شدد الامين العام للامم المتحدة كوفي انان في كلمة افتتح بها اعمال الجمعية العامة، على دور المنظمة الدولية كإطار قانوني و"دار مشتركة لا غنى عنها للاسرة البشرية كلها" ودعا الى التخلي عن تصور ان بامكان العالم ايجاد آليات اخرى بديلة. وجاء في نص الكلمة: "ان العالم يحتاج اليوم، اكثر من أي وقت مضى، الى آلية فعالة يلتمس من خلالها حلولاً مشتركة لمشاكل مشتركة. وهذا هو الغرض الذي انشئت من أجله هذه المنظمة. فلنتخل عن أي تصور بأنه سيكون بامكاننا، لو تقاعسنا عن الاستفادة منها على النحو السليم، العثور على أي آلية اخرى اكثر فاعلية. ومثلما قلت قبل عام مضى، فإننا بلغنا مفترق طرق على مسارنا. وان لم يكن بوسعكم، كزعماء سياسيين لدول العالم، ان تتوصلوا الى اتفاق بشأن الطريق التي سنسلكها في المستقبل، فإن التاريخ سيتخذ هذه القرارات نيابة عنكم، وربما تضيع مصالح شعوبكم جراء ذلك التقصير. ولن أسعى اليوم الى اصدار حكم مسبق على هذه القرارات، لكنني سأذكركم بالاطار الفائق الأهمية الذي يجب ان تتخذ فيه هذه القرارات، وأعني تحديداً حكم القانون، في كل دولة وعلى صعيد العالم. ان الرؤية التي تنشد "حكومة القوانين لا حكومة الاشخاص" ربما تكون قديمة قدم الحضارة نفسها. وفي بهو لا يبعد كثيراً عن هذا المنبر، توجد نسخة للقوانين التي سنها حامورابي منذ اكثر من ثلاثة آلاف سنة، في الارض التي تسمى اليوم العراق. وقد يبدو كثير من قوانين حامورابي اليوم غليظاً، بدرجة مستعصية. الا ان صحائف هذه القوانين نقشت عليها مبادئ للعدالة أقر بها كل مجتمع انساني تقريبا، او طبقها على نحو يكاد يكون تاما، منذ ذلك الزمن: - اسباغ الحماية القانونية على الفقير. - كبح جماع القوي حتى لا يتمكن من ظلم الضعيف. - سن القوانين جهرا، واشهارها على الجميع. لقد كانت هذه القوانين علامة فارقة في كفاح البشر من اجل بناء نظام يعلو فيه الحق على القوة، بدلا من ان تصنع القوة الحق. وبامكان كثير من الدول الممثلة في هذه القاعة ان يشير بفخر الى ما لديه من وثائق تأسيسية تجسد هذا المفهوم البسيط. وان هذا هو المبدأ ذاته الذي أسست عليه هذه المنظمة، اممكم المتحدة التي تنتمون اليها. الا ان حكم القانون بات اليوم عرضة للخطر في بقاع العالم. واصبحنا نرى، المرة تلو الاخرى، ان القوانين الاساسية، تلك التي تقضي باحترام الارواح البريئة للمدنيين والضعفاء، ولا سيما الاطفال، يضرب بها عرض الحائط دونما حياء. وهكذا، وعلى سبيل ذكر بعض الامثلة الفادحة الراهنة: في العراق، نرى المدنيين يذبحون بدم بارد، بينما يختطف عمال الاغاثة والصحافيون وسواهم من غير المحاربين وينفذ فيهم حكم الموت بأشد الطرق وحشية. وفي الوقت نفسه، شاهدنا السجناء العراقيين وهم يتعرضون لسوء المعاملة بصورة مخزية. وفي دارفور، نرى مجموعات سكانية تشرد بأكملها وتدمر مساكنها، ونرى الاغتصاب يستخدم كاستراتيجية متعمدة. وفي شمال اوغندا، نرى الاطفال يشوهون ويجبرون على المشاركة في فظائع يندى لها الجبين. وفي بيسلان، رأينا الاطفال يؤخذون رهائن ويذبحون بوحشية. وفي اسرائيل، نرى المدنيين بمن فيهم الاطفال، يستهدفون عمدا من قبل الانتحاريين الفلسطينيين، وفي فلسطين نرى المنازل تدمر والاراضي تصادر، كما نرى الخسائر التي لا مبرر لها في ارواح المدنيين بسبب استخدام اسرائيل المفرط للقوة. وفي سائر انحاء العالم نرى اناساً يؤهلون لارتكاب المزيد من هذه العمليات، من خلال حملات الكراهية الموجهة ضد اليهود، وضد المسلمين، وضد أي شخص يمكن ان ينظر اليه باعتباره مختلفا عن المجموعة التي ينتمي اليها الفرد. لا توجد أي قضية او مظلمة، مهما كانت مشروعيتها في حد ذاتها، تبرر مثل هذه الاعمال. انها تحمّلنا جميعا بمشاعر الخزي. كما ان انتشارها يعكس فشلنا الجماعي في احترام القانون، وغرس هذا الاحترام في نفوس رجالنا ونسائنا. وعلينا جميعا واجب بذل كل ما في وسعنا من أجل استعادة هذا الاحترام. وحتى نفعل ذلك، علينا ان ننطلق من مبدأ، ان لا أحد فوق القانون، وانه ينبغي الا يحرم احد من الحماية التي يسبغها القانون. وأي دولة تدعي حكم القانون في داخلها، عليها ان تحترمه خارجها، وأي دولة تصمم على ان يحترم القانون خارجها، لا بد ان تنفذه في داخلها. نعم ان حكم القانون يبدأ من الداخل. لكن ذلك لا يزال في كثير من الاماكن بعيد المنال. فالكراهية والفساد والعنف والاستبعاد، تفعل فعلها دونما خلاص. وبينما يفتقر الضعيف الى الانتصاف الفعال، يتلاعب القوي بالقوانين من أجل التمسك بالسلطة ومراكمة الثروة. وفي بعض الاحيان، يسمح حتى للكفاح الضروري ضد الارهاب بالتعدي بلا لزوم على الحريات المدنية. وعلى الصعيد الدولي، تحتاج كل الدول، قويها وضعيفها، كبيرها وصغيرها، اطاراً للقواعد العادلة، تثق كلها بأن الآخرين سيولونه الاحترام. وهذا الاطار لحسن الطالع، موجود، فقد وضعت الدول مجموعة هائلة من القواعد والقوانين، من التجارة الى الارهاب، ومن قانون البحار الى اسلحة الدمار الشامل، ونحن نعتبر ذلك انجازا للمنظمة يشعرنا بأشد درجات الفخر. غير ان هذا الاطار تشوبه ثغرات ويعتريه ضعف، فهو في غالب الاحيان ينفذ بشكل انتقائي ويطبق بصورة تعسفية. كما يفتقر الى قوة الانفاذ التي تحيل مجموعة القوانين الى نظام قانوني فعال. وعندما تنعدم قدرة الانفاذ، مثلما الحال في مجلس الامن، يشعر كثيرون بأن الاطار لا يستخدم دائما بعدل او بفاعلية. وعندما يحتكم بشكل جاد الى حكم القانون، مثلما الحال في لجنة حقوق الانسان، فإن من يتذرعون به لا يطبقون عادة ما يعظون به. وعلى الذين يسعون الى فرض الشرعية ان يجعلوا انفسهم تجسيدا لها، وعلى الذين يتذرعون بالقانون الدولي ان يطبقوه على انفسهم. ولا بد على الصعيدين الداخلي والدولي، ان يكون لكل فرد نصيب في صنع القانون وفي تنفيذه. وقد يرفض الذين يشعرون بانهم مغرّبون عن مجتمعنا العالمي، الالتزام بقوانينه. الا انه ليس في وسعنا ان نتحمل ذلك. ومثلما هي الحال داخل كل بلد، حيث يعتمد احترام القانون على الاحساس بأن الجميع يشاركون في صنعه وانفاذه، فتلك ايضاً هي الحال في مجتمعنا العالمي. ولا ينبغي لأي أمة ان تشعر بأنها مستبعدة. ويجب ان يشعر الجميع بأن القانون الدولي يتعلق بهم ويحمي مصالحهم المشروعة. ان حكم القانون بوصفه مجرد مفهوم لا يكفي. ولا بد للقوانين ان توضع موضع الممارسة، وان تنفذ الى نسيج حياتنا. وبتقوية معاهدات نزع السلاح وتنفيذها، بما في ذلك احكامها المتعلقة بالتحقق، سيمكننا ان ندافع بحق عن انفسنا ضد انتشار اسلحة الدمار الشامل، واحتمال استخدامها. وبتطبيق القانون، يمكننا ان نحرم الارهابيين من الموارد المالية والملاذات الآمنة، وهو عنصر اساسي في أي استراتيجية ترمي الى هزيمة الارهاب. وباعادة تكريس حكم القانون، واشاعة الثقة في تطبيقه بنزاهة، يمكننا ان نأمل باعادة الحياة للمجتمعات التي مزقتها الصراعات. ان القانون، بما في ذلك قرارات مجلس الامن، هو الذي يعطي افضل أمل في حل الصراعات المزمنة، في الشرق الاوسط والعراق وفي سائر انحاء العالم. وبالتمسك الصارم بالقانون الدولي يمكننا، بل ولا بد لنا، ان نفي بمسؤوليتنا ازاء حماية المدنيين الابرياء من الابادة الجماعية، ومن الجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب. وكما حذرت هذه الجمعية منذ خمس سنوات خلت، فإن التاريخ سيحكم علينا حكما قاسيا ان نحن سمحنا لأنفسنا بان نحيد عن هذه المهمة، او اعتقدنا ان في وسعنا ان نعفي انفسنا منها، متذرعين بالسيادة الوطنية. لقد طلب مني مجلس الامن للتو ان أعيّن لجنة دولية للتحقيق في التقارير عن انتهاكات حقوق الانسان في دارفور. ولتحديد ما اذا كانت اعمال ابادة الجماعية قد ارتكبت هناك. وسأقوم بذلك على وجه السرعة. لكنني احذر أي احد من ان يرى في ذلك مهلة يمكن في اثنائها ان تواصل الاحداث مسارها في هذه المنطقة التي نالها الخراب. ان اشياء تحدث هناك ولا بد، بصرف النظر عن مسمياتها القانونية، ان تهز ضمير كل انسان. لقد تولى الاتحاد الافريقي بنبل زمام القيادة، واضطلع بمسؤولية توفير مراقبين وقوة للحماية لسكان دارفور، كما انه يسعى الى التوصل الى تسوية سياسية لن يمكن من دونها احلال الامن الدائم. الا اننا نعرف جميعا القيود الراهنة التي تحيط بهذا الاتحاد الافريقي الوليد. وعلينا ان نهبه كل دعم ممكن. ولا يتصور أي شخص أبداً ان هذه المسألة تخص افريقيا وحدها فالضحايا بشر، ولا بد ان تكون حقوق الانسان خاصتهم مقدسة لنا جميعا. وعلينا جميعاً واجب بذل كل ما في قصارانا لانقاذهم، وان نفعل ذلك الآن. لقد وعدت مجلس الامن في الشهر الماضي بأن اجعل عمل المنظمة في مجال تعزيز حكم القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع وما بعد الصراع، اولوية لي في الفترة المتبقية من ولايتي. وعلى المنوال ذاته، فإني احضكم جميعاً على ان تبذلوا المزيد من اجل تعزيز حكم القانون داخل دولكم وخارجها. وأطلب منكم جميعا اليوم ان تغتنموا فرصة الترتيبات التي اعددناها لكم لتوقيع المعاهدات المتعلقة بحماية المدنيين، وهي معاهدات تفاوضتم انتم انفسكم بشأنها - وبعد ذلك، عودوا الى بلدانكم لتنفيذها كاملة وبنية حسنة. كما انني اهيب بكم ان تعطوا دعمكم الكامل للتدابير التي سأعرضها عليكم خلال هذه الدورة من اجل تحسين أمن موظفي الاممالمتحدة. ان هؤلاء الافراد غير المحاربين، الذين يعرضون ارواحهم للخطر طواعية من اجل مساعدة الآخرين من الرجال والنساء، يستحقون منكم بالتأكيد الحماية والاحترام. ان ضحايا العنف والظلم ينتظرون في كل انحاء العالم، ينتظرون منا ان نفي بوعدنا. انهم يفهموننا عندما نستخدم كلمات نتستر بها على عدم تحركنا. كما انهم يلاحظون عندما لا تطبق القوانين التي كان ينبغي ان تسبغ عليهم الحماية. وانني على يقين من اننا نستطيع استعادة حكم القانون وتوسيع آفاقه في سائر انحاء العالم. لكن ذلك يتوقف في نهاية المطاف على ما للقانون من ثقل في ضمائرنا. لقد انشئت هذه المنظمة على انقاض حرب حلت على البشرية بآلام غير مسبوقة. وعلينا اليوم ان نفتش في ضميرنا الجماعي من جديد، وان نسائل انفسنا عما اذا كنا نفعل ما يكفي. ان لكل جيل دوره في الكفاح الممتد على مر العصور من اجل تعزيز سيادة القانون بالنسبة للجميع، وهو الامر الوحيد الكفيل بضمان الحرية للجميع. فلنعمل جميعا على ان لا يغيب جيلنا عن هذا الكفاح".