عَنَت وحدة 1958 السورية - المصرية تغلب مصر عبدالناصر على عراق نوري السعيد في لعبة ملء الفراغ الذي تولّد في منطقة آسيا العربية عن هزيمة لندن وباريس في حرب السويس 1956 التي كانت حصيلة انحسار نفوذهما الدولي بعد عام 1945 لمصلحة واشنطنوموسكو. لم يكن طرح الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور، في الشهر الأول من عام 1957 بعد قليل من حرب السويس، لمشروع ملء الفراغ آتياً من فراغ، وانما كان محاولة ليس فقط لإثبات الزعامة العالمية ضد موسكو عبر بوابة منطقة الشرق الأوسط التي وصفها الرئيس الأميركي ذاته بأنها "أَقيم قطعة عقار في العالم"، وانما أيضاً ضد مصر، كقوة اقليمية، بدأت فعاليتها بالامتداد الى منطقة آسيا العربية. ظهر هذا الامتداد في دمشق 1958، وفي بغداد بين تموز يوليو 1958 وآذار مارس 1959 ضد الشيوعيين وعبدالكريم قاسم، وفي الكويت 1961، وفي شمال اليمن بعد اطاحة الإمام في عام 1962 وفي جنوبه ضد البريطانيين بين عامي 1963 و1967، فيما كاد عبدالناصر أن يحتوي دمشق ثانية بين 8 آذار و18 تموز 1963، وبغداد بعد انقلاب عارف على البعث في خريف 1963. كانت هزيمة 1967 إرجاعاً لعبدالناصر الى حدوده: ظهر ذلك أولاً في صنعاء عبر اسقاط السلال 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 وفي عدن عبر تسليم لندن السلطة الى خصوم عبدالناصر في "الجبهة القومية" 30 تشرين الثاني 1967، وبعد ذلك في استمرار تناقض عبدالناصر مع سلطة صلاح جديد بدمشق تجاه قبول القاهرة بمبادرة روجرز 23 تموز 1970 وتجاه أحداث أيلول سبتمبر 1970، وقبلها في استلام حزب البعث للسلطة في بغداد صيف عام 1968. تكرست، مع السادات، عملية استقالة مصر من شؤون آسيا العربية الى أن تتوجّ ذلك في عام 1978 مع كامب ديفيد: حاولت ثلاث قوى عربية السعودية في عهد الملك فيصل بين عامي 1973 - 1975 وسورية عبر البوابة اللبنانية بعد عام 1976 والعراق بعد اتفاقه مع شاه ايران في العام 1975 ملء الفراغ المصري في آسيا العربية من دون جدوى، فيما انتقلت قوى صغرى بين هذه المحاور أو ضد بعضها، مثل الأردن نحو دمشق بعد قرار مؤتمر الرباط 1974 حتى عام 1979 عندما ابتعد عن سورية باتجاه بغداد، ومنظمة التحرير المتصادمة مع سورية في عام 1976 قبل أن يقربها الصدام مع بغداد في عام 1978، وابتعاد "الجبهة اللبنانية" عن سورية في العام نفسه من دمشق الى ان حاولت الأخيرة السيطرة على القرار الفلسطيني عبر انشقاق 9 أيار/ مايو 1983 كنوع من التعويض عن فقدانها بيروت في صيف 1982 قبل أن تستعيد ورقتها اللبنانية مع حرب الجبل أيلول 1983 و6 شباط/ فبراير 1984 وما أديا اليه من اسقاط اتفاق 17 أيار 1983 اللبناني مع اسرائيل، فيما استخدم العماد ميشال عون الورقة العراقية بقوة في ربيع 1989 ضد دمشق. كانت المحاولة الاسرائيلية، في صيف 1982، لاستخدام المنصة اللبنانية من أجل اختراق آسيا العربية نافرة، وسرعان ما تراجعت عنها تل أبيب في عام 1985 نحو الحزام الجنوبي، فيما أظهرت حرب 1991 عدم السماح الأميركي، والاقليمي، للإسرائيليين بالاشتراك في حرب رسمت ملامح الشرق الأوسط المقبل، ولكن في المقابل عمدت واشنطن الى تفشيل إعلان دمشق، الذي أعلن في الشهر التالي لانتهاء الحرب، ما يعني عدم السماح الأميركي لدمشق والقاهرة بأن تأخذا أدواراً في الخليج، أما بغداد فوضعت في براد الانتظار عبر الاحتواء المزدوج مع ايران، قبل أن تتجه الولاياتالمتحدة الى الاحتواء المنفرد لبغداد منذ 1999 ومن ثم الاتجاه الى ضرب العراق والسيطرة عليه منذ عام 2001. ترافقت السيطرة الأميركية ووحدانية وجود واشنطن في المطبخ الذي أُعد من خلاله "العراق التالي" مع انفراد فلسطيني في أوسلو، وانفراد أردني في وادي عربة، مما أدى الى ترك سورية وحيدة ضمن خط دمشق - بيروت، ولم تنفع محاولات إحياء ثالوث القاهرة - الرياض - دمشق، وخصوصاً بعد محاولة الملك حسين بإيحاء أميركي إنشاء أوضاع جديدة في بغداد بعد هرب حسين كامل صيف 1995، في كسر هذه المعادلة الأميركية الجديدة في آسيا العربية، ولا في منع انشاء تقسيم سياسي جديد للهلال الخصيب عبر فصل خط عمان - أريحا عن الشمال وعبر جعل هذا الخط معبراً اسرائيلياً الى الخليج و"العراق الجديد"، وفقاً لمعادلة مشروع شمعون بيريز، الذي طُرح آنذاك، حول "البينيلوكس الثلاثي". ربما ساهمت عملية فشل التسوية مع صعود نتانياهو، ثم مع ايهود باراك في صيف 2000 في كامب دايفيد، في عدم تسريع هذه العملية، إلا أن اعتراض واشنطن على فتح خط كركوك - بانياس في أواخر التسعينات أوحى باستمرار هذا الاتجاه الأميركي، اضافة الى ان اتجاه القيادة الفلسطينية، عبر الانتفاضة، لم يتجاوز معاني أوسلو وما تعنيه من "انعزالية" فلسطينية عن العرب كان أبو مازن من أكثر المعبرين عنها، الى أن أتت الحرب الأميركية الأخيرة على العراق لتعطي دفعاً قوياً في الاتجاه الأميركي المذكور نحو "شرق أوسط جديد"، يراد اعادة تشكيله عبر "البوابة العراقية"، أو بالأحرى استكمال ما جرى منذ عام 1991. أكدت معطيات مرحلة ما بعد بغداد على استمرار الاتجاه الأميركي الى تهميش مصر، ليس فقط على صعيد آسيا العربية وانما أيضاً في قضايا الجوار عبر استبعادها من المشاركة في حل أزمتي لوكربي وجنوب السودان، فيما هناك استهداف أميركي واضح للسعودية وايران، مع اتجاه الى اضعاف الدور السوري في المنطقة، يترافق مع اتجاه الى تعويم الدور التركي بالمنطقة على رغم ممانعة أنقرة تجاه الحرب الأخيرة، لتأتي عملية اصعاد أبو مازن للسلطة بعد الحرب كمحاولة لاستعادة أوسلو من دون عرفات، بالترافق مع اعطاء واشنطن للأردن دوراً يتجاوز حجمه الجغرافي - السياسي. من الواضح أن بغداد ورام الله ستكونان بوابتين لاعادة "تشكيل" المنطقة. والاسرائيليون أصبحوا مقتنعين، بغالبيتهم، بأن التوازنات القائمة تتيح مجالاً لإعطاء الفلسطينيين اتفاقاً أقل مما أعطاه رابين لعرفات قبل عقد من الزمن، وخصوصاً في ظل عدم ارادة واشنطن المنشغلة بالعراق فرض حل على تل أبيب، وذلك بعد أن أصبحت معادلة التسوية ثنائية واشنطن - تل أبيب، فيما كانت في مدريد ثلاثية تل أبيب - واشنطن - العرب. هل اقترب جورج دبليو بوش من تحقيق مشروع أيزنهاور؟ * كاتب سوري.