مع عقد القمة العربية الشهر المقبل إذا عقدت يكون مضى سنتان على اعتماد الدورية السنوية لهذه القمة، وكان الأمر سابقاً متروكاً للأزمات. هنا تحقيق عن قمم عربية سابقة املتها الأزمات، لكنها اكتفت بتأجيل المعركة مع اسرائيل. فمنذ منتصف خمسينات القرن العشرين الى منتصف ستيناته اشتعلت خطابات عبدالناصر التي كان يلقيها مباشرة في المناسبات وباللهجة العامية المصرية بشتى أنواع الهجوم والتعرض لأنظمة وحكام معظم الدول العربية، ويمكن اعادة بدء التوتر الشديد في العلاقات العربية - العربية الى سنة 1955 عندما أصبح حلف بغداد حقيقة واقعة فقابله وحتى العام 1958 تحالف مصري - سوري - سعودي تصدع اثر قيام وحدة مصر وسورية عام 1958، وأصبح على عبدالناصر أن يواجه معظم الأنظمة العربية التي عادت تلك الوحدة، وعند قيام ثورة 14 تموز يوليو 1958 في العراق أمل عبدالناصر بوحدويتها ثم تبينت عدائية نظام عبدالكريم قاسم له فشن عليه حملات شديدة الشراسة، وعام 1959 انسحب حزب البعث من حكومة الوحدة فانفجرت علاقاته بعبدالناصر حملات قاسية متبادلة! لكن قيام الانقلاب السوري على الوحدة عام 1961 أحدث الجرح الكبير في نفس عبدالناصر، وفتح بينه وبين الحكم الجديد في دمشق معارك مفتوحة اشتعلت بعض حممها في اجتماع للجامعة العربية عقد صيف 1962 في شتورا بلبنان تبودلت خلاله ولمدة تسعة أيام الاتهامات وحتى التجريح، وعندما مثل أمام الاجتماع الملحق العسكري المصري في بيروت حاملاً أسراره، انسحب الوفد المصري مهدداً بالاسحاب النهائي من الجامعة العربية، ولم تعد مصر الى الجامعة إلا بعد انتهاء حكم الانفصال في دمشق، وعلى أثر ذلك فشلت محادثات الوحدة الثلاة بين عبدالناصر والبعثين العراقي والسوري. وأواخر عام 1963 ظهر ان عبدالناصر بات يميل الى المهادنة أو بالأحرى الى استيعاب أجواء التوتر العربي خصوصاً بعد انفجار موضوع قيام اسرائيل بتحويل روافد نهر الأردن ومياهه الى صحراء النقب، فأعلن في خطاب له في بور سعيد "الدعوة الى قمة عربية قائلاً: سنجتمع بهم على رغم كل شيء"! وعقدت أول قمة عربية في القاهرة من 13 الى 17 كانون الثاني يناير من عام 1964 خرجت بثلاثة قرارات مبدئية هي: 1 - تحويل روافد نهر الأردن واستثمارها في اطار مشروع عربي. 2 - انشاء قيادة عسكرية عربية موحدة. 3 - إقامة كيان فلسطيني وقررت تأجيل البحث التفصيلي بهذه القرارات الى قمة الاسكندرية التي عقدت من 5 الى 11 أيلول سبتمبر من العام نفسه وشهدت عواصف من النقاش حول موعد فتح معركة تحرير فلسطين وانتهت الى تأجيلها لعشر سنوات على أن تتولى القيادة الموحدة الاعداد العسكري لها، كما وافقت على قيام منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني واستطاع الوفد اللبناني الحصول على قرار يشترط موافقة مجلس النواب على الحماية العسكرية العربية لتنفيذ مشروع تحويل مياه الحاصباني، وثبت لاحقاً ان كل تلك القرارات كانت مظهرية وانهارت عند التنفيذ! وأصبح الآن المشروع العربي لتحويل روافد الأردن الذي أقره المؤتمر ومشروع جونستون الذي رفضه والوارد نصهما أدناه من منسيات الأرشيف؟! بينما لا تستفيد سورية من مياه اليرموك ولبنان من مياه الوزاني والحاصباني سوى بالفتات على رغم القرقعة الإعلامية الأخيرة عن استثمار الوزاني في لبنان، بينما تستفيد اسرائيل ولا تزال بمئات ملايين الأمتار المكعبة من مياه نهر الأردن! منذ خمسينات القرن الماضي ومع ظهور محاولات الغرب ادخال الدول العربية في شبكة الأحلاف الغربية تصاعدت خلافات الدول العربية بين أقلية مؤيدة لهذه الأحلاف وغالبية تعارضها؟! وبعد تجسد تلك الاحلاف عام 1955 بحلف بغداد ثم بمشروع ايزنهاور عام 1957 اشتعلت الخلافات العربية - العربية وأرعدت الإذاعات وبخاصة اذاعة صوت العرب بخطب عبدالناصر وتعليقات أحمد سعيد التي كانت تحمل حمم الحملات على الأنظمة العربية المتحالفة مع الغرب أو الميالة له، وخاض عبدالناصر شخصياً عبر خطبه المجلجلة معارك قاسية مع بغداد نوري السعيد وحلفها، ومع أردن الملك حسين ومع لبنان كميل شمعون وحزب الكتائب، وبعد أن كان متحالفاً مع السعودية ضد مطامع العائلة الهاشمية، بادر الى مهاجمتها بسبب موقفها المعادي لقيام الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية في شباط فبراير 1958، وشهد انقلاب 14 تموز 1958 في شهوره الأولى في العراق هدوءاً في العلاقات بين القاهرةوبغداد ثم انفجرت وتعالت خلافاتهما بعدما ثبت ان نظام عبدالكريم قاسم لم يكن وحدوياً كما ظنه عبدالناصر للوهلة الأولى، بل كان ذا تطلعات اقليمية وناصب القوميين العرب العداء فشن عبدالناصر حملة على "قاسم العراق" كما سماه في خطاباته حملات شرسة. وعام 1959 اشعلت استقالة وزراء حزب البعث من حكومة الوحدة في الجمهورية العربية المتحدة المعارك الناصرية - البعثية، ففتح عبدالناصر نار خطاباته على البعثيين وحزبهم، وتصدى له بشكل خاص أكرم الحوراني متهماً النظام الناصري بالنظام الديكتاتوري والاستخباراتي!؟ وفي 28 أيلول سبتمبر 1961 أذهلت عبدالناصر الحركة الانقلابية ضد الوحدة التي قادها على رأس مجموعة من الضباط الدمشقيين المقدم عبدالكريم النحلاوي مدير مكتب المشير عبدالحكيم عامر في دمشق وأسفرت عن انفصام الوحدة وعودة الكيان السوري الجمهورية العربية السورية الى الوجود وتسلم زمام الحكم في دمشق فئة المعادين لعبدالناصر من الضباط والطقم السياسي التقليدي. أحدث الانفصال جرحاً نازفاً في نفس عبدالناصر فوجه الى النظام السوري الجديد الذي سماه نظام الانفصال، كل مدافعه الإعلامية وخطاباته النارية وشمل بمعاركه الدول العربية التي اتهمها بالمشاركة بالحركة الانقلابية الدمشقية، وركز ناره على الملك حسين بخاصة متهماً اياه بالتآمر مع الانقلابيين السوريين، وفي تلك الأثناء قام الانقلاب في اليمن الأمامية بدعم مصري وتبعه ارسال قوات مصرية الى اليمن مما أشعل خلافاً وتدهوراً في العلاقات السعودية - المصرية. بينما كانت لا تزال معارك القاهرة مشتعلة مع بغداد عبدالكريم قاسم. في خضم هذا التدهور المريع والجماعي تقريباً في العلاقات العربية - العربية، تقدمت الحكومة السورية في 27 تموز يوليو 1962 من الجامعة العربية بمذكرة تطالب فيها بعقد مجلس الجامعة العربية للنظر على حد ما جاء بالمذكرة، في تدخل الرئيس عبدالناصر في الشؤون السورية الداخلية، لناحية استمرار تسميته في خطبه سورية بالاقليم الشمالي، ولم يكن أمام عبدالخالق حسونة باشا الأمين العام للجامعة العربية في حينه سوى الموافقة وفقاً للنظام الداخلي للجامعة، فدعا الى اجتماع لمجلس الجامعة في بلدة شتورا اللبنانية القريبة من الحدود السورية دام من 22 الى 30 آب أغسطس من العام نفسه، ويمكن القول ان هذا الاجتماع الذي كان يعقد يومياً في بهو "بارك أوتيل شتورا" قد شهد من المعارك القاسية وتبادل الاتهامات الجارحة بين الدول العربية ما لم يشهده أي محفل عربي طوال القرن العشرين! كان السوريون قد حشدوا وفداً ضخماً ترأسه شكلاً وزير الخارجية جمال الفرا أما رئيسه الفعلي فكان خليل الكلاس الشخص الثاني في الحزب الاشتراكي العربي بعد أكرم الحوراني ثم السفير أسعد المحاسني ومعهما فريق كبير من خبراء وزراء الخارجية والمحامين والصحافيين، أما الوفد المصري فترأسه أكرم الديري الوزير السوري في حكومة الوحدة الذي بقي في مصر بعد الانفصال، ومعه رميله جادو عز الدين والمحرك الأساسي فيه كان عبدالحميد غالب سفير مصر الشهير في العاصمة اللبنانية، كما ترأس الوفد الأردني وصفي التل أحد أعداء الناصريين في عمان. لقد غطيتُ جلسات هذا المؤتمر وكانت تطول يومياً لساعات طويلة لمدة تسعة أيام كنت خلالها أبيت في بيروت وأعود في اليوم التالي الى شتورا، وأشهد أنه كان أغرب وأعجب مؤتمر في تاريخ الجامعة العربية، ويصح فيه القول: انه كان أشبه بمجمع لغوي أثبت فرسان منابره مدى ثراء اللغة العربية وامكانية تطويعها ونبش ما في قواميسها من عبارات تخوين واهانات وحملات تجريح وشتائم. قاد الحملات على عبدالناصر وحكومة القاهرة بشكل أساسي الوفد السوري يدعمه الوفد الأردني والى حد ما وفود العراق والسعودية وتونس، أما سائر الوفود فبقيت مستمعة أكثر منها مشاركة، واشتدت حملات التجريح ضد عبدالناصر عندما وصل الى شتورا المقدم زغلول عبدالرحمن الملحق العسكري في السفارة المصرية في بيروت فأدلى بشهادته أمام المؤتمر، وبعدها سلم في دمشق ممثل الأمانة العامة للجامعة العربية العائدي وثائق ادعى انها تضم مخططات مصررية للقيام بعمليات تخريب في سورية ومعها مبالغ مالية ذكر انها مخصصة لتمويل هذه العمليات، كما طلب اللجوء السياسي الى دمشق، وقيل يومها انه وصل الى شتورا في سيارة أحد السفراء العرب في لبنان. وكان لهذا الحدث وقع القنبلة في المؤتمر، وزاد أيضاً من توتر أجوائه تعرض خليل الكلاس بالإهانة الشخصية لعبدالناصر، فبادر الوفد المصري فوراً لإعلان انسحابه من المؤتمر، مهدداً بالانسحاب من الجامعة العربية ما لم يتم حذف كل عبارات التجريح ضد عبدالناصر من محاضر المؤتمر والاعتذار العلني عنها. ولاحقاً رفض الوفد المصري الاجتماع الى الوفود العربية في الأممالمتحدة ما لم يتحقق هذان الشرطان. ولم تنته هذه الأزمة بين مصر والجامعة العربية إلا بعد سقوط حكم الانفصال اثر قيام حركة 8 آذار مارس 1963 في سورية. كان فيليب تقلا وزيراً لخارجية لبنان يومها وكان شديد الهلع، وهو المعروف بتوازنه وعقلانيته، مما حدث في مؤتمر شتورا، واعتبره مسيئاً لسمعة لبنان ولدوره العربي ولنوعية علاقاته العربية القائمة على صداقة الجميع، وأذكر أني زرته بعد انتهاء المؤتمر في وزارة الخارجية فباح لي بمدى تأثره بمجرياته ونتائجه وأكد بصوت حاسم ان مؤتمر شتورا سيكون آخر مؤتمر عربي يعقد في لبنان، وبالفعل صح توقعه، فبعد ان كانت الجامعة العربية تعقد الكثير من اجتماعاتها في لبنان، غابت هذه الاجتماعات عنه حتى عام 1998 عندما فرض العدوان الاسرائيلي عليه اجتماعاً لوزراء الخارجية العرب في بيروت، وبعدها قمة بيروت عام 2002. عبدالناصر يرفض الوحدة مع البعث قبل شهر واحد من قيام حركة 8 آذار مارس التي سيطر عليها البعثيون في دمشق، أي في 8 شباط 1963 اغتيل عبدالكريم قاسم في بغداد وقامت حكومة جديدة، احتل فيها الوزراء البعثيون مراكز أساسية، أعلنت اتجاهات وحدوية وسافر فجأة الى القاهرة للمشاركة في احتفالات عيد الوحدة التي كانت تقام في 22 شباط موعد اعلان الوحدة مع سورية رجل البعث القوي في العراق في حينه أمينه العام نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية علي صالح السعدي يرافقه البعثيان صالح عماش وزير الدفاع وطالب شبيب وزير الخارجية، وأبلغ الوفد عبدالناصر استعداد العراق لإقامة علاقات وثيقة مع الجمهورية العربية المتحدة، في انتظار ان تتحرر سورية فتعود الى وحدتها مع مصر، مما يمهد الطريق لإقامة وحدة ثلاثية. وإثر حركة آذار السورية أجريت في دمشق مباحثات وحدوية بين البعثين السوري والعراقي، وانتقل وفد مشترك منهما الى القاهرة في 15 آذار 1963 لمباحثة عبدالناصر بإعادة الوحدة، وبعد أيام جرى تعديل الوفد البعثي المشترك ليصبح أكثر جدية بشموله ميشال عفلق وصلاح البيطار والثاني كان يشغل منصب رئيس الحكومة السورية الجديدة، وقد دامت، ما أطلق عليها في حينه، محادثات الوحدة الثلاثية من 15 آذار الى منتصف نيسان ابريل من العام 1963 وانتهت بفشل ذريع. مع البعثان السوري والعراقي يريدان وحدة اتحادية تبدأ بوحدة بين سورية والعراق تتحول الى وحدة اتحادية بين الدول الثلاث. أما عبدالناصر فكان لا يزال مصراً على وحدة اندماجية، كمثل وحدة 1958 مع سورية. وصارح الوفدين بأنه لا يقبل بوحدة بعثية على ما يرمي الحزبان بل يريد وحدة كاملة بين الكيانات الثلاثة، وعلى رغم ان تلك المباحثات انتهت بإصدار بيان يعلن الاتفاق على قيام جمهورية عربية متحدة تضم مصر والعراق وسورية تكون عاصمتها القاهرة، إلا أنه كان بياناً شكلياً ولم تقم هذه الوحدة بسبب عمق الخلافات حول شكلها ومضمونها وأيضاً نتيجة تجذر الصراع بين عبدالناصر والبعث، واستمرار جرح الانفصال النازف في نفس عبدالناصر، وما رافق ذلك من محاولة بعض الضباط الناصريين القيام بانقلاب جديد فاشل في دمشق! صيف ذلك العام 1963 تمكن عبدالسلام عارف من الانفراد بالحكم في العراق ومن اقصاء شركائه البعثيين وابعاد رجلهم القوي علي صالح السعدي الى بيروت، وتودد عارف الى عبدالناصر وماشى الكثير من سياساته الى درجة قيام نوع من التحالف بينهما ما أدى الى انفراج كبير في علاقات بغدادبالقاهرة لم تشهد مثله هذه العلاقات من قبل، لكن الحرب الإعلامية والسياسية بقيت مشتعلة بين دمشقوالقاهرة خصوصاً بعد تمكن البعث من السيطرة على الوضع الكامل في سورية وابعاده بعض من شارك في حركة 8 آذار، لكن ذلك العام شهد توتراً شديداً في العلاقات المصرية - السعودية بعد تعاظم التدخل العسكري المصري في اليمن ليبلغ عدد القوات المصرية هناك 40 ألف جندي. عام مفصلي في الوضع العربي عام 1964 كان عاماً مفصلياً في الوضع العربي كله، فمع نهايات عام 1963 حدثت تطورات عربية، واقليمية أقلقت عبدالناصر، فقد أكدت تقارير عدة ان اسرائيل ستقوم بتجربة الضخ الأولى من مشروع تحويلها لنهر الأردن في نيسان ابريل من العام 1964 بينما ستنجز التحويل نهائياً في آب من العام نفسه، وكان مجلس الجامعة العربية قد اتخذ في 29 شباط من العام 1960 قرارات تؤكد ان تنفيذ اسرائيل لمشروع تحويل نهر الأردن هو عدوان يعتبر الرد عليه مشروعاً. واستناداً لهذا القرار أخذ الحكم الجديد في سورية يدعو من خلال تصريحات اللواء أمين الحافظ رئيس المجلس الوطني بقيادة الثورة الى القيام بحملة عسكرية عربية لمنع اسرائيل بالقوة من تنفيذ مشروعها، ودعمته وسائل الإعلام السورية بالإعلان ان المشروع العربي لتحويل روافد الأردن هو الصورة الأخرى لمشروع المبعوث الأميركي جونستون وان كليهما سيؤديا لتقاسم المياه مع اسرائيل. وان العمل العسكري هو السبيل الوحيد لمنع اسرائيل من الاستيلاء على المياه العربية. ومضت هذه الوسائل تدعو لعمل عسكري عربي مشترك ضد اسرائيل. وأواخر ذلك العام وكانت حركة القوميين العرب لا تزال على تحالفها مع عبدالناصر زار الدكتور جورج حبش القاهرة وأبلغ عبدالناصر ان عدداً من الشباب الفلسطيني المقيم في الكويت يعد لتأسيس حركة فدائيين تتولى القيام بأعمال مسلحة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وذكر له: ان هذه الحركة تحظى بتشجيع المسؤولين الكويتيين معروف ان البدايات التنظيمية لحركة فتح انطلقت من الكويت. وفي تلك المرحلة نفسها كانت خلافات الدول العربية بعضها مع بعض تتصاعد بشكل خطير، مثلاً علاقات القاهرة كانت في أشد توترها مع كل من عمانودمشقوالرياض والرباط، وعلاقات دمشق متدهورة مع عمانوالرياض، بينما العلاقات بين المغرب والجزائر وصلت الى حد الاقتتال بين قواتهما المسلحة حيث ثبت اشتراك قوات مصرية في القتال الى جانب الجزائر. هذه التطورات كانت موضع دراسة وتنبه في القاهرة. فعبدالناصر كان يتحسب مما يعتبره مزايدة سورية عليه في الموضوع الفلسطيني ويخشى ايضاً من إقدام السوريين على عمل عسكري منفرد ضد اسرائيل، بناء لمعلومات تفيد ان عدداً من اركان الحكم السوري الجديد يدفع بهذا الاتجاه. وأقلقت القاهرة ايضاً اخبار السعي لإعلان تنظيم فلسطيني مسلح، فقد كانت السياسة المصرية في تلك المرحلة تعارض الأعمال المسلحة المنفردة ضد اسرائيل فلسطينية او عربية مخافة جر الجيش المصري الى معركة يكون غير مستعد لها، وبانت هذه المعارضة قبلاً في الوقوف المصري خلال الخمسينات ضد الأعمال الفدائية الفلسطينية في غزة، واستمرت هذه العدائية تجاه منظمة "فتح" الى ما بعد هزيمة 1967. نهاية عام 1963 ظهرت علامات تشير الى ان عبدالناصر قرر مواجهة هذه التطورات باعتماد سياسة عربية جديدة ظهر لاحقاً انها كانت نوعاً من سياسة الاحتواء لمنع المضاعفات التي كانت بدأت تحيط بنظامه داخلياً وعربياً ودولياً. اول قمة لاحتواء الخلافات العربية في 23 كانون الأول ديسمبر من العام 1963 كان عبدالناصر يلقي احدى خطبه النارية على طريقته باللغة العامية في مدينة بورسعيد، وكالعادة بدأ هجوماً عنيفاً على حزب البعث وعلى الحكم السعودي، ثم فاجأ جميع من كانوا يستمعون إليه كالعادة حكاماً وشعوباً من المحيط الى الخليج بإثارة موضوع تحويل اسرائيل لمياه نهر الأردن قائلاً: "انه لا اجتماعات مجلس الدفاع العربي او وزراء الدفاع العرب كافية لمعالجة هذا الموضوع الخطير، وأن الحاجة باتت ملحة لعقد مؤتمر قمة عربي عاجل لاتخاذ قرارات جذرية بشأنه". وأضاف مبرراً: "سنجتمع معهم جميعاً على رغم كل شيء". واعتبر كلامه هذا بمثابة دعوة لعقد مثل هذا المؤتمر فسارعت الأمانة العامة للجامعة العربية لإجراء اتصالات مع الدول العربية لتحديد موعده، وتم الاتفاق على ان يكون هذا الموعد في 13 كانون الثاني يناير من العام 1964. وكان عدد الدول العربية المنتسبة للجامعة آنذاك 13دولة بادرت جميعها للموافقة على الموعد، وجاءت الموافقة السعودية في الخامس من كانون الثاني. لقد صور الإعلام المصري تلك القمة بأنها اول اجتماع ذروة في التاريخ العربي الحديث، والحقيقة انه سبق للملوك والرؤساء ان اجتمعوا عام 1946 في "انشاص" بدعوة من الملك فاروق، كما عقد اجتماع رؤساء في العام نفسه في "بلودان" لبحث الموقف العربي من البوادر الدولية لقرار تقسيم فلسطين، وعام 1956 عقدت قمة بيروت بدعوة من الرئيس كميل شمعون لبحث عدوان السويس على مصر. على كل يمكن الى قول: "إن كل تلك القمم لم تكن مكتملة او كانت محدودة التأثير، ما دعا محمد حسنين هيكل لاعتبار حتى قمة "انشاص" انها كانت مجرد لقاءات اجتماعية. من هنا كانت لقمة القاهرة تلك اهمية كبيرة ويمكن اعتبارها فعلاً القمة العربية الأولى من حيث الفاعلية. لقد غُطيت تلك القمة صحافياً بكل مجرياتها وخلفياتها فانتقلت الى القاهرة قبل بضعة ايام من عقدها لمرافقة إعداد جدول الأعمال من قبل وزراء الخارجية العرب، والتقيت في السفارة اللبنانية بعدد من اركان الجالية اللبنانية الذين كانوا يعدون برنامجاً حافلاً لاستقبال الرئيس شهاب، قبل وصول اخبار تكليفه الرئيس رشيد كرامي بتمثيله. ودامت هذه القمة حتى 17 من الشهر نفسه، وعُقدت في مبنى الجامعة العربية. بينما اقام الملوك والرؤساء في فندق هيلتون القريب منه في ميدان التحرير. جلسة افتتاح المؤتمر في مبنى الجامعة كانت تقليدية، ترأسها الرئيس العراقي عبدالسلام عارف وشرح خلالها عبدالناصر سبب دعوته للاجتماع مبيناً الأخطار الناجمة عن مشروع اسرائيل لتحويل مياه نهر الأردن وتبعه الملوك والرؤساء العرب في إلقاء كلمات موجزة في ضرورة القيام بعمل عربي موحد للوقوف في وجه المشروع الإسرائيلي. غير ان المحادثات الفعلية بين الملوك والرؤساء انتقلت الى اجنحتهم في فندق هيلتون وانحصرت في إجراء مصالحات ثنائية بينهم بدأها الملك حسين بزيارة عبدالناصر ثم اللواء الحافظ، والمشير عبدالله السلال وأبدى مرونة فائقة في طي صفحة الماضي، واعتبرت زيارته ممهدة للاعتراف بالحكم اليمني الجديد، بينما اجرى عبدالناصر محادثات جانبية مع جميع الملوك والرؤساء، كانت نتائجها مصالحات موقتة مع الأردن بشكل خاص، وكذلك مع المغرب بعد ان أحضر الملك الحسن الثاني خمسة طيارين مصريين كانت قد احتجزتهم القوات المغربية خلال قتالها مع القوات الجزائرية، وصحب هذه الخطوة تقارباً جزائرياً مغربياً بمبادرة من بن بيلا. إنما على رغم قيام اجتماعات عدة بين عبدالناصر وكل من الملك سعود واللواء الحافظ فإن الغيوم السود بقيت تسيطر على سماء العلاقات بين القاهرة وكل من الرياضودمشق. * كاتب وصحافي لبناني والنص فصل من كتابه "سنوات الجمر" الذي سيصدر قريباً كجزء ثانٍ من كتابه "ذكريات من الصحافة والسياسة".