يمكن القول اي شيء عن القرار 1559 باستثناء انه "انتصار سياسي". اذ ان استخدام عبارة "الانتصار" لوصف هذا القرار في هذه المرحلة خطأ سياسي جديد ويعني ان المستقبل ربما يخبئ قراءة غير واقعية لما يحصل. للتذكير فإن الاستخفاف ب"قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان" لدى اقراره في ايار مايو الماضي ووصفه من جانب بعض المسؤولين السوريين بأنه "مضحك" و"يضر بأميركا اكثر من سورية"، تبين لاحقاً انه تقويم خاطئ. ولئلا تتكرر التجربة، لا بد من قراءة واقعية بعيدة من المبالغة والاستهانة بالقرار 1559، ذلك للحد من آثاره السلبية. صحيح ان عدداً من "الانجازات الديبلوماسية" السورية - اللبنانية حصل، وتمثلت بحذف "الفقرات القاسية" وعدم ذكر سورية بالاسم وازالة التلويح ب"اجراءات اضافية"، وعدم قدرة واشنطنوباريس على جمع اكثر من تسعة اصوات لتمرير القرار بعد التعديل. لكن هنا بعض النقاط الخطرة: - ان القرار "يدوّل" للمرة الأولى الوجود السوري في لبنان بعدما كانت دمشق معارضة دائماً لهذا التدويل منذ اعلان الرئيس الراحل حافظ الاسد عبارته الشهيرة "ارفعوا ايديكم عن لبنان" لدى دخول القوات السورية الى لبنان في العام 1976. - على رغم ان القرار حذف اسم سورية من بنوده، فإن الحديث عن "القوات الاجنبية المتبقية" يفتح المجال لسجال طويل ان المعني هو الجيش السوري. بامكان دمشقوبيروت ان تقولا ان المقصود هو الاحتلال الاسرائيلي لمزارع شبعا. لكن الاممالمتحدة ووراءها اميركا، تعتقدان ان اسرائيل نفذت القرار الدولي لدي انسحابها من جنوبلبنان في ايار العام 2000. وبالتالي فإن الجدل يتطلب حملة ديبلوماسية مكثفة ومنظمة. - صحيح ان عبارة "تدابير اضافية" حذفت من المادة السابعة، لكن بقاء نص "ان تتابع هذه المسألة في شكل حثيث ويطلب من الامين العام ان يرفع تقريراً الى مجلس الامن خلال 30 يوماً على تطبيق الاطراف هذا القرار "يترك الوجود السوري مطروحاً في الاروقة الدولية. كما يترك دمشق تحت الضغط الاميركي. وصحيح القول ان هذه العبارة واردة في جميع قرارات مجلس الأمن، لكن ظروف صدور القرار 1559 مختلفة بسبب وجود ارادة سياسية اميركية - أوروبية وراء اطلاقه. - ان نظرة متفحصة لبنور القرار تقود الى الاقتناع ان نصه كان صياغة دولية ل"قائمة المطالب" التي تقدم بها وزير الخارجية كولن باول الى سورية في العام الماضي، ثم تمت صياغة قسم منها في "قانون محاسبة سورية واستعادة لبنان" خصوصاً ما يتعلق ب"احترام السيادة اللبنانية" و"تفكيك" بنية "حزب الله" ونشر الجيش اللبناني في جنوبلبنان. كانت دمشق تقول ان "قانون المحاسبة" الذي اقره الكونغرس في نهاية العام الماضي ووقع عليه الرئىس بوش في ايار الماضي هو "تشريع اميركي ليس له قوة دولية"، لكن يبدو ان اعداء سورية وجماعات الضغط اللبنانيين استطاعوا النفاذ الى مجلس الامن من البوابة اللبنانية لمزيد من الضغوطات على سورية. لكن الاخطر من هذه العوامل هو التوافق الأوروبي - الأميركي على قاعدة اميركية - فرنسية نادرة الحصول، على بناء منصة سياسية للضغط المستمر على سورية وخفض سقفها ونفوذها الاقليمي. اذ لم يقرأ المسؤولون السوريون جيداً الاشارات المقبلة من اوروبا وخصوصاً من فرنسا في الاشهر الاخيرة. لقد توصلت المفوضية الأوروبية وسورية في 9 كانون الاول ديسمبر الماضي الى مسودة اتفاق الشراكة السورية - الأوروبية، لكن هل كانت مصادفة ان الدول الأوروبية جمدت توقيع الاتفاق بمجرد اقرار "قانون المحاسبة"؟ كان سبب العرقلة العلني هو بند اسلحة الدمار الشامل ومطالبة سورية ب"اتخاذ خطوات" من اجل توقيع "جميع" الاتفاقات الدولية الكيماوية والبيولوجية والنووية والجرثومية. واذا كان فيتو بريطانيا بسبب "انزعاج" رئيس الوزراء توني بلير من موقف دمشق من الحرب على العراق وهولندا بسبب موضوع حقوق الانسان والمجتمع المدني في سورية وألمانيا بسبب "العقدة التاريخية" في العلاقة مع اسرائيل، فإن المفاجأة الاكبر كانت من باريس لانها "لم تقف كتفاً الى كتف مع السوريين" وحسب، بل انها كانت تنتقل تدريجاً من موقع "الحياد السلبي" الذي تم التعبير عنه في اتفاق الشراكة الى "الهجوم الايجابي" في تبني مشروع القرار 1559 ومبادرتها في "جس نبض" الاميركيين منذ اشهر وقيام الرئيس جاك شيراك باثارة الموضوع في قمة دول الثماني في حزيران يونيو الماضي ثم في قمة استنبول لحلف الناتو والقمة الثلاثية الروسية - الفرنسية - الالمانية. في العام 1995 كان سهلاً داخلياً واقليمياً ودولياً تمرير التمديد للرئيس السابق الياس الهراوي. اذ ان سورية كانت انجزت "صفقة" مع الاميركيين لاخراج ميشال عون من لبنان واطلاق عملية السلام في الشرق الاوسط وفق "مبدأ الارض مقابل السلام" والقرارين 242 و338 في مقابل وقوفها الى جانب "التحالف الدولي" المعارض لغزو العراق للكويت. كما ان الجيش اللبناني انتشر في جنوببيروت. وكانت باريسودمشق تبحثان في "الشراكة الاستراتيجية". وسعت سورية كي تكون فرنسا بديلاً للاتحاد السوفياتي في الشرق الاوسط وتمثل هذا في ادخال الرئىس الراحل حافظ الاسد فرنسا في مجموعة مراقبة تقاهم نيسان ابريل العام 1996 في مقابل "اعتراف" فرنسي بالدور السوري الخاص في لبنان. كما ان الدكتور بشار الاسد اختار باريس لتكون اول اطلالة خارجية له في تشرين الثاني نوفمبر العام 1999 قبل تسلمه الحكم. وكانت باريس ثاني محطة له بعد تسلمه الرئاسة في حزيران 2001، اضافة الى قيام الرئىس شيراك ب"تبني" مشروع الاصلاح السوري في المجالات الادارية والقضائية والمالية والمصرفية. لكن ما هي اسباب "الانقلاب" الفرنسي على دمشق؟ يمكن ذكر الاسباب الآتية: - خيبة فرنسية من الرهان على مشروع الاصلاح السياسي والاقتصادي والاداري في سورية في السنوات الاربع الاخيرة. - خيبة كبيرة لدى قيام سورية بمنح اكبر عقد نفط لاستثمار الغاز السوري بقيمة 759 مليون دولار اميركي الى تجمع شركات اميركية - بريطانية - كندية هي "اكسيدندتال" و"بتروفاك" و"بترو كندا". وما "أزعج" الفرنسيين ان العقد اعطي لشركات اميركية بعد اقرار "قانون المحاسبة" في الكونغرس وقبل توقيع بوش عليه. لكن الانتقاد الاكبر كان ان ذلك جرى على رغم "تدخل" الرئيس شيراك شخصياً لمنح العقد لشركات فرنسية. وكانت نتيجة هذه "الخيبة" اعتقاد الفرنسيين ان السوريين "لا يستجيبون الا الى العقوبات وليس الى الصداقات". وربما هذا يفسر الانتقال من خانة الاصدقاء الى خندق الضاغطين. - العلاقة الخاصة المتنامية بين الرئيس جاك شيراك ورئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وقيام الاخير بنقل شكاوى من طريقة ادارة الوجود السوري في لبنان وشكاوى تتعلق بعلاقته مع الرئيس اميل لحود. - كانت فرنسا تراهن على نفوذ اقتصادي وسياسي وثقافي في سورية في مقابل تخليها عن دورها باعتبارها "الأم الحنون" للبنان. لكن هذا الرهان لم يأت ثماره منذ نهاية التسعينات، بل ان الرهان السوري الجدي كان على علاقة حوار مع واشنطن. - ان تبني مشروع القرار 1559 يعكس رغبة فرنسية في اصلاح العلاقة مع اميركا التي اصابها الكثير من الخراب بسب معارضة باريس الحرب على العراق. الحرب التي تمت وانتهت. وتسعى فرنسا لنيل حصتها من كعكة اعادة اعمار العراق. لقد تم التعبير عن الكثير من هذه الافكار خلال لقاء الرئىس شيراك مع نائب الرئيس عبدالحليم خدام في نيسان الماضي. وكانت هناك ردود سورية على كل بند من هذه البنود خصوصاً الشكاوى الرسمية من ان دمشق "لا تسمع سوى كلام من باريس التي ترتمي في حضن واشنطن لحظة الحسم"، وان الدور الاساسي بالنسبة الى عملية السلام والتأثير على اسرائيل لاعادة الجولان هو في واشنطن وليس في باريس او بروكسيل الأوروبية، اضافة الى رفض الحكومة السورية "الاملاءات الاصلاحية" القادمة من باريس او أوروبا لأن "دورهم يجب ان يكون استشارياً فقط وليس فرضياً". عالم اليوم تغير كثيراً بعد 11 ايلول سبتمبر وهو غير عالم العام 1995. اذ ان عملية السلام مجمدة وليست كما كانت الحال في التسعينات عندما كانت سورية "على وشك" توقيع اتفاق سلام مع اسرائىل برعاية اميركية وبانخراط لتطوير العلاقات بين دمشقوواشنطن. سورية عارضت الحرب على العراق على عكس تأييدها "عاصفة الصحراء" العام 1991. كما ان اميركا تحاول وضع سورية بين "فكي كماشة" الجيش الاميركي شرقاً والاسرائىلي جنوباً. كان هناك اعتقاد سوري ان تبادل المعلومات الامنية مع الاميركيين بعد احداث 11 ايلول سيكون ضامناً للتخفيف من الضغطذ الاميركي. لكن ذلك لم يحصل لأن المستهدف هو النفوذ الاقليمي لسورية التي تمسك باسنانها ب"الاوراق الاقليمية" سواء بعلاقتها مع لبنان او "حزب الله" او بالابقاء على النفوذ الى القضية الفلسطينية عبر "حماس" و"الجهاد" والخطاب القومي الاعتراضي للمشاريع الاميركية. والمفارقة الغربية هي ان الاسباب التي دفعت الى التمديد ل"نهج" الرئىس لحود هي التي دفعت واشنطن الى الضغط لتمرير القرار الدولي على أمل دفع سورية للارتماء في الحضن الاميركي وبلعب الدور الفاعل في الاجندة الاميركية في الشرق الاوسط باحكام الضغط عليها في خصرها اللبناني غرباً لتظهر ليونة وتنازلات في خصرها العراقي شرقاً. للنظام السوري عناصر قوة استراتيجية: علماني، مستقر لنحو ثلاثة عقود، عامل استقرار في الشرق الاوسط عموماً وفي لبنان، محاربة الاصولية الاسلامية وتعاون مع الاميركيين ضد تنظيم "القاعدة"، التزام اتفاق فك الاشتباك مع اسرائيل للعام 1974، وقدرة على "تفكيك" المنظمات الراديكالية. ومثلما تجعل هذه العناصر النظام السوري "شجاعاً" في اللعب بأوراقه الاقليمية الى "حافة الهاوية"، فإنها تجعل واشنطن تبقي ضغوطها في ساحة "تغيير سياسة النظام" وليس "تغيير النظام". اي الضغط لنزع اوراق سورية واحدة بعد الاخرى. ومن هنا، تكمن أهمية تحديد الاولويات السورية والتخلي عن الاوراق الهامشية للحفاظ على الاوراق الاستراتيجية لأن العالم ما بعد 11 ايلول واحتلال العراق لا يسمح بالامساك بكل الاوراق والاعتراض. كما ان هذا "العالم" لا يسمح لكثير من الاخطاء، التي يتصيدها "المحافظون الجدد" في واشنطن. * صحافي من أسرة "الحياة"