ما برحت رواية دان براون البوليسية "شيفرة دافنشي" Davinchi Code، تثير نقاشاً واسعاً في الغرب منذ صدورها. ويبدو ان العالم العربي مقبل على نقاش مثل هذا النقاش حول الرواية المثيرة، بعد ان صدرت حديثاً في ترجمة عربية لدى "الدار العربية للعلوم" ترجمة سمة محمة عبد ربه. وبات من الشائع القول ان رواية "شيفرة دافنشي" تلمس موضوعاً دينياً حساساً، يتصل بصلب الديانة المسيحية، وخصوصاً السيد المسيح نفسه. والارجح ان ذلك سبب اساس في حدة النقاش حولها. واللافت ان كثراً ممن يناقشون الرواية يتعاملون معها، ليس باعتبارها رواية بوليسية، بل وكأنها وثيقة تاريخية عن المسيحية! وفي هذه السنة، ظهرت في الغرب ثلاثة كتب على الاقل تتولى تفنيد كل ما اورده دان براون، وهي: "الحقيقة وراء شيفرة دافنشي" ريتشارد ابانيز، و"فك شيفرة "شيفرة دافنشي"" ايمي ويلبورث، و"الحقيقة والخيال في "شيفرة دافنشي"" ستيف كيلميّيَر. وتكرس مجموعة من المواقع على الانترنت نفسها لمهمة دحض ما يرد عن تاريخ المسيحية في هذه الرواية، ومنها موقع "كريستشانيتي تو داي.كوم". هل ان التوهيم الروائي وصل الى حد الالتباس الكامل بين "الواقع التاريخي" والخيال؟ وفي المقابل، ماذا لو قلنا انها رواية بوليسية جذابة وقوية الحبك الى حد كبير، وان الموضوع الديني لا يشكل سوى مساحة الخيال في الكتابة؟ اي انه المبرر الخيالي لحكاية وهمية، ككل رواية اصيلة؟ ماذا لو ذهبنا في النقاش ابعد قليلاً لنقول انها مجرد رواية اخرى عن تاريخ ما، لا تحتمل ان تكون حقيقية، الا بمقدار ما يحتمل الخيال ان يتصل بالحقيقة؟ "اسم الوردة" و"التجربة الاخيرة" كالكثير من الروايات البوليسية، تفتح الرواية على جريمة، بل على اربع جرائم ترتكب كلها في ليلة واحدة! يقتل العملاق الابرص سيلاس، الذي فر من سجنه سابقاً بفعل زلزال ليصبح عضواً في جمعية "اوبوس دوي" الكاثوليكية المتشددة، ثلاثة اشخاص قبل ان ينال من جاك سونيير، القَيِّم على متحف اللوفر. يُردى سونيير قرب لوحتين للرسام ليوناردو دافنشي: "موناليزا" و"سيدة الصخور". قبل موته، يترك سونيير سراً ملغزاً يرسم بدايته على جسمه، بأرقام وسطري شعر وملاحظة يوجهها الى حفيدته صوفي نوفو، التي تعمل في قسم فك الشيفرات في الشرطة الفرنسية. ويطلب الميت، الذي يجعل جثته تتمدد على هيئة لوحة "الرجل الفيروفي" الشهيرة لدافنشي، من حفيدته ان تحضر روبرت لانغدون، استاذ علم الرموز الدينية في جامعة هارفارد. يشك مدير الشرطة بيزو فاش بلانغدون، لكن صوفي تساعد الاخير على الفرار. يدخل الاثنان في دوامة من مغامرات لحل اللغز الذي تركه الجد سونيير. وللحين تبدو رواية "شيفرة دافنشي" وكأنها تشبه رواية بوليسية اخرى ذات طابع ديني، اي "اسم الوردة" للكاتب الايطالي امبرتو ايكو. فكلتا الروايتين تفتتح بجريمة، يظهر لاحقاً انها حلقة من سلسلة جرائم متشابهة. وفي الروايتين، يحتل الخلاف بين التفسيرين الديني الرسمي و"المُعارض"، موقع المركز في البنية الدرامية للاحداث. وفي كلتيهما، يُصنع خيال الرواية من رموز الدين وشخصياته واسراره وتحدياته. ويشمل التشابه الشخصيات. ففي "اسم الوردة"، ثمة لغز يجب حله لتفسير الجرائم. يتصدى للمهمة شخصان متفاوتان في العمر، يتبع احدهما الآخر بحكم فارق السن والذكاء بينهما. وفي "شيفرة دافنشي" تظهر بنية مشابهة. ولكن يتمثل الفارق في كون شخصيتي "شيفرة دافنشي" من الجنسين، فيما بطلا الرواية الاولى ذكران، على ان الفارق في السن بينهما لا يصنع بينهما فارقاً في الذكاء. وهكذا، تحل صوفي جزءاً من اللغز، ما يسهل لبلانغدون حل قسم آخر منه، وهذا بدوره يعطي مفتاحاً لصوفي لتفك جزءاً جديداً من اللغز وهكذا دواليك. وفي الروايتين، تواجه الشخصية الذكورية الرئيسة التي تتولى حل الالغاز، اخرى تماثلها في القدرة على حل اللغز والسعي اليه، كما سيرد لاحقاً. ومع ذلك، فإن الكاتب لا يورد اي ذكر لرواية "اسم الوردة"! هل خشي من ملاحظة التشابه؟ اذاً، تقود مغامرة الالغاز المتداخلة صوفي وبلانغدون الى قصر مؤرخ بريطاني، هو السير لاي تينينغ، الذي كرس حياته للبحث عن سر الكأس المقدسة. عند هذه النقطة، التي تمثل الذروة في البناء الدرامي لأن تينينغ هو مُنَظِّم الجرائم كلها، تنفتح الرواية على "روايتها" لتاريخ المسيحية. يرد على لسان شخوصها مسارد اثارت نقاشاً كبيراً حولها. والمفارقة ان لا جديد في ما يورده دان براون من خيال تاريخي! ففي هذا الجانب، تبدو الرواية وكأنها مرتكزة الى "كيتش" شبه اسطوري شائع في الغرب تماماً. ومن تابع زوابع النقاش الذي اثاره فيلم "التجربة الاخيرة للسيد المسيح" مارتن سكورسيزي - 1988، يعرف ان ثمة آراء كثيرة، بعضها متدين وبعضها "ملتبس"، تشدد على الطبيعة الانسانية للمسيح. وهناك من يدفع هذه الوجهه الى آخرها. وتصل الامور الى التداخل بين مدّ الاستنتاجات عن انسانية السيّد المسيح، والتاريخ غير الواضح لجمعيات لعبت ادواراً لا يقوم الاتفاق عليها، مثل الماسونية. ومثلاً، يبدأ حل اللغز بمعرفة ان سونيير، كان المعلم الاكبر لجميعة "سيون" Sion Priory، وهي من الجمعيات الغامضة ذات العلاقة الملتبسة مع الماسونية. وسريعاً، تردد الرواية ال"كيتش" الشائع، الذي يستند على تأويلات شتى للعلاقة بين اشياء مثل الخلاف على طبيعة السيد المسيح في مجمع نيقيا تركيا - سنة 325، والاناجيل المنحولة او غير الرسمية وغير المعترف بها في الكنيسة مثل الانجيل الغنوصي، و"جمعية سيون" التي تُقرأ ايضاً "جمعية صهيون" وتاريخ رؤسائها المفترضين مثل اسحاق نيوتن وليوناردو دافنشي وجان كوكتو، و"مخطوطات البحر الميت"، وبروتوكولات حكماء صهيون، والماسونية، وتاريخ غامض لجمعيات ذات طابع شبه ديني، وجمعية "اوبوس دوي" Opus dei وقديسها خوسيه ماريا اسكريفا، وملوك فرنسا من سلالة "ميروفينجين" الذين زعموا تحدرهم من نسل المسيح نفسه، وما الى ذلك. في هذه المنطقة "الرمادية"، يحرك دان براون ببراعة خيوط روايته لينسج شبكة مغرية ووهمية بقوة، من التداخل بين النص التاريخي والكتابة الخيالية. وككل كاتب روائي، يعطي نفسه موقع من "يصنع" تأويله الخاص للنصوص، وتالياً للتاريخ الذي تتناوله تلك النصوص. يبدو الكاتب ذكياً، الى حد قد لا يمنع احداً من وصفه بالتخابث. وربما وجد انصار "نظرية المؤامرة" في الراوية فرصة سانحة للقول إنها برهان عن سعي اليهود الى تشويه اديان العالم، وخصوصاً المسيحية، ولاظهار ان المسيح لم يكن سوى رمز يهودي. ويمكن هؤلاء دعم زعمهم، بما تورده الرواية من تمجيد للنجمة السداسية، باعتبارها رمزاً لاتحاد الذكر والانثى، فيما تنبش تاريخاً ذكورياً للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، وتحديداً اضطهاد النساء في حقبة مطاردة الساحرات! وبإمكان دعاة "نظرية المؤامرة" ان يجدوا في رواية "شيفرة دافنشي"، ربما اسم مؤلفها ايضاً، نبعاً لنقاش لا ينتهي. كيف يمكن التنبّه الى ان ذلك يمثل وقوعاً في شبكة الوهم الروائي الى اقصى حد، الى حد معاملة خيال الرواية على انه تاريخ موثق تمكن المساجلة حوله؟ اما "نظراؤهم" من العرب، فلربما كان مجدياً لفت انظارهم الى ان تلك الامور لها ظلال تُحدّث عن التداخل التاريخي، بكل التباساته وتناقضاته، بين ديانتين متباعدتين في الزمان، ما اوصلهما الى الوضع الراهن في العلاقة بينهما. لعبة "تخابث" روائية وافتراضية في اللحظة التي تروي الرواية "قصتها"، يكشف الكاتب بجرأة، مصادر "روايته"، بما فيها الكتاب الذائع الشهرة "كأس مقدسة، دم مقدس"، والذي ألَّفَه ثلاثة اشخاص: ميشال بياجينت وريتشارد لايهي وهنري لنكولن. والحال ان هذا الكتاب تحديداً، يحتوي على معظم "الكيتش" التاريخي - الديني الذي تستند اليه رواية "شيفرة دافنشي". وترد فيه تفاصيل عن الكأس المقدسة، باعتبارها تمثل رمزياً مريم المجدلية، التي يُفترض انها كانت بداية لسلالة "سرية" يرجع نسبها الى السيد المسيح، و"جمعية فرسان الهيكل" التي تولت حفظ هذا "السر"، والعلاقة بين الفاتيكان و"الفرسان"، والكنائس التي ضمت وثائق "السر"، مثل كنيسة "رين دي شاتو" و"شارتر" و"سان سولبيس" وما الى ذلك. ويمكن لمس لعبة التوهيم حتى قبل بدء الاحداث، اي في الصفحة المعنونة بكلمة "حقائق". ويرد فيها ان "جمعية سيون" تأسست في العام 1099، وهو امر لا يمكن التثبت منه، وان وثائقها "كُشفت" في العام 1975. والمعروف انها حلت رسمياً، في العام 1956، على يد الفرنسي بيار بلانتارد، الذي عاد ليروي قصصاً عنها، بين عامي 1961و 1984، مثلت اساساً لكل هذا الضجيج، الذي يجد في كتاب "كأس مقدسة، دم مقدس" اقوى ما يمثله. ولكن من قال ان هذه الصفحة ليست جزءاً من الرواية نفسها؟ من يقول انها ليست جزءاً من حكاية التلاعب الخيالي والتوهيم الروائي، حتى لو كانت "صحيحة"؟ الارجح ان الكاتب ادى بقوة لعبة التداخل بين الخيال والواقع في النص التاريخي - الديني، ولعل الاخير من اكثر النصوص احتمالاً لمثل ذلك التداخل. ويعيش العالم، بفضل الكومبيوتر والانترنت وشبكات الاتصالات المتطورة، والتي تحضر بكثافة في الرواية، مناخاً يتقلص فيه الحد بين الواقع والخيال. وينطبق الوصف السابق على المناخات الثقافية خصوصاً في الغرب. وتدعم هذا المناخ، من "السحر الالكتروني" اذا جاز الوصف، ثقافة ما بعد الحداثة، التي روّجت بقوة لسقوط كل النصوص المرجعية الكبرى، ما جعل النصوص الاكاديمية والمرجعية والوثائقية عن "التاريخ"، تبدو وكأنها على مساواة مع اي خيال روائي. والارجح ان ثقافة ما بعد الحداثة، وسعت الفارق بين "الماضي"، الذي يبقى مجهولاً بنسبة او بأخرى، والتاريخ، الذي تبعثر الى روايات متعددة.