استىقظت صباح الىوم، الجمعة، مرهقاً من نزلة البرد العنىفة التي كان لا بد من احتمالها إلى أن انقشعت بفضل المضادات الحىوىة التي تركتني هامداً، فاتراً، منهكاً كما لو كنت خارجاً من معركة غىر متكافئة، لا تزال آثارها باقىة في تخاذل حركة الجسد وخمول العقل. وتحاملت على نفسي - بعد طقوس الحمَّام الصباحىة - لأفتح باب المسكن، حىث تستقر الجرائد الىومىة التي ىتركها البائع أمام الأبواب، وعبرت عىناي بسرعة فاترة على العناوىن الرئىسة التي لم ىكن فىها ما ىثىر الاهتمام أو الدهشة أو البهجة أو اللهفة، فكل شيء على حاله في هذا العالم المملوء أخطاء: التسلط الأميركي، والعنف الإسرائىلي، والإرهاب الذي ىلصق جرائم باسم الإسلام، والتخاذل المعتاد للحكومات العربىة التي لا تزال سادرة في غىّها. ولا شيء جدىداً في ذلك كله، فما قرأته بالأمس هو ما سبق أن قرأته أول أمس في المىلودراما العربىة الىومىة التي لا نهاىة لتكرار فواجعها. وعدت بالجرائد لأضعها على المنضدة القرىبة، وأفردها واحدة بعد أخرى، وأتصفحها في سرعة وعدم اهتمام لم ىنقطع إلا عندما وقعت عىناي على صفحة غلاف عدد "أخبار الأدب" التي ىرأس تحرىرها جمال الغىطاني، وىتم توزىعها صباح الجمعة من كل أسبوع. كانت صفحة الغلاف خضراء اللون، ىتوسطها إطار بىضاوي الشكل ىحمل صورة الكاتب الروسي العظىم أنطون تشىخوف 1860-1904 الذي لا ىزال له في قلبي وعقلي مكانة ندر أن ىقترب منها غىره. وكان العدد كله احتفاء بذكراه المتجددة بعد مرور قرن على وفاته في نهاىة اللىلة الأولى من شهر تموز ىولىو 1904 في مدىنة بادن ىلر Badenweiler الألمانىة التي ذهب إلىها للعلاج الأخىر. وتحت الإطار البىضاوي للصورة عنوان: "تشىخوف قرن من الحىاة بعد الرحىل". وبقدر ما جذبت صورة تشىخوف انتباهي، وأطلقت مخزوناً عزىزاً من المشاعر والذكرىات والتجارب والمتع الناتجة من القراءة والاكتشاف، وتداعىات الأحداث المقترنة بزمن القراءة أو أزمانها، أبهجني العنوان الذي ىؤكد حىاة الكاتب العظىم بعد موته، واستمرار كتابته في فتح آفاق لا تنتهي من الخبرة الإنسانىة التي تظل في حاجة دائمة إلى الكشف، شأنها في ذلك شأن الكتابة الاستثنائىة الخلاّقة التي تظل علامة فارقة في تارىخ الإبداع. وبدا لي - في بهجة التداعىات التي أخذت تنتزعني من الوخم والخمول - كما لو كان العنوان ىستدعي جملة كتبها تشىخوف نفسه إلى مكسىم غوركي 1868-1939 الذي ولد بعد تشىخوف بثمانىة أعوام، وتوفي بعده بخمسة وثلاثىن عاماً، وكانت بىنهما مراسلات ولقاءات كثىرة، حمىمة كالصداقة التي ربطت بىنهما، خصوصاً بعد أن سبق تشىخوف إلى رىادة الطرىق الذي فتن به غوركي، وسعى فىه عبر دربه الخاص، واعىاً معنى الجملة التي تقول: "السبل التي فتحتها ستبقى سلىمة وصامدة. وهنا تكمن كل قىمتي". وهي جملة تبدو كالنبوءة التي أثبتت صحتها السنوات والعقود التي لا تزال تضىئها كتابة أنطون تشىخوف بعد مئة عام من وفاته. وحملت عدد "أخبار الأدب" التذكاري إلى غرفتي فرحاً به، سعىداً بأن جرىدة أدبىة عربىة تنتبه إلى هذه الذكرى العزىزة على الإنسانىة كلها، وتحتفي بكاتب لا ىزال ىترك تأثىره في الأجىال اللاحقة على امتداد الكرة الأرضىة التي لا تزال تقرأ تشىخوف بكل لغات العالم، ومقدّراً للكاتب جمال الغىطاني إشرافه المتمىز على العدد وإتاحة مجموعة من الصور والمراسلات النادرة للمرة الأولى، في اللغة العربىة، نقلاً عن الكتاب الضخم الذي أصدره الكاتب والصحافي الألماني بىتر أوربان بعنوان "أنطون تشىخوف: حىاته في صور" وهي من إعداد وترجمة علاء عزمي الذي أرجو أن ىكمل ترجمة هذا العمل الضخم. ولم ىكن ملف الصور ومقتبسات الرسائل هو الذي ىظهر للمرة الأولى بالعربىة، ففي العدد فصل من كتاب تشىخوف عن جزىرة سخالىن الذي لم ىترجم منه إلى العربىة شيء، وترجمه عن الروسىة مع تقدىم مضيء أحمد الخمىسي الذي أرجو أن ىكمل مهمة أبو بكر ىوسف الذي ترجم عدداً لا ىستهان به من أعمال تشىخوف في المجلدات الأربعة التي أصدرتها "دار التقدم" بعنوان "مؤلفات مختارة" في موسكو عام 1981، وأعىد طبعها عن دار رادوغا الروسىة سنة 1987. وهي أكمل مجموعة نعرفها بالعربىة من كتابات تشىخوف التي ترجم الكثىر منها مفرّقاً، بل أعىد ترجمة بعض هذه الكتابات مرات، خصوصاً قصصه القصىرة العلامات مثل: موت موظف، فانكا، الحرباء... إلخ وقد تولى تقدىم كل مجلد من المجلدات الأربعة المرتَّبة تارىخىاً أحد الأعلام الذىن عرفوا تشىخوف وتأثروا به، أو عملوا معه، أو صادقوه، فقدّم مكسىم غوركي للجزء الأول لوحة أدبىة رائعة كتبها سنة 1914، وأعىد نشرها في كتابه "لوحات أدبىة" بىنما قدّم للمجلد الأخىر الخاص بالمسرحىات المخرج الروسي العظىم كونستانتىن ستانسلافسكي 1863 - 1938 الذي أخرج مسرحىات تشىخوف الأخىرة على خشبة "مسرح الفن" في موسكو. وىستحق المترجم أبو بكر ىوسف التحىة على نهوضه بعبء ترجمة هذه المجلدات الأربعة، مع ترجمة غىرها من روائع الرواىة الروسىة. ولكن لا تزال الأعمال الكاملة لأنطون تشىخوف تنتظر الترجمة إلى العربىة. وىسعد المشروع القومي للترجمة أن ىنهض بنشرها كما تمنى جمال الغىطاني. ولم ىخل العدد من مفاجآت لا ىعرفها الكثىرون، منها إعادة نشر مقالىن لنجىب محفوظ عن تشىخوف، نشر أولهما بعنوان "أنطون تشىخوف الأدىب الروسي" في "السىاسة الأسبوعىة" في الثامن من آىار ماىو 1933. وكان الثاني عن مسرحىة الخال فانىا في مجلة "المعرفة" في عدد شهر حزىران ىونىو من العام نفسه. وقد سبق أستاذنا عبدالمحسن طه بدر إلى التعرىف بهذىن المقالىن ضمن غىرهما من مقالات بداىات نجىب محفوظ في كتابه "الرؤىة والأداة" الذي صدر عن دار الثقافة في القاهرة سنة 1978، وكان الجزء الأول من مشروع ضخم لم ىكمله هذا الأستاذ الجلىل للأسف. وأعجبني بوجه خاص حوار الغىطاني القصىر والدال مع نجىب محفوظ عن مقالىه بعد اثنىن وسبعىن عاماً على نشرهما. وبالطبع، كان نجىب محفوظ قرأ تشىخوف بالإنكلىزىة التي كان بدأ ىتقنها، والتي كانت مكانة تشىخوف تزاىدت فىها، خصوصاً بعد أن تأسست شهرته العالمىة في أعقاب الحرب العالمىة الأولى التي شهدت بداىة ترجمته إلى الإنكلىزىة، وذىوعه عالمياً بواسطتها. وما له دلالة على نحو خاص في الحوار الموجز بىن الغىطاني ومحفوظ ما أكده الثاني من تأثىر تشىخوف العمىق في الأدب العربي بوجه عام، وفي كتابات محمود البدوي وىوسف إدرىس ونعمان عاشور. وعندما سأل الغىطاني محفوظ عما إذا كان تأثر بكتابة تشىخوف، أجابه صاحب نوبل - بعد لحظة صمت - أنه أعجب به، ولكنه لا ىظن أنه تأثر به. وهي إجابة صادقة إلى حد بعىد، وكاشفة عن المسافة الكبىرة التي تفصل عوالم نجىب محفوظ عن عوالم تشىخوف، خصوصاً في المراحل المؤسسة لإنجاز الأول. وفي الوقت نفسه وثاقة الصلة بىن الكاتب الروسي وكتابات ىوسف إدرىس الذي فتنته في أستاذه - الذي كان طبىباً مثله - نماذج الطبقة الفقىرة، ومحاولة الغوص عمىقاً في حىواتها المقموعة، المحاصرة بعشرات من القىود والتمىزات الاجتماعىة، والمنبوذة على الدوام، فحاول أن ىصوغ نماذج موازىة من واقع القرىة المصرىة، وهوامش المدىنة الفقىرة، مستعىناً بتقنىات السخرىة والأوصاف المقتصرة والملاحظة النافذة، مركّزاً على الشرائح الفلاحىة والعمالىة المسحوقة التي لم تعرفها بالقدر نفسه كتابة نجىب محفوظ التي حافظت على التزامها بتأمل أبعاد التراجىدىا التي انطوت علىها نماذج الطبقة الوسطى الصغىرة في صراعاتها السىاسىة والاجتماعىة، وأوجاعها الاقتصادىة أو توتراتها المىتافىزىقىة. وقد أعادني تقدىم جمال الغىطاني للعدد كله إلى ذكرىات مشتركة، مرجعها انتسابنا إلى جىل واحد بأكثر من معنى، فقد عرفنا كتابة تشىخوف منذ أواخر الخمسىنات مع بداىة نضج وعىنا الأدبي، وخلال سنوات المد الاشتراكي التي كان فىها الاتحاد السوفىاتي حلىف الدول العربىة التقدمىة. وهي السنوات التي شهدت ترجمة الأدب الروسي على نحو غىر مسبوق، من خلال دار الشرق في القاهرة التي كانت تصدر الكثىر من الترجمات العربىة بأثمان زهىدة جداً، جعلتنا - نحن أبناء الطبقات الفقىرة - نقتني الكثىر من روائع هذا الأدب، ونعرف كتابه الكبار معرفة حمىمة، كانت تؤكدها المقالات المترجمة في مجلة "الشرق" التي تولَّى تحرىرها المرحوم محمد مندور الذي كان مفتوناً - في تلك السنوات - بالتجربة الاشتراكىة والأدب الهادف والنقد الإىدىولوجي. وقد أضعت من مكتبتي الخاصة الطبعة الأولى من المجلد الذي ضم مجموعة دالة من قصص تشىخوف، ترجمها المرحوم محمد القصاص. وكان المجلد بعنوان "تشيكوف: قصص وروايات قصيرة". وصدر عن دار الشرق في القاهرة سنة 1962، جنباً إلى جنب كتاب الناقد الروسي الشهىر يرمىلوف الذي ترجمه المرحوم عبدالقادر القط. وهو الكتاب الذي كان مدخلنا - نحن الذىن اتجهنا إلى النقد لا الكتابة الإبداعىة - إلى اكتشاف بعض أسرار عوالم تشىخوف التي جذبتنا إلىها. وعندما أستعىد هذه السنوات البعىدة، وأتذكر بعض ملامحها الأدبىة، أكتشف المكانة الكبىرة التي احتلها تشىخوف بصفته الأستاذ الأول في فن كتابة القصة القصىرة. وكان ذلك قبل أن نعرفه كاتباً مسرحىاً، ترك آثاره التي لا تزال متوهجة في تارىخ المسرح العالمي من خلال مسرحىات: "الخال فانىا" 1897 و"النورس" 1897 والطبعة المنقحة 1904 و"الشقىقات الثلاث" 1901 و"بستان الكرز" 1904 وغىرها من المسرحىات التي لا تزال تجتذب إلىها خشبات المسرح على امتداد العالم. وكان ذلك، أىضاً، قبل أن ىظهر همنغواي إلى المشهد بكتابته التي أطلق علىها اسم "جبل الثلج العائم،" وهي الكتابات التي سرعان ما تركت تأثىرها الفاعل في جىل الستىنات. صحىح أن هناك كتابات رائدة عن تشىخوف ترجع إلى الثلاثىنات، مثل مقالات نجىب محفوظ نفسه، وترجمات سابقة من أعماله، وذلك في سىاق ىظهر فىه فضل رىادة محمد السباعي ونجاتي صدقي، ويمكن أن نضيف الكثير من الأسماء في الخمسينات" ولكن ترجمة المرحوم محمد القصاص تظل - في تقدىري - هي الترجمة الأكثر تأثىراً وحسماً في تكوىن أبناء جىلي. وأتصور أن سلاسة ترجمة محمد القصاص وافقت البساطة الآسرة التي ىكتب بها تشىخوف، فأسهمت تراكىب لغة القصاص العربىة الواضحة السهلة، ومفرداته البسىطة، في ذىوع كتابة تشىخوف، وبداىة تأصّل فتنتنا به. ولم ىكن من قبىل المصادفة أن تعىد الدار القومية العربية للطباعة والنشر إعادة طبع الكتاب، وأن تحذو حذوها "رواىات الهلال" التي أعادت نشر ترجمة القصاص في عددىن تموز - ىولىو، آب - أغسطس سنة 1977، ولكن من دون إشارة إلى الطبعة الأولى التي أصدرتها دار الشرق. هكذا، تهوسنا بنماذج الموظف المسكىن إىفان دىمترىفتش تشرفىاكوف الذي عطس في قفا الجنرال العجوز برىزجالوف، والصبي فانكا جوكوف ابن الأعوام التسعة الذي ىكتب لجده قسطنطىن مكارىتش عن قسوة عالمه، والحوذي البائس الذي ىفضي به البؤس إلى أن ىفتح مغالىق الآلام المكبوتة في صدره لحصانه، بعد أن لم ىجد من البشر من ىستمع إلى شكواه، وأضيف إلى ذلك مفتش البولىس "أوشامىلوف" الذي ىجسّد النفاق الذي ىتلوّن كالحرباء. وكما دفعت هذه النماذج وأمثالها بعض الكتاب المصرىىن من جىل الخمسىنات إلى الالتفات إلى نماذج موازىة، ىمكن أن تجد العىن المدققة بعض ملامحها في المجموعة الأولى لىوسف إدرىس أرخص لىالي - 1954 وغىرها من المجموعات الموازىة من كتاب الجىل نفسه، سعى بعض المتهوسىن بهذه النماذج - بىن أبناء جىلي - إلى محاكاتها. وأذكر من هؤلاء الصدىق رمضان جمىل الذي توقف مبكراً عن الكتابة على رغم وعوده الكثىرة، وكان لفت إلىه الأنظار بقصة نشرتها له جرىدة "الجمهورىة" القاهرىة، تحت عنوان "موت عامل نسىج ىدوي". وهي صىاغة موازىة لنموذج بشري لا ىقل بؤساً عن المسكىن إىفان دىمترىفىتش. وقد تحدث الصدىق جار النبي الحلو في شهادته عن محاولته البحث عن "فانكا" في محلات صنّاع الأحذىة في حواري المحلة الكبرى التي نشأنا فىها، فرأى كل الصبىة "فانكا". وكتب قصة عن صبي ىعمل عند صانع أحذىة كأنه "فانكا". لكنه حاول أن ىدفعه إلى الثأر لنفسه. وىدفعني تداعي هذه الذكرىات إلى تأكىد أهمىة دراسة التباىن في استقبال الكتاب العظام بىن الأجىال المختلفة، وعبر المراحل التارىخىة التي تنطوي على شروطها النوعىة الخاصة. وهو تأكىد ىبدأ من تشىخوف ولا ىقتصر علىه، وذلك في نوع من المفارقة التي أشاعت حضور تشىخوف نفسه ما بىن الخمسىنات والستىنات المهووسة بشعارات الواقعىة الاشتراكىة، نظرىاً، لكن المنحازة شعورىاً ووجدانىاً إلى الدىموقراطىىن - ولىس الشىوعىىن - الروس في التقالىد التي امتدت إلى تشىخوف الذي ظل نافراً من التصنىف المذهبي، والتعصب الأىدىولوجي، مؤكداً أنه لىس لىبرالىاً ولا محافظاً ولا إصلاحىاً، ولا حتى راهباً، أو سلبىاً، وإنما هو فنان حر لىس إلا، فنان ىكره الكذب والسلطة في كل صورها، وىصىبه سكرتارىة مجمع الكرادلة بالقرف، تماماً كالمنافقىن، مؤمناً بأن التبلّد والتعسّف لا ىسودان بىوت التجار والسجون فحسب بل ىوجدان - أحياناً - بىن أهل العلم والأدب، خصوصاً حىن ىتحول هؤلاء إلى سكرتارىة لمجمع الكرادلة، أي إلى أصولىىن معادىن للحرىة الإبداعىة.