لعله من غير المجحف أن نقول ان في سورية ما يزيد كثيراً على حاجتها من الأحزاب القومية والماركسية والإسلامية. وقد يكون عدلاً، أيضاً، أن نصل، بعد ملاحظة وتدقيق متأنيين لمسيرة التغيير والإصلاح في سورية، إلى نتيجة مفادها أن كلا السلطة والمعارضة فشل في سعيهما لإحداث تغيير حقيقي في سورية، وأن الوضع السياسي قد وصل إلى طريق مسدود، لا يمكن الخروج منه بواسطة القوى السياسية الراهنة وبرامجها أو لا برامجها المعلن منها والخفي. وإذاً فإن من المنطقي البحث عن أدوات سياسية مختلفة نوعياً عن السائد في أوساط المعارضة، ولكن ليس بعيداً منها ولا نقيضاً لها. ومن هنا يبرز قيام حزب ليبرالي سوري، بالمعنى التقليدي للكلمة، ضرورة ملحة ومهمة راهنة ومشروعة، تستمد مشروعيتها من مجموعتين اثنتين من العوامل: عوامل راهنة وأخرى تاريخية. فمن جانب، إن مثل هذا الحزب لن يكون نبتة في صحراء ولا شتلة غريبة مستوردة عن تاريخ سورية السياسي. وإذا كان خمسة وسبعون في المئة من السوريين لا يتذكرون عهداً مضى كانت الأحزاب السياسية تختلف عن الأحزاب العقائدية التي أمضوا حياتهم وهم يرونها بينهم، أو فوقهم، تنقسم وتتآكل بين يمين لا يشبه اليمين ويسار لا يشبه اليسار، فإن ذلك لا يعني أن سورية لم تعرف في تاريخها أحزاباً غير هذه. إن حزباً ليبرالياً جديداً يمكنه أن يكون، دون تجن، الوريث الشرعي لأحزاب، مارست، على رغم الفترة القصيرة نسبياً التي أتيحت لها، عملاً سياسياً مرموقاً لا يمكن ببساطة تجاهله تحت أي ذريعة كانت، بل ينبغي، على النقيض، تبنيه كإرث سياسي سوري بامتياز. يقف في طليعة هذه الأحزاب حزب الشعب والحزب الوطني وهما حزبان ليبراليان أصيلان، كانت لهما إنجازاتهما كما كانت لهما أخطاؤهما، في اللعبة السياسية السورية. كثير من رموز المعارضة اليسارية السورية سيبدي امتعاضه من هذا الخطاب وسيتهم حزب الشعب بالعمالة لبريطانيا والحزب الوطني بالتذبذب والرخاوة. لقد كان لحزب الشعب، وهو أساساً مثل الرأسمالية التجارية والصناعية الحلبية والحمصية، برنامجه السياسي الذي رأى في سورية والعراق سوقاً طبيعية واحدة وسعى لذلك دائماً للتقرب من النظام الهاشمي في العراق. بيد أن من الاستسهال أن نقول ان رجلاً مثل رشدي الكيخيا أو هاني السباعي هو عميل لبريطانيا أو أي دولة أخرى. أما الحزب الوطني فإنه كان ينوس بين تيار أقرب إلى برنامج حزب الشعب، يقوده ميخائيل إليان وآخر يمثل الرأسمالية الدمشقية ويقوده صبري العسلي ولطفي الحفار وسهيل خوري وهو يعمل من أجل استقلال سورية عن الأحلاف والسياسات البريطانية وكان أقرب إلى السياسات المصرية - السعودية، بل ووجد نفسه أحياناً كثيرة في حلف مع البعثيين والشيوعيين ضمن برنامج يساري واضح. وإن كان من أحد يشكك في صدقية هذه الأحزاب، فإن قلة فقط يمكنها أن تشكك بصدقية رجال أفراد كانوا يوازون أحزاباً بمفردهم. وسأكتفي هنا بذكر رجال مثل هاشم الأتاسي وفارس الخوري، وأيضاً خالد العظم. والأخير بخاصة يشكل مدرسة ليبرالية متماسكة وقوية يمكن لأي حزب ليبرالي أن يؤسس عليها. وتشمل هذه المدرسة آراءه الاقتصادية والقومية ومواقفه الواضحة تجاه الحريات الأساسية ومبدأ تداول السلطة، ثم علاقة سورية بدول العالم شرقاً وغرباً، والتعامل معها جميعاً وفق المصلحة السورية الوطنية العليا. على أن الأهم من المشروعية التاريخية المشروعية الواقعية. فإذا كان أساس العمل السياسي هو إيجاد الإجابات الصحيحة للأسئلة التاريخية المتعلقة بتركيبة اقتصادية - اجتماعية ما، فإن برنامجاً ليبرالياً أصيلاً، بالتناقض والصراع مع برنامج اشتراكي - ديموقراطي، هو القادر الآن على إيجاد الجواب السياسي والاقتصادي الصحيح، وهو أيضاً القادر على طرح الحلول العملية والصحيحة للمآزق التي وصلت إليها السياسة السورية ولكن، أيضاً، الاقتصاد السوري. لقد بات واضحاً الآن أن برنامج الحكومة السورية غير قادر على الخروج من عنق الزجاجة. وفي المقابل لم تطرح المعارضة القومية والتقدمية خلال السنوات الثلاث التي انصرمت جديداً تنافس بها الحكومة ما عدا إصدار البيانات. وهي بيانات جاءت خالية من وضوح الرؤية ولم تحاول التأسيس لمعارضة متجانسة فاعلة في سورية. وأهم من ذلك، لم تحاول استقطاب الرأي العام وهو المفترض أن يكون القوة الأقوى في ظل آليات الصراع الجديدة التي تم فيها التخلي عن مفهوم العنف والانقلابية. لقد وجدت المعارضة اليسارية السورية نفسها في المرحلة التي تلت الحرب على العراق واقفة على الأرضية نفسها التي تقف عليها السلطة السورية، فتبنت لغتها نفسها وشعاراتها القومية ذاتها. وهي بذلك انحدرت إلى وضع صعب أوصلها إليه الإرهاب الأصولي في العراق الذي قتل المدنيين وفجر الكنائس ومقرات الأممالمتحدة وأعدم رهائن ذبحاً وهم مكبلون وتباهى بذلك على الصحافة الافتراضية. وربطت قوى المعارضة السورية بين حقوق الأفراد ومواجهة التحديات الخارجية، وطالبت بالحريات الأساسية ليس لأنها حق لا يمكن المساومة عليه أو القبول بما دونه، وإنما لمواجهة التهديدات الخارجية لسورية. بينما كان الأجدى والأهم بلورة طيف من التيارات السياسية المتباينة الاتجاهات والألوان لتكون نواة لمعارضة قوية متباينة ولكن متفقة على التغيير القائم على الاعتراف بالآخر وإطلاق المبادرة لآلية عمل السوق، باعتباره الممر الإجباري لأي تقدم اقتصادي حقيقي وفصل الدين عن الدولة وقبول مبدأ صندوق الانتخابات باعتباره الحكم بين المتنافسين وفصل السلطات وأولوية الحرية الفردية المطلقة والمؤسسة على القانون والمعبر عنها بحرية التنظيم والتعبير والتعبئة. إن أي تغيير يفترض بديلاً متماسكاً، ومن هنا لا يمكن لعاقل أن يطالب بالتغيير إذا لم يكن لديه تصور عن البديل المفترض لما هو قائم. وإنني أفترض هنا أنه لا يمكن للمعارضة السورية أن تنتظر إلى وقت يصبح فيه الاحتكام به إلى صندوق الاقتراع ممكناً لكي تطرح برامجها التي سوف يختارها الناخبون أو لا يختارونها على أساسه. فإذا ما جاء مثل هذا اليوم، ماذا سيكون نتيجة ذلك؟ وأي معارضة سورية سيكون في مقدورها تعبئة الناخبين السوريين حول برنامج ديموقراطي حقيقي؟ تفتقد أدبيات المعارضة السورية القومية واليسارية برنامجاً اقتصادياً وسياسياً واضحاً تقود من خلاله تحالفاتها وتجتذب أصوات الناخبين إليه. كما يتمتع خطاب معظم الأحزاب السورية بردود فعل واضحة في توجهها إلى السلطة السورية. وفي ما عدا خطابية قومية ناصرية أو اشتراكية ممجوجة تبحث في ما تبحث عن ديموقراطية في الممارسة، تكاد أدبيات المعارضة السورية تخلو من رؤية اقتصادية واضحة للمستقبل السوري. ولا يعرف ببساطة موقفها الآن من دور القطاع العام مثلاً، وبالتالي دور القطاع الخاص وآفاقه وقضايا الاستثمار والرأسمال الأجنبي. كما يكاد هذا الخطاب يخلو من أي رؤية وافية لموضوع المرأة والشباب وفصل السلطات وفصل الدين عن الدولة. وهو لا يتحدث بشكل واف عن مسألة التحالفات ولا يضع تصوراً واضحاً عن العلاقات مع دول العالم والقوى العظمى، وفي شكل الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان. من التعنت، إذاً، أن نصر على القول ان هذه البرامج المعارضة قادرة على التصدي للأسئلة الملحة التي يطرحها الواقع السياسي - الاقتصادي والتركيبة السورية. ولا بد من قيام تيار حزب؟ ليبرالي يتولى الإجابة عنها. فمن الذي سيمثل مثل هذا التيار وما البرنامج الذي سيطرحه؟ الليبرالية هي المذهب السياسي لطبقة الرأسمالية الصناعية والتجارية والخدمية في بلد ما، ولكنه أيضاً تيار لطيف واسع من المثقفين والمفكرين في هذا البلد. وإذاً، فإن تياراً ليبرالياً سورياً لا بد أن يمثل هذه القوى الاجتماعية السورية إن وجدت. أما النتيجة الحتمية لذلك فستكون فصل الزواج العرفي بين الرأسمالية والسلطة، وهو ما قد يخيف بعض رؤوس الأموال التي وُجدت أساساً كثمرة لهذا القران ولكنه لن يخيف رؤوس الأموال العريقة في سورية والمهجر والتي ستجد في الليبرالية الملاذ الآمن لاستثماراتها بعيداً من الاحتكارات التي تقوم بها الحكومة أحياناً، وتدعم بعضها الآخر أحياناً أخرى، لغاية في نفس يعقوب. على أن شريحة واسعة من المفكرين والمثقفين ستجد من دون شك مكاناً لإبداعاتها الفكرية والفنية في ظل برنامج ليبرالي. إن قيام تيار ليبرالي سوري، إذاً، ضرورة ليس للرأسمالية السورية، ولكن لكل المجتمع السوري بكل فئاته وأطيافه. وأهمية مثل هذا التيار أنه لا يمكن أن يعيش من دون نقيضه: الأحزاب الديموقراطية والاشتراكية - الديموقراطية والعمالية وغيرها. وأهميته أيضاً تكمن في أن نظامه يفترض ويحمي نقابات مهنية وحرفية وعمالية مستقلة تماماً، يكون هدفها الوحيد وغاية مآلها الدفاع عمن تمثلهم من القوى الاجتماعية. وفي ذلك خير لكل فئات الشعب وطبقاته. إن نقابة عمالية تدافع عن، وتحصل حقوق عمالها هي خير بألف مرة من نقابة ترفع شعارات اشتراكية ويعيش أفرادها دون خط الفقر بكل المقاييس. على أن من الضروري التمييز بين التيار الليبرالي والتيارات النيو ليبرالية التي تسود المجتمعات الرأسمالية في بعض الدول الغربية الكبرى، والتي تجد ملاذاً لها لدى الحكومات اليمينية المغالية، وهي تتصارع أساساً مع التيارات الليبرالية المعتدلة. ويبقى سؤال عن برنامج مثل هذا التيار. والجواب: إنه يريد تداولاً للسلطة، وقوانين اقتصادية وسياسية تحمي المنافسة الحرة وتدفع بعجلة الإنتاج والتبادل إلى الأمام، وتحمي من الاحتكار غير المشروع، وتفصل الدين عن الدولة، وتؤمن مساواة تامة بين الرجل والمرأة في جميع ميادين الحياة، وتضمن بما لا رجعة عنه الحريات الأساسية في التعبير والتكتل والعمل السياسي السلمي. وهذا البرنامج يذكرنا بالنائب السوري السابق رياض سيف الذي استوعب ضرورة هذا التيار، ولكنه لم يستطع إنجازه. * كاتب سوري.