتبطاً بسابقه، ومؤداه: ان الأديب، والفنان، هو ذاته الابداعية، بما لهذه "الذات" من قدرة على استيعاب حركة الحياة وتحولاتها، وعلى الاستجابة لمعاني الخلق الأدبي والفني... وبه ترتبط الكتابة التي يرى وجوب ان تجيء "بلغة شفافة لا بلاغة فيها، تتجه مباشرة الى مخيلة القارئ لتثيرها وتبذر فيها صورة، أو ما يشبه الصورة، ثم تستمر العملية الفنية اللغوية هذه مع استمرار الأقصوصة من اجل ادخال القارئ في تجربة يشارك فيها ويتأثر بها عاطفياً وفكرياً". 31 ثم يأتي ما يتحقق من ذلك بالتجربة - تجربة الكتابة - ذلك "ان الكتابة الروائية هي طرف أول في معادلة ذات طرفين، الطرف الآخر فيها هو القارئ"، اذ "لا تكتمل الكتابة الروائية على مستوى التمثل وتحقيق الهدف الفني الا بوجود القارئ". 26، وان كان هذا - كما يرى الكاتب - لا يتحقق الا مع ما يدعوه ب"القارئ السلبي"، اذ انه يفترض بالقارئ، او يطالبه "أن يفتح ذاته لهذه الكتابة ويعمل بايجابية على استقبال المؤثرات اللغوية ويمنحها مستوى معيناً من ديمومته الانسانية لتتعايش معطيات الكتابة وتتلاحم مع مكوناته النفسية"... القصد من هذا - بحسب الكاتب - هو ما يتكون "من هذا التلاحم عبر مخيلته، عالم خيالي ذو طبيعة خاصة وبأبعاد انسانية". 26-27 وبالتجربة تتصل المعاناة، و"جدوى المعاناة هي ان تعانيها بوعي" 29، لأن هذا الوعي هو الذي يحقق لها "طبيعتها الفنية" حيث تنبثق عملية الخلق الأدبي التي "تتطلب من الكاتب التجدد والاختلاف، ان لم يكن في رؤياه العامة للانسان والكون، ففي شكل منظوره وفي تعبيره الفني" 33، ذلك ان فن "كتابة الأقصوصة هو فن خلق صور تتحرك"، اذ يرى الكاتب ان "الاقصوصة من دون صور ليست إلاّ حدثاً منتناً". 66 -وتمتزج في هذا الكتاب ثلاثة عناصر تكوينيه تشكل البناء الموضوعي لمقالاته: هناك، أولاً، ما ينتمي الى "السيرة الذاتية" التي تأخذ من "لغة القص" ومن "أسلوبه" الشيء الكثير، الى الحد الذي يقترب فيه من "القصه" القائمه بكل فنيتها، فضلاً عن "موضوعها"، وإن اعتمد على تفاصيل واقعية خالصة تتصل بحياة الكاتب وأسلوب تفكيره. والعنصر الآخر هو ما يتمثل في الموقف الفكري - الاجتماعي للكاتب، سواء ما اتصل من ذلك بالواقع ووقائعه، أو ما تعلق بالشخصيات التي قدمها، والتي جاءت، بحسب تقديمه لها، مثار موضوعات وقضايا حيوية. أما العنصر الثالث فهو في هذه الصلة، التي تتبدى حية ومستمرة بكل من المكان والزمان: الزمان بصفته لحظة تاريخية لها تمثيلاتها، وللكاتب منها ما يعيد تمثيله. المكان الثابت في الروح، لا في الذاكرة وحدها، وإن جاء ما كتبه عن "أمكنة" طفولته وصباه - في وجه خاص - مكتوباً بوعي "الكاتب الآن"، مفسراً الأشياء، والمواقف، والحالات بوعي الحاضر - الراهن الذي يكتب فيه، مستخدماً في توصيف ذلك، وفي تحديده، ما يتمثل في "مقاربات" من الصفات والنعوت، والتقويمات والآراء، ما يتمثل في "استعارات" من ثقافة ناضجة هي، بالتأكيد، ليست ثقافة الكاتب في الزمن الذي يتحدث عنه، وإنما هي ثقافة وعي متكامل. فهو إذ يروي ما يرويه عن طفولته، وعن متعة الحياة التي هيأها لنفسه فيها، لا يلبث أن يستدرك قائلاً: "لم تكن تلك إلا دقائق قليلة من هذا الزمان" 100. أما حين يتذكر، ويستعيد ما كان له من تلك الأيام من مواقف وحالات وعلاقات، فإنه يجد فيها أياماً "يجب ألاّ تمضي مع الزمن". 142. الى جانب هذا، هناك "التأمل" في الآخر، حياة وواقعا، من موقف نقدي. فإذا كانت الكتابة في هذا وذاك تشكل "اكتشافاً"، فإن العالم الذي يطرقه الكاتب يظل دائماً في حاجة الى اكتشاف، وهو ما يعمل الكاتب على تأكيده. وفي المحصلة، فإن ما يؤكده الكاتب يتحدد في: - أولاً: إن الكتابة مشروع حياة، تعتمد الارادة والمواصلة، وتتعزز بالعطاء الذي يؤكد فيه الكاتب ذاته الابداعية. - ثانياً: إن ما يستحق اهتمام الكاتب، بدرجة أساس، هما: الحياة والناس، قضايا ومشكلات إنسانية. فاذا كانت هموم الكاتب الادبية امتزجت عنده، بداية، "بمحن الواقع الحياتي المعيش" 12، فإن هذا هو ما حدد، اتجاهه في ما كتب. - ثالثاً: يأخذ الأدب عنده صيغة "الرادع" وموقف "المرشد" و"المربي"، وذلك من خلال "التماثل" الذي وجده متحققاً عنده في الأقل بين "القانون"، وموضوع دراسته، ومن بعد: مدار مهنته... وبين الأدب، اذ وجد أن دراسة "القوانين التي يضعها المجتمع لحماية نفسه وأفراده تساير دراسة الأدب والفن من حيث تعلقهما بمجرى حياة البشر" 16. - ورابعاً: وهو إذ يرى أن "الرواية هي المكان بامتياز" 105 فليؤكد أن "خصوصية" العمل الفني، حدثاً ورؤية وشخصيات، نابعة من "المكان" أصلاً. وعلى هذا فهو كتاب يمكن أن تقرأه مرتين: مرة قبل أن تقرأه مبدعاً، في ما له من منجز قصصي وروائي... ومرة بعد أن تقرأ تلك الأعمال.