"هذا الكاتب أقل ما يمكننا أن نقول عنه انه رجل أمسك بسرّ الأدب... وجعل لأميركا أدباً تجابه به الأدب الأوروبي". هذا ما قاله ذات يوم ألبير كامو عن وليام فوكنر، الذي إذ مات بعد كامو بعامين تقريباً كان من آخر ما قاله عن نفسه: "أنا على رغم كل شيء لم أتمكن من التقاط سر الموت ولا الامساك بسر الزمن". والحال اننا أمام عمل متكامل وكبير مثل عمل فوكنر الأدبي، لا تجدنا في نهاية الأمر إلا على حيرة من أمرنا في التأرجح بين "سر الأدب" من ناحية، و"سر الزمن والموت" من ناحية ثانية. وما قراءتنا لروايات فوكنر، بعد نحو نصف قرن من موته، سوى غوص في هذا التأرجح. وهذا الغوص في حد ذاته انما هو غوص في الجحيم، جحيم الفرد وجحيم الجماعة الذي عبر عنه فوكنر دائماً، هو الذي كان يحلو له أن يقول انه "بعد كل شيء" لم يكتب في حياته سوى رواية واحدة، بصيغ عدة لا تنتهي، رواية هي رواية البحث عن عالم كان هذا الكاتب يشعر انه غريب عنه: عالم لم يعد قائماً، وها هو يبحث عمن يعيد بناءه. صحيح ان فوكنر تنطح في نصوصه الى مهمة اعادة بناء هذا العالم، لكنه في خضم قيامه بتلك المهمة، كان دائماً يجد نفسه منشدّاً الى العالم القائم، فيرسمه كما هو ثم يرسم غربته عنه، باحثاً من جديد عن عالم مفقود ل... يعيد بناءه. كان فوكنر جنوبياً في أميركا، وكان يشعر بقوة تحدره من أسرة ارستقراطية، وكان شخصياً منعزلاً منطوياً على نفسه. وهو في الأحوال الثلاثة هذه ظل غير قادر على الاندماج في شيء. ولعل من يقرأ واحدة من روايات فوكنر الأساسية، "الصخب والعنف" يسأل حقاً: ترى لماذا يتعين على شخص ما أن يندمج في مثل هذا العالم؟ في مثل هذه الحال قد يبدو منطقياً أن تقول ان رسم فوكنر لعالم "الصخب والعنف" يبدو وكأنه ذريعة لرفض هذا العالم. لقد خلق فوكنر في أعماله عالم الجنوب الأميركي، وحرك شخصياته داخل هذا العالم، محملاً إياها أقصى درجات السقوط واليأس. والغريب ان هذا أتى - كتابة - في زمن كان فيه الحلم الأميركي لا يزال مشعاً وواعداً... إذ علينا أن نلاحظ ان كاتبنا هذا نشر "الصخب والعنف" عام 1929، عام الأزمة الاقتصادية المالية الأميركية الكبرى، أي انه كتبها قبل حدوث ذلك الشرخ المريع في الحلم الأميركي. ومع هذا تبدو الرواية وكأنها رواية ذلك الشرخ الكبير. رواية "الصخب والعنف" هي، بالطبع، أشهر أعمال وليام فوكنر، حتى وإن كان ثمة من بين الدارسين والنقاد من لا يعتبرها أقوى أعماله فيفضل عليها، مثلاً "نور في آب" أو "فيما احتضر" أو حتى "ابشالوم ابشالوم". غير ان "الصخب والعنف" على رغم آراء هؤلاء تبدو عملاً صامداً قوياً - حتى في ظل صعوبة قراءته - ينتمي الى تلك الحفنة القليلة من الأعمال الروائية الكبيرة التي ظهرت - في أوروبا بخاصة - خلال العقود الأولى من القرن العشرين، بتوقيع جيمس جويس "أوليس"، أو مارسيل بروست "البحث عن الزمن الضائع"، أو سيلين "رحلة الى آخر الليل"، أعمال اخترعت حداثة ذلك القرن، وأعادت الاشتغال على الأدب وعلى موقع الانسان في ذلك الأدب، وعلى مفهوم الزمن تحت وطأة شبح الموت والسقوط المخيم دائماً. الى مثل هذه الأعمال، لا الى الأدب الأميركي الذي كانت قد باتت له عراقته، وبساطته في الوقت نفسه، تنتمي "الصخب والعنف" إذاً... ما جعل كتاباً يسألون دائماً بصدد الحديث عنها وعن أدب فوكنر في شكل عام: ترى ما الذي راح الموت والزمن يفعلانه في بلاد البساطة؟ حين نشر فوكنر، "الصخب والعنف" كان في الثانية والثلاثين من عمره وكان قد كوّن لنفسه اسماً أدبياً لا بأس به خلال الأعوام القليلة السابقة، مع نشر "رواتب الجنود" 1926 و"بعوض" 1927، ثم "سارتوريوس" - أول عمل كبير حقيقي له - عام 1928. وهي رواية كان خيل اليه حين انجز كتابتها انها هي التي ستعطيه المجد المنشود لذلك لم يتوان عن تقديم تنازلات، في سبيل قبول الناشرين لها - تتضمن اختصار ربع مخطوطتها الأولية! ولكن من دون جدوى. وحين ظهرت "الصخب والعنف" على أي حال، بدا واضحاً أن فوكنر عرف أخيراً كيف يصل الى مكانته، إذ سرعان ما تلقفها الكتاب ليروا فيها، ليس فقط عملاً أدبياً كبيراً، بل أيضاً - وبخاصة -، أولى الروايات التجريبية الحقيقية في الأدب الأميركي: تجريبية من ناحية رسم الشخصيات، ومن خلال اسلوبها السيمفوني شديد الصعوبة المملوء بأفكار متداخلة متحررة من كل عبودية للغة ومن أي خضوع للمنطق... وتجريبية خصوصاً من ناحية علاقتها بالزمن. إذ على رغم طول الرواية نحو 400 صفحة في الترةمة العربية الرائعة التي قام بها جبرا ابراهيم جبرا، أحد كبار المتخصصين في أدب فوكنر في الساحة الثقافية العربية، نلاحظ انها تروي أحداث حياة وسقوط أسرة بأسرها - وأسرة جنوبية تحديداً تمثل في هبوطها هبوط الجنوب وقيمه كلها في آن معاً -، من خلال التقاط أربعة أيام، لكل يوم منها شخصية ترويه، وتلعب فيه وفي أحداث الأيام الأخرى دوراً أساسياً. ولقد صاغ فوكنر روايته هذه بحيث تبدو حكاية كل يوم من هذه الأيام، أشبه بحركة سيمفونية متكاملة. ففي اليوم الأول 7 نيسان/ ابريل - 1928 هناك الحركة الأولى، وأحداث تروى من طريق بنجي بنجامين معتوه عائلة كمبسن. ومنها نقفز الى يوم 2 حزيران يونيو 1910، حيث تطالعنا احداث يرويها كوينتن - الابن الآخر للعائلة - والذي ينتهي به الأمر - واليوم نفسه - الى الانتحار. وفي الحركة الثالثة هناك يوم 6 نيسان 1928، الذي يرويه لنا جاسن، الأخ الآخر، شرير العائلة ولصها، والذي لا يحسب للأخلاق أو الحس العائلي أي حساب. أما اليوم الرابع فهو 8 نيسان 1928، الذي يقدم لنا في حركة سيمفونية رابعة يلتقط الكلام فيها المؤلف نفسه. صحيح ان الأيام الروائية هنا - أي أيام الأحداث الأساسية هي هذه الأيام الأربعة... لكن الرواية من خلالها، وكذلك من خلال تكرار أحداث تروى لنا وهي نفسها بين يوم وآخر، تعود في الماضي نحو مئتي سنة الى الوراء لتروي لنا تاريخ أسرة كمبسن الأسرة الجنوبية ذات المجد الارستقراطي القديم والتي نطالع في الرواية كلها حكاية انهيارها بسقوط الاخوة الثلاثة كوينتن وجاسن وبنجي تباعاً، وبتحول الأخت كانديس الى عاهرة، بل تتقدم الرواية زمنياً، حتى بعد اليوم الأخير في أحداثها الأساسية 8 نيسان 1928 تتقدم حتى عام 1943 لتسمع ان كانديس أضحت، بعد ممارسة العهر طويلاً، عشيقة لجنرال ألماني في باريس... انطلاقاً من الأيام الأربعة التي يحددها الكاتب، لدينا حكاية ازدهار وانهيار أسرة اميركية جنوبية، قدمها الكاتب كالكلمات المتقاطعة محطماً زمناً لا وجود له في حقيقة الأمر إلا في ذاكرة شخصيات الرواية... ذلك اننا حين نبدأ في قراءة الرواية سنجد أن كل احداثها حدثت قبل تلك البداية، بحيث ان ما يطالعنا أساساً انما هو تذكر الشخصيات المعنية لها، وتفاصيل ما تتركه من آثار في نفس هذه الشخصيات. وفوكنر 1897 - 1962 حائز نوبل للآداب عام 1950، يعتبر واحداً من كبار الأدباء في القرن العشرين. ولقد انطلق أدبه الى العالم كله، معبراً عن أميركا وتعلقه بها، على رغم ان كل هذا الأدب تركز، من ناحية حيزه الجغرافي، في مكان "وهمي" في الجنوب الأميركي سماه يوكناباتوفا، له عاصمة تدعى جفرسون... وما كان هذان سوى كناية عن ولاية ميسيسيبي الجنوبية وعاصمتها اكسفورد - موطن المؤلف -. والحال ان روايات فوكنر التي تدور احداثها في هذا الحيز له دائماً نفس "الأبطال" ذاتهم تقريباً... وهم أبطال يشبهون الى حد كبير شخصيات مرت في تاريخ أسرة فوكنر نفسها وفي تاريخ الولاية والمدينة. غير ان هذه "المحلية" لم تمنع أدب فوكنر من أن يغزو العالم الخارجي - غير الأميركي - الذي كان فوكنر يعرفه جيداً من خلال تجوال طويل فيه، سبق سنوات شهرته ثم لحقها.