إذا تفحّصنا ثروتنا من المكتبة الصوفية، نجد أن النص الصوفي يختلف في موضوعه عن النص الفقهي في مطلق دين من الأديان تقريباً. فالنص الفقهي يهتم بتحديد الأوامر الإلهية والنواهي، يميز الحلال من الحرام وما بينهما من متشابه... وعلى سبيل الإجمال، النص الفقهي يبيّن للمكلّف من جهة، عباداته اليومية والاسبوعية والسنوية، وأنواع المعاصي وما يقابلها من قصاص، كما يبيّن سبل الرجوع الى الله والتوبة... ومن جهة ثانية يستنبط أصول المعاملات بين الناس، ويرسم خطوط الحقوق التي تفصل بين العدل والظلم. فالنص الفقهي أحكام عبادات ومعاملات. أما النص الصوفي فهو على سبيل الإجمال يقسم الى نوعين... 1 - نص وجداني، يناجي الله ويتحبّب اليه و"يتغزّل" به إن سمح التعبير وأنموذجه في التصوّف الإسلامي كثير... أمثال رابعة، والحلاّج، وابن الفارض. 2 - نص مساري، يسجّل رحلة الصوفي الى الله وما فيها من مجاهدات بدنية ونفسية ومقامات روحية، وما يتخللها من عطاءات إلهية ونِعَم. وقد يكون هذا النص المساري على شكل تعليمي، كما نجد في "إحياء علوم الدين" للغزالي وما سبقه من كتب في المجال نفسه ك"قوت القلوب" للمكيّ، أو يكون على شكل "سيرة ذاتية" متصلة أو منقطعة كما نجد في بعض نصوص للمحاسبي، والبسطامي، وابن عربي، وعبدالكريم الجيلي، وفي الأزمنة الحديثة للسيدة فاطمة اليشرطية. ويتضح من النظر في النصين الفقهي والصوفي، اللذين يعتبران بُعدين بنيويين في كل دين، أن النص الفقهي يتباين لأن الشرائع متعددة، فالله - سبحانه - جعل لكل نبي شرعة ومنهاجاً. أما النص الصوفي فيتقارب، من جهة لأن المخاطب واحد هو: الله، مع التحفظ على التصورات المختلفة... ومن جهة ثانية، الانسان السالك يواجه المشقات البدنية والنفسية نفسها تقريباً، ليخترق حواجز المادة ويدخل في مدارات الروح، مع التحفظ أيضاً على التصورات المختلفة للانسان الكامل. فالنص الصوفي هو مساحة من مساحات اللقاء حيث تسقط الغربة... والبرهان، يشاهد حلقة ذكر الدراويش أعداد كبيرة من المسيحيين تفوق أحياناً أعداد المسلمين، من دون غربة... فالصوفي حين يدور كما تدور الأفلاك باسطاً ذراعيه فاتحاً كفّه اليمن الى جهة الفَوْق ليستمد من نِعَم الله، وموجهاً كفّه اليُسرى الى جهة التحت لينشر للخلق كلهم ما استقطبه من أرزاق إلهية... هذا التصور للانسان الذي تجاوز أنانيته، وانتصر على خصوصيته فاستمد وأمدّ الكل، هو تصور انساني عام يحتاجه أهل كل دين من الأديان. ومثال آخر على سقوط الغربة من بين أهل الأديان المختلفة عندما يدخلون محراب النص الصوفي، هو ما يُطبع عالمياً اليوم من نصوص صوفية متنوعة بوذية، وهندوسية، ومسيحية، وإسلامية، ويحظى بالقبول لدى الكل. وسبب هذا القبول من الجميع أن النَّفَسَ الإنساني واحد وإن تعددت أصواته تبعاً لمواضع تقطّع الحروب، وقلوب الناس تهتز لرنين هذا النَّفَسَ الواحد من وراء حجب الأصوات المتعددة. دور النصوص الدينية في انتاج التجربة الروحانية إن التجربة الروحانية هي تجربة شخصية ابداعية، ولكل واحدة فيها مسار مخصوص، بحيث كنا نرى أن اللاحق يتمكن فقط من الإفادة من تجربة السابق من دون أن يكررها... التجارب الروحية تتعدد ولا تتكرر. وعلى رغم هذا التفرد وهذه الخصوصية اللتين تطبعان التجربة الروحانية إلا أنها ككل بناء إنساني يرتكز على أرض نص ديني، وعلى مثال رموزه الوجدانية تستولد طيف الروح من طين الجسد. والأمثلة كثيرة على دور النص الديني في انتاج التجربة الروحانية، ففي النص الإسلامي مثلاً نجد الإسراء والمعراج النبويين اللذين شكلا معاً مرجعاً وجدانياً مهماً للصوفي في معارجه وإسراءاته، وأيضاً الوحي النبوي الذي نستشفّه في الإلهامات الإلهية والعلوم الدينية. فالنفري يصرح في مواقفه بالقول: "أوقفني وقال لي"، وابن عربي في مشاهده: "أشهدني وقال لي". كما تتميز التجربة الروحانية الإسلامية بخاصية القوة والغلبة والنصر، الصوفي يتمتع بقوى روحية تظهره بمظهر الغالب والمنصور وهذه الخاصية تجد مرجعيتها في آيات القرآن الكريم التي تضمن النصر للمؤمن، وفي أن النبي صلى الله عليه وسلّم حقق لجماعته النصر الدنيوي، وكان هذا النصر شاهداً على التأييد الإلهي. أما في النص المسيحي فتظهر رهبانية السيد المسيح عليه السلام مرجعاً لتنسّك القديسين، كما تأخذ آلامه وصلبه حيّزاً مهماً في التجارب الروحية المسيحية، فالاتحاد به يتم عبر الألم كما يتمّ عبر الحب ونلحظ هنا غياب النصر كشاهد. مشروع اللقاء يرتكز المشروع الصوفي على قناعة مشتركة بين متصوفي العالم كله تقريباً، تتلخص بأنه في اقتدار انسان معيّن أن يصل الى علاقة مخصوصة بالله، تختلف عن العلاقة بين الله وبين سائر مخلوقاته من الناس. مع الإشارة الى أننا نضع بين قوسين هنا من يبتدئهم الله ويختارهم ليهبهم هذه العلاقة المخصوصة من دون طلب منهم. واستناداً الى هذه القناعة يبدأ الانسان بمشروعه الصوفي، ونسجّل هنا تقنية تكاد تكون مشتركة بين الجميع. يحاول الكل أن يعكس الأدوار بين الروح والجسد: فبدل أن تكون الروح هي الخاضعة لقوانين الجسد والتابعة له بعد دخولها فيه لحظة الولادة الأولى، يعمل الصوفي على إخضاع الجسد للروح، فيتبعها في علوّها بعد أن كانت تتبعه في سُفله، وبعد أن كانت الروح خاضعة لقوانين المادة - الجسد أصبح الجسد يتمتع بامتيازات الروح. ولكي يتم للصوفي هذا الإبدال في الأدوار، أو هذه الولادة الثانية للبدن في عالم الروح، يقوم بمجاهدات بدنية ورياضات روحية... فيظهر دور جسده وأذكاره وأحوال قلبه وانقطاعه عن الناس، بالتالي ترتسم مقامات روحه في منازل الطريق الى الله، وهنا مساحة لقاء بين التجارب الروحية المتنوعة، وإمكانات تبادل تأثّر وتأثير. وقد كانت التجارب الروحية الهندوسية سبّاقة في ترتيب الرياضيات والمجاهدات في سلّم تراتبي، كل مرحلة أدنى تقود الى واحدة أعلى ان لم ينقطع الطريق بالسالك... وفي المدونات الاسلامية صيغٌ كثيرة لمقامات الطريق أشهرها التقسيم السُباعي، فالمقامات سبع، والنفس تتقلب في أحوال سبع حتى تصل الى أن تكون كاملة... وأكتفي هنا بالإحالة الى مداخلة صديقتي "نايلة طبارة" التي تحاول أن تتبع مراتب النفس في مسار التجربة الروحانية الاسلامية وتقارنها بمنازل النفس في تجربة القداسة المسيحية. الوصول، أو نقطة النهاية في التجربة الروحانية بعد أن قطع السالك أودية وقواطع يصل الى نقطة النهاية، فيعلن عن وصوله ويكرّس "ولياً" في المصطلح الإسلامي، و"قديساً" في المصطلح المسيحي. ويجسّد هذا الواصل لجماعته "الحضور الإلهي في حدود وجود إنساني"... فيعود الدين معه حياً متجدداً منفتحاً ندياً كأنه في لحظته الأولى، كما يستحضر هذا الواصل الرموز الانسانية التي هي جزء من الدين... فالوليّ يستحضر الوجود المحمّدي، والقديس يستحضر الوجود العيسوي والمريمي وهكذا... ولي دراسات حول الإنسان الكامل ومواصفاته المتنوعة. كما تتشابه التجارب الروحانية هنا، في أن الواصل يصبح صاحب دور في مجتمع المؤمنين... لذلك نجد التجمّعات تكثر حول هولاء الأولياء والقديسين، ويقصدهم الناس في حاجاتهم الدينية والدنيوية... قوافل من المرضى والمتعبين، وتجمّعات الطرق الصوفية تستقطب الناس في أقاصي القرى كما تستقطبها في أواسط المدن... وهناك مساحات لقاء ومجالات تفكّر ونقد ومراجعة عدة. على أبواب الألفية الثالثة، والعقل الانساني يجتهد ليبتكر مناهج تحقق السلام العالمي، نقول بتواضع: فلنلتفت ناحية البعد الروحاني في الديانات. فإن كان نحو التسعين في المئة من سكان العالم يؤمنون بالله، فلنبدأ بدعم المناهج التي ترسم للإنسان طرق التخلّق بأخلاق الله. فالله سبحانه يرزق الكل مؤمن به وكافر، صالح وفاجر، الكل خلقه ويعيش في نعائمه... فلو استطاع كل واحد منا أن ينظر الى الآخر على أنه مثيله في التعلّق بالله لانتفت ازدواجية القيم التي تشكو منها المجتمعات... فالآخر مألوه لإلهي وله الحقوق نفسها في الوجود والكينونة... يقول الجنيد البغدادي: "الصوفي كالأرض يطؤها البرّ والفاجر، وكالمطر يسقي كل شيء...". وأقول، قليل من الروحانية ينعش جسد البشرية العالق في الأنانية والوصولية والقسوة والفساد. * أستاذة الدراسات الاسلامية - الجامعة اللبنانية.