الحديث عن القوة في النظام العالمي المعاصر حديث مهم، وإذا كان المتحدث عن القوة هو جوزيف ناي فهو حديث ذو أهمية خاصة، يجب أن ننصت إليه، فهو في صدارة المتحدثين عن الصراع والأزمات وكل ما يتعلق بالسياسة العالمية. ولا غرو بعد ذلك أن مركز الدراسات الاستراتيجية في لندن The International Centre for strategic Studies أفسح له في المجال سواء في مجلته Survival أو في كراسته التي تصدر عنه Adelphi Papers. لفت انتباهي حديث مهم لجوزيف ناي نشر في جريدة "الأهرام ويكلي" التي تصدر في القاهرة باللغة الانكليزية في عنوان "الإمبراطورية الاميركية"، قسم فيه القوة إلى أنواع ثلاثة: القوة الصلبة Hard Power والقوة الناعمة Soft Power والقوة الرشيقة Smart Power، كوسائل لسلوك الدول في التعامل مع بعضها البعض، وفي رأيه أن القوة الصلبة عبارة عن استخدام القوة لتحقيق أغراض الدولة، أما القوة الناعمة فهي قدرة الدولة على إقناع غيرها من الدول لتحقيق ما تريده بالإقناع وليس بالقهر وهي تنطلق أساساً من الجذور الثقافية للدولة ومن مثلها السياسية، أما القوة الرشيقة فهي تولد من رحم القوة الناعمة وهي عبارة عن الموازنة بين القوة التقليدية - الصلبة والناعمة - والقوة غير التقليدية مثل كسب القلوب والعقول أي بالقدوة التي تحتذى ... وفي رأيي أن هذه مثالية يندر أن تحدث حتى لو توافرت الرغبة. وهنا لي وقفة لكي أوضح نفسي أمام تساؤلات قد تتردد هنا أو هناك عن أنني باختياري هذا الموضوع ألعب خارج الملعب، فالأحداث من حولنا وفي داخلنا لا تدعو أبداً إلى هذه الرفاهية في التفكير النظري في مثل هذه القضايا، ولكنني أرى أن مثل هذا القول هو وجه واحد من قطعة النقود. يعني أن له وجاهته ولكن لن يكتمل الأمر إلا بقراءة الوجه الآخر. ففي النظام العالمي المعاصر الذي تترأسه وتحاول تشكيله الولاياتالمتحدة تحت إدارة الرئيس جورج بوش تستخدم القوة - بل القوة الصلبة - في التصدي للقضايا وذلك على المستوى العالمي تشبهاً باستراتيجية إسرائيل تحت رئاسة آرييل شارون على المستوى الاقليمي. وهذا حافز ولكي نعرف وبدقة علاقة السياسة بالقوة على اختلاف انواعها طالما أصبحت الدول الرئيسة على المستويين العالمي والاقليمي ترفض مبادئ الردع والاحتواء ولا تؤمن إلا باستخدام القوة في عمليات خسائرها فادحة في النواحي المادية والمعنوية وفي الوقت نفسه تعقّد الأزمات ولا تحلها وتنشر عدم الاستقرار الذي يمهد الطريق إلى الإرهاب وتذلل العقبات أمام التوحش ليسود النظام العالمي الذي لا يعترف بالشرعية أو القانون. وعلينا في البداية لتفصيل ما ذهب إليه جوزيف ناي أن نفرق بين قدرة الدولة وقوتها لأن القدرة هي مجموع قواها السياسية والمالية والاقتصادية والروحية والعسكرية وتتعامل الدول الرشيدة مع بعضها البعض بقدراتها. أما إذا اعتمدت دولة ما على قوتها العسكرية فقط متجاهلة بقية قواها، فإنها بذلك ستجد نفسها تعيش على اقتصاديات الحرب الدائمة التي تقود إلى استنزاف قواها بمرور الوقت لأن الحرب هي فترة استثنائية بين فترتي سلم، فإذا انقلبت إلى إجراء له صفة الدوام كحال إسرائيل فإن هذا سيقودها إلى طريق لا نهاية له ويجعل معيشتها متوقفة على دولة أو دول أخرى علاوة على أنها ستعتبر دولة شاردة Roage Paviah State قامت وتأسست بالقوة وستنتهي وتزول بالقوة أيضاً وستظل طائفة مرعوبة تبحث عن الأمن جيلاً بعد جيل من دون جدوى وكأنه سراب! ولنا هنا وقفة سريعة ولكنها مهمة، فهناك دول عربية - وحتى وهي منفردة - تتفوق على إسرائيل في القدرة، فما بالنا لو تحدثنا عن جامعة عربية تشمل كل الدول العربية من حيث المساحة والعمق وطول السواحل والمياه والنفط والغاز الطبيعي والقوة البشرية ورأس المال!. بل يمكننا أن نقرر ونجزم أنها تتفوق عليها أيضاً من ناحية القوة العسكرية عدداً وحجماً ونفقاتها الدفاعية أكثر من إسرائيل مرات ومرات، ولكن لا القدرة العربية أو القوة العسكرية العربية هُيئت بطريقة سليمة تقودها إلى النجاح حينما يحين وقت الاختبار، وعليكم أن تحددوا معي مسؤولية من هذه "الوكسة" رجاءً!!. والقوة إما أن تكون ساكنة Static في المخازن أو أماكن انتشارها وإما تكون متحركة Dynamic في مسارح العمليات لتغيير الأمر الواقع، وهي حينئذ، تنطلق من دون توقف حتى تتصدى لها قوة أخرى توقفها ثم تجبرها للعودة من حيث أتت، القوات الاميركية انطلقت بعد عملية "عاصفة الصحراء" إلى كوسوفو ثم إلى افغانستان ثم في عملية "الحرية للعراق" وتهدد الآن أماكن أخرى وستستمر في هذا العبث الجنوني حتى تتصدى لها قوى أخرى تجبرها على التخلي عن جبروتها كما تحاول الآن تنظيمات "القاعدة" في أفغانستان والمقاومة في العراق وفي الوقت نفسه تنطلق القوات الإسرائيلية في غزةوالضفة الغربية وتخترق الأجواء اللبنانية وتبني الجدار العنصري وستظل في عدوانها إلى أن تتصدى لها قوة أخرى وتجبرها على إعادة انتشار قواتها في أوضاع معقولة، كما حدث عند انسحابها من الضفة الشرقية لقناة السويس إلى حدودها السياسية في سيناء وما يحدث الآن من إعلانها رغبتها في الانسحاب من غزة وجزء من الضفة الغربية. وعلينا أن نلاحظ أن انطلاق القوة هكذا يصيب أصحابها "بغرور القوة" ويحدثنا التاريخ عن إمبراطوريات كثيرة لاقت حتفها نتيجة اصابتها بهذا المرض الخطير الذي يفقد الدولة الطاغية القدرة على التوقف عند "حد الكفاية" وحينئذ تصبح الأغراض المستهدفة خارج قدرة الوسائل المتاحة فتتآكل القوة ذاتياً لأنها إن أرادت أن تكون قوية في كل مكان ستصبح ضعيفة في كل مكان لأن الانتشار الواسع يجعلها رقيقة لا عمق لها وبذلك تصبح سهلة الاختراق. وللقوة الساكنة تأثير القوة المتحركة نفسه، إذ تحقق الردع Deterrence أو الاحتواء Containment الأمر الذي ترفضه الاستراتيجية الاميركية الحالية، فلمواجهة التناقضات يجب ضربها والأقدام على الأرض Boots on Ground ولكن ثبت فشل هذه الاستراتيجية في أفغانستانوالعراق، إذ في الوقت الذي أصبحت فيه الولاياتالمتحدة مرعبة فهي في الوقت نفسه مرعوبة، مرعبة للآخرين ولكنها مرعوبة خائفة من ضربة خفية توجه إليها في الظلام مما سينعكس على إجراءاتها التي تجعل العالم ينظر إليها على أنها أميركا ذات الوجه القبيح وتجسد في الوقت نفسه صنف القوة وقوة الصنف The Impotence of Power and The Power of Impotence، إذ جعلت باستراتيجيتها الخاطئة الأقزام يتصدون لأميركا العملاقة ما ينفر منها خلفاؤها ويقودها بمرور الأيام لكي تفعلها وحدها بل وتستجير من الرمضاء بالنار. وكما نرى فإن عامل القوة موجود لا يمكن تجاهله سواء استخدمت وهي صلبة أو ناعمة أو رشيقة، فالرشاقة لا تعني الضعف وانعدام القوة بل كلما كان الجسم رشيقاً كلما كان أقرب إلى القوة، وكذلك مع القوة الناعمة فإن يلبس الملاكم قفازه فإن هذا لا يعني أن ضرباته فقدت قوتها، يعني لا بد من توفر القوة أولاً ليحس بها الأعداء والأصدقاء على حد سواء ثم بعد ذلك يكون اختيار طريقة استخدامها سواء وهي صلبة أو ناعمة أو رشيقة، فالأسد ملك الغابة لأنه أقوى سكانها، والثعبان ناعم ولكنه قاتل، والغزال رشيق يغري بالصيد والذبح والأكل ولكن "رمضته" قاتلة. وأنا شخصياً لا أحب ولا أريد أن أكون غزالاً خصوصاً أنني سمعت أن السفاح آرييل شارون يحب أكل لحم الغزلان! ولا أظن أن الحديث عن القوة انتهى ربما نكون في البداية. وكما رأينا فالقوة عامل أساسي في الممارسة السياسية. وديبلوماسية من دون قوة بأشكالها المختلفة كطفل رضيع بلا أنياب مع تذكر أن القانون والشرعية لا يطبقان إلا على من يفتقر الى القوة والقانون من دون قوة تنفذه وهم، والقوة من دون شرعية عدوان وطغيان. ونحن نعيش الآن في نظام عالمي يستخدم القوة ولا يحترم الشرعية او القانون وفيه تأكل الاسماك القوية الأسماك الضعيفة من دون تردد، فالبقاء الآن للأقوى وليس للأصلح علماً أن الصلاحية قوة في حد ذاتها. واستخدام القوة له درجاته: الردع وهو استخدام وسائل القتال لمنع القتال للحصول على أغراضنا السياسية أو هو فن تحقيق رغباتنا السياسية من دون قتال، القوة تحت التقليدية Conventional Minus كالحجارة والنبال والخناجر والسكاكين والشراك الخداعية والصواريخ البدائية وزجاجات مولوتوف، القوة التقليدية Conventional وهي الطائرة والدبابة والصواريخ والمدفعية والرشاشات، القوة فوق التقليدية: Conventional Plus وهي أسلحة الأسواق النادرة الكيماوية والبيولوجية والحارقة وهي ما تعرف بالأسلحة شديدة التدمير ثم الاسلحة النووية Nuclear. ولنتوقف عند ملحوظات ثلاث: - ما زال الإعلان الثلاثي الذي صدر عن الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا عام 1950 والذي ينظم عملية نقل السلاح الى المنطقة حتى يبقى توازن القوى في مصلحة اسرائيل سارياً حتى الآن. فالمنبع، أي جهة تصنيع السلاح هي التي تشكل التوازن الاقليمي المطلوب، فصناعة السلاح ونقله سياسة أكثر منها تجارة. والسلاح في يد صانعه أكثر مما هو في يد مستخدمه. هذا قانون يطبق بصرامة بل وتشن الحروب عند اختراقه، والامثلة على ذلك أمامنا لا تحتاج الى ايضاح. كان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، سبب صفقة السلاح التي عقدها عبدالناصر عام 1955، وكان تأميم قناة السويس ذريعة وحافزاً لذلك كما ثبت من الوثائق البريطانية والأميركية التي نشرت وكذلك من تصريحات بعض أصحاب القرار الذين شاركوا في مؤامرة سيفر، وكذلك ما يحدث أمامنا في العراق وليبيا، فالموضوع لا يمكن تجاهله من وجهة نظرهم لأنه يتعلق بتوازن القوى العالمية والاقليمية. - تمكنت اسرائيل من ردع كل البلاد العربية بالتركيز على رفع مستوى كفاية القتال والقيادة عدا المقاومة الفلسطينية. ومعنى ذلك أن السلاح تحت التقليدي يمكنه التصدي للسلاح التقليدي، أي أنه يمكن للقوة الأصغر ان تتصدى للقوة الأكبر وأن الاقزام في استطاعتهم التصدي للعمالقة تبعاً لقانون قوة الضعف وضعف القوة، كما أثبتناه في دراساتنا المتعددة، لأن توافر الارادة السياسية والإصرار على المقاومة والقتال يعوضان النقص في القوة التدميرية للسلاح المستخدم علاوة على ان توازن الرعب يتصدى للخلل في توازن القوى علماً أنه لا يمكن تحقيق توازن المصالح إلا في ظل تحقيق توازن القوى لأن القوة هي العامل الحاسم التي تحقق الاتفاقات العادلة التي تبنى على تحقيق توازن المصالح وتمنع الاتفاقات الرديئة التي تبنى على توازن القوى. - وكما يفرض الإعلان الثلاثي عام 1950 قوانين تنظيم عملية نقل السلاح التقليدي الى المنطقة لمصلحة إسرائيل، فإن الأمر الرئاسي الصادر من البيت الأبيض في 16/7/1981 أيام الرئيس رونالد ريغان يحرم امتلاك دولة "إضافية" قدرات نووية وهو يعني "دولة أخرى بعد إسرائيل" ويعني الفترة التي نتحدث عنها هو "محاولة إدارته منع انتشار التفجيرات النووية لدولة إضافية واجب رئيسي من واجبات سياساتنا الخارجية لتحقيق أمننا"، ويلاحظ أن الأمر الرئاسي هذا صدر بعد قيام إسرائيل بتدمير المفاعل العراقي "أويزيراك" بأيام، أي أن التدمير تم في 6/7/1981 يعني أن اسرائيل نووية لا بأس فما فات مات، ولكن أن تصل دولة أخرى إلى حال التعادل معها Parity ممنوع وإلا كان الحظر والتفتيش والقتال لمنع ذلك ونحن لا نقول جديداً، فما يحدث أمامنا يغني عن كل كلام. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.