في عالم أصبحت فيه الفضائيات تفرض أولويات القضايا وأسبقيات الاهتمام، لم يكن مفاجئاً تماماً تسابق الفضائيات العربية إلى جمهورية جورجيا قبل ستة أشهر. صحيح هي من فتافيت الدول - فهي بذاتها خرجت من عباءة الاتحاد السوفياتي - وبمجرد خمسة ملايين من السكان، إلا أن أميركا بجلالة قدرها شاءت في لحظة أن تعيد تقرير مصير جورجيا ومستقبلها. أميركا تحب الونس. تهتم بجورجيا... اذن على العالم كله التصفيق لها. هناك ادوارد شيفارنادزه أول وثاني وثالث رئيس لجورجيا ومنتخب"ديموقراطياً"بالمقياس الأميركي. أميركا مدينة لشيفارنادزه شخصياً في دوره المساعد في تفكيك الأتحاد السوفياتي، فكانت مكافأته بملايين وبدعمه ليصبح رجلها في رئاسة جورجيا. كافأته أيضاً بتولي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مسؤولية حمايته الشخصية في مواجهة معارضة متزايدة ضده في الداخل. لم تكن المعارضة الداخلية المتزايدة ضد شيفارنادزه ايديولوجية، وانما لفساده وجشعه وشهيته المتزايدة لسرقة أموال الدولة. وكما هي حال السياسة فقد رأت السياسة الأميركية في مرحلة لاحقة ان شيفارنادزه أخذ فوق ما يكفيه... وزيادة. ثم انه تجاوز السبعين عمراً ولا بد من تجهيز بديل تحدده أميركا. والقيادة التي كان جرى اعدادها سابقاً لخلافة شيفارنادزه هي المحامي الشاب ميخائيل ساكاشفيلي الذي يحمل أيضاً الجنسية الأميركية منذ أيام عمله واقامته في نيويورك. هكذا بدأ سيناريو"الإنقلاب الديموقراطي"في جورجيا من خلال تظاهرات سلمية ضاغطة ومبرمجة.. لا تطلق الرصاص وانما تحمل الزهور ويرعاها الإعلام الأميركي وفي ذيله اعلامنا الفضائي. هكذا انفتحت شاشاتنا التلفزيونية فجأة على جمهورية جورجيا الصغيرة هذه، بمتابعات يومية على مدار الساعة وعلي الهواء مباشرة عبر حجوز مسبقة بالأقمار الاصطناعية. ولأيام وليال، صباحاً ومساءً، تحول ساكاشفيلي المجهول هذا إلى نجم يقتحم بيوتنا ويستدعي من أجله المعلقون والمحللون حتى نصبح نحن أيضاً مصفقين له تعويضاً عن أن نصبح ناخبين ومؤيدين له ضد شيفارنادزه. وبمجرد أن تنازل الرئيس القديم واحتل كرسيه الريس الجديد ساكاشفيلي اختفت أخبار جورجيا من شاشاتنا وبرامج قنواتنا الفضائية. لم أجد بأساً في هذا كله. لكنني فقط توقعت اهتماماً مماثلاً ان لم يكن مضاعفاً بما يجري في فنزويلا خلال الأسابيع الأخيرة. هي دولة في قارة أخرى كما جورجيا لكنها على الأقل تفوقها أهمية. رئيسها المنتخب محل جدل منذ سنوات وان يكن لأسباب مختلفة تماما عن شيفارنادزه. فنزويلا سكانها خمسة أمثال جورجيا والمعارضة ضد رئيسها منظمة وممولة أميركياً... كما في جورجيا. انما الأكثر أهمية قبل هذا وبعده هو حقيقة أن فنزويلا بلد بترولي بالأساس. فنزويلا كانت عضواً مؤسسا لمنظمة الدول المصدرة للبترول"أوبك"... وهي المنظمة التي كان ميلادها على غير هوى شركات البترول الأميركية من اللحظة الأولى وتنبأت لها جريدة"نيويورك تايمز"الأميركية من اليوم الأول بأنها لن تفشل فقط... وانما بالوفاة لأنها من الأصل فاشلة وميتة. الدنيا تغيرت. واعتباراً من حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 التي خاضتها مصر وسورية، وفي حماية تلك الحرب تحديدا تغير فجأة ميزان القوي لصالح"أوبك"بما جعل الدول المنتجة للبترول تتجرأ للمرة الأولى على اتخاذ قرار من جانب واحد برفع أسعار البترول في تصحيح جزئي لسعر التراب الذي كانت الدول المستوردة تفرضه قهراً. الدنيا تغيرت أيضاً في فنزويلا التي هي خامس أكبر الدول المصدرة للبترول عالميا وتملك أكبر احتياطي بترولي خارج منطقة الشرق الأوسط كما أن الولاياتالمتحدة تحصل منها على 51 في المئة من وارداتها البترولية. لكن التغيير الأهم جاء بوصول هوغو تشافيز إلى رئاسة فنزويلا في سنة 1998 في انتخابات لم يجادل أحد في صحتها. جاء بعد أربعين سنة من الحكم الفاسد والمرتشي والتابع لمصالح بترولية خارجية. الجدل كله بدأ من لحظة قيام الرئيس الجديد بتنفيذ توجهاته التي وعد بها انتخابياً. هو رئيس لدولة بترولية هي الخامسة على مستوى العالم... ومع ذلك فأربعة من كل خمسة مواطنين في شعبه يعيشون تحت خط الفقر. وفنزويلا تصدر إلى أميركا ملايين من براميل البترول يومياً ومع ذلك فبأسعار متدنية لايطال الشعب منها في نهاية المطاف الا الفتات... ولأقلية محظوظة لا تعاني من الفقر أصلاً. وقطاع البترول في فنزويلا مؤمم منذ أول كانون الثاني يناير 1976 ومع ذلك فشركات البترول الأميركية العملاقة تسعى بهمة ونشاط لألغاء التأميم وفرض الخصخصة التي نجحت فيها جزئيا بشكل محدود وتريد استكمال الخصخصة علناً وسراً بمثل ما تسعى اليه بطرق متنوعة في الدول البترولية المختلفة. ولأن توجهات رئيس فنزويلا هوغو تشافيز كانت تغيير هذا كله فقد بدأ ضربه تحت الحزام من اللحظة الأولي ليصبح عبرة لغيره في تلك المنطقة من العالم التي تعتبرها أميركا فناءها الخلفي. هكذا بدأت تنشط ضده معارضة داخلية مرتبطة في مصالحها بالشريحة المستفيدة من الأوضاع السابقة. وباسم الديموقراطية وتدعيم المجتمع المدني بدأت مؤسسات خاصة يمولها الكونغرس الأميركي وشركات معنية في تمويل وتدعيم تلك المعارضة الداخلية بعشرات الملايين من الدولارات والتغطية الأعلامية الكثيفة للاستهلاك الداخلي والتصدير. في نيسان ابريل سنة 2002 وقع تطور مفاجىء في كاراكاس عاصمة فنزويلا: انقلاب عسكري قام باعتقال الرئيس هوغو تشافيز وأعلن قيام حكم جديد. الملفت هنا أن البيت الأبيض الأميركي أعلن فوراً أمام الكاميرات ترحيبه بالانقلاب وتدعيمه لأنه تطور"ديموقراطي"ضد حاكم متسلط ومستبد. أما المفاجأة الأخرى فكانت خروج ملايين المواطنين في فنزويلا إلى الشوارع رفضا للأنقلاب وتمسكاً بالرئيس المعتقل. الإنقلاب فشل قبل أن تمضي 48 ساعة عليه وعلى البيان الرئاسي الأميركي. اذن بماذا ترد ادارة الرئيس جورج بوش؟ بسيطة. أميركا تأمل بأن يتعظ الرئيس العائد إلى السلطة بما جرى ويعود إلى الديموقراطية. رئيس فنزويلا هنا هو الذي عليه أن يعود إلى الديموقراطية. لا داعي هنا لأن نتذكر القاموس الروائي للكاتب الانكليزي الراحل جورج أورويل... حيث الكلمات يجري اغتصابها لكي يصبح المقصود منها هو عكسها. لم تيأس المعارضة الداخلية في فنزويلا المدعومة أميركياً من فرض التغيير بالقوة. لقد دعت إلى اضراب بعد اضراب بعد اضراب بهدف شلّ صناعة البترول في فنزويلا التي استخدمها الرئيس المنتخب في تمويل برامج اجتماعية لمصلحة الأغلبية الفقيرة. خمسون مليون دولار كانت تخسرها فنزويلا يومياً من وقف صادرات البترول بما يعادل 18 بليون دولار سنوياً لو استمرت. مع تعبئة الشعب وتضامن منظمة الدول الأمركية فشل الأضراب مرة بعد مرة. ومع كل فشل كان الرئيس هوغو تشافيز يخرج أكثر قوة. انما المهم هنا تماماً هو مضمون القوة ومغزاها. المضمون هو المواجهة الجادة لمشاكل حقيقية يعاني منها الشعب في فنزويلا. مشاكل بحجم الفقر والأمية والمرض. مشاكل لا تعالجها شعارات أو خطب عنترية. تعالجها الحقائق في أرض الواقع... فقط. في آخر اجتماع دوري لأربعة وثلاثين دولة في الأميركتين على مستوى القمة ذهب الرئيس جورج بوش محاضراً الرؤساء الموجودين بكل غطرسة واستعلاء في ما عليهم أن يفعلوه. من بين ذلك مثلاً التضامن مع الولاياتالمتحدة لتغيير النظام الحاكم في كوبا التي هي جزيرة صغيرة يسكنها شعب من عشرة ملايين وتفرض عليها الولاياتالمتحدة حصاراً متوحشا منذ 45 سنة نكاية في رئيسها المتمرد فيديل كاسترو. في الاجتماع رد عليه هوغو تشافيز رئيس فنزويلا قائلا:"اننا في فنزويلا استطعنا أن نقدم العناية الطبية لعشرة ملايين شخص من أصل 24 مليوناً... وتمكنا في هذه السنة من محو أمية مليون مواطن بفعل المساعدة التي قدمتها لنا كوبا من دون مقابل. ونحن هنا نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله". المصالح تواجه مصالح. والمصلحة الأساسية لشركات البترول الأميركية مزدوجة: خصخصة قطاع البترول وتحويل فنزويلا إلى عميل آخر لحساب أميركا لهدم منظمة الدول المصدرة للبترول"أوبك"من الداخل بدءاً من ضبط مستويات سعر برميل البترول بما يناسب المصلحة الأميركية، اقتصادياً واستراتيجياً. ضبط الأسعار عمل جماعي من منتجي"أوبك"... لكن خصخصة قطاع البترول في فنزويلا قرار منفرد. وتحوطاً لذلك أضاف تشافيز في سنة 2000 بموافقة شعبية تعديلاً في الدستور ينص على عدم جواز خصخصة البترول واستمرار الدولة محتكرة له لمصلحة الشعب بمجموعه. من التعديلات أيضاً نص الدستور على آلية لتغيير الرئيس المنتخب قبل نهاية ولايته... لقطع الطريق على أية انقلابات عسكرية. ذلك هو التعديل الذي استخدمته المعارضة أخيراً ضد تشافيز. فطوال سنتين كانت تجمع التوقيعات من المواطنين الراغبين في تنحية تشافيز قبل النهاية الطبيعية لولايته في العام 2006. عبأت المعارضة الداخلية نفسها بدعم أميركي ضمني وصريح لتلك المهمة. من هنا جاء ما جري يوم الأحد 15/8/2004. جاء بعد أن حصلت المعارضة على كل الضمانات التي طلبتها وفي المقدمة مراقبون أجانب لنزاهة وسلامة التصويت... يمثلون تحديداً منظمة الدول الأميركية ومؤسسة الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، زائد استخدام أجهزة الكترونية في تسجيل الأصوات وحرية معظم وسائل الإعلام المسموعة والمرئية في تأييد المعارضة ضد الرئيس، فضلاً عن حرية كاملة للمعارضة في حشد وتنظيم أنصارها وتعبئة أموالها بما في ذلك أموال أميركية غير مشروعة وان تكن تحت عنوان"دعم المجتمع المدني"و"بناء الديموقراطية". 41 مليون مواطن في فنزويلا ذهبوا إلى صناديق التصويت في اقبال غير مسبوق بالمرة، مما جعل السلطات المعنية تمد زمن التصويت مرتين حتى منتصف الليل. في النهاية جاءت النتيجة حاسمة: 85 في المئة متمسكون ببقاء تشافيز و24 في المئة ضده. نتيجة موثقة مؤكدة صدق عليها المراقبون الأجانب جميعاً بمن فيهم الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر. مع ذلك، وبغير أدلة أو وقائع محددة، رفضت المعارضة في فنزويلا النتيجة، وبالتبعية رفضت انهاء سنتين من حرب العصابات السياسية التي تشنها ضد رئيس تريد الأغلبية استمراره في السلطة، ليس لشخصه أو أسلوبه، وانما لسياسات محددة صدق الناس العاديون نتائجها في أرض الواقع. في زمن آخر وظروف أخرى رأينا ونستون تشرشل يتقبل الهزيمة الانتخابية في بريطانيا، وشارل ديغول يفعل شيئاً قريبا من ذلك في فرنسا. لكن مشكلة المعارضة في فنزويلا هي أنها بلا برنامج سوى العودة الى ما كانت عليه فنزويلا قبل أربعين سنة.. وبلا تشرشل ولا ديغول.. ولا حتى كاريكاتير قريب من أي منهما. مشكلتها هي أنها مجرد صدى لمصالح أميركية عاتية. مصالح بترولية. ربما من أجل هذا جاء رد الفعل الأميركي الرسمي في البداية مرتبكا ومشوشا. هي لا تستطيع رفض العملية الديموقراطية بالكامل. لكنها في اللحظة نفسها لا تتقبل نتائجها. منظمة الدول الأميركية على العين والرأس ومقدور عليها. انما جيمي كارتر كرئيس أسبق لأميركا وشهادته بنزاهة التصويت كما استيفان روستي في فيلم مصري قديم:"نشّنت... يا فالح"؟ لا أتذكر بالضبط من في المكسيك وهي الجار الجنوبي المباشر جغرافيا للولايات المتحدة الذي قال ذات مرة: ان المكسيك بعيدة عن الله بمقدار جوارها لأميركا. كان هذا في القرن الماضي. أما في اللحظة الراهنة، وفي سياق احتلال أميركا المباشر المستمر للعراق، فقد أصبحت أميركا نفسها على حدود ست دول في منطقتنا والبقية تأتي. أتذكر أيضاً والكلام يجيب كلام أن شعب فنزويلا استحق بتروله منذ اكتشافه في سنة 1894. لكنه استحقه أكثر وأكثر حينما تعلم كيف يدافع عنه. وحوش الغابة تعرضت إلى هزيمة في فنزويلا تنقصها الكاميرات. لكن الوحوش مستمرة في جشعها، وربما بوسائل أخرى، وفي أماكن أخرى نحن في بؤرتها. * كاتب مصري.