كانت سورية، بين عامي 1958-1949، ساحة للصراع المصري - العراقي الذي انضمت اليه السعودية في عام 1957 لمصلحة بغداد بعد طول صراع مع الهاشميين منذ سيطرة الملك عبدالعزيز على الحجاز في اواسط العشرينات: كان استيلاء البعث على السلطة، في عام 1963، تكملة لابتعاد دمشق عن القاهرة الذي بدأ مع الانفصال، وتعزز ذلك بتحالف دمشقوبغداد في"هلال خصيب بعثي"، على حد تعبير الرئيس عبدالناصر بصيف 1963، ضد القاهرة، الى ان انكسر ذلك مع انقلاب عبدالسلام عارف 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963 على البعث العراقي وما مثله ذلك من اتجاه بغداد للدوران ضمن محور القاهرة. لم تأخذ سورية دوراً محورياً، او مؤثراً، في السياسة العربية بالستينات، بل ضعفت اسهمها، وعانت من العزلة، عندما كانت على خصومة مع القاهرةوبغدادوعمان والرياض في الوقت نفسه، وهو ما فاقمته السياسة السورية المصطدمة مع عبدالناصر بسبب القرار 242 و"مشروع روجرز"في صيف 1970، الى ان تتوج ذلك مع تدخل الجيش السوري في احداث ايلول سبتمبر 1970 في الاردن. أدى وصول السادات للسلطة في مصر، بعد وفاة عبدالناصر، الى نشوء مشهد اقليمي جديد: نشأ تقارب بين الرياض والقاهرة انضمت اليه السلطة السورية الجديدة، مع امتدادات لهذا المحور نحو ليبيا والسودان من خلال مصر، مما ادى الى وضع بغداد في العزلة، وكذلك بومدين الجزائر لمصلحة الملك الحسن في المغرب. كان هذا المحور الجديد مؤشراً الى بداية تقلص النفوذ السوفياتي في المنطقة لمصلحة واشنطن، والى اتجاهات جديدة بالسياسة العربية نحو التسوية مع اسرائيل، والى بداية اختلال الموازين لمصلحة انتصار الاتجاهات اليمينية في السياسات العربية الداخلية والاقليمية والدولية: لم تقطع حرب 1973 هذا المنحى، بل اعطته قوة زخم كبيرة، من خلال اكتساب النظامين الجديدين، في مصر وسورية، لنوع من"المشروعية الوطنية"في تلك الحرب. حتى ايلول 1975، تاريخ توقيع اتفاقية سيناء التي مثلت فك الارتباط الثاني مع اسرائيل في الجبهة المصرية وما عبرت عنه من اتجاه واضح نحو انفراد مصري"ما"بمعزل عن الشريك السوري في الحرب، لم تكن دمشق مكافئاً اقليمياً يوازي القاهرة والرياض من حيث النفوذ، وهو ما اتاح للقاهرة ان تأخذ انفراديتها مع اسرائيل مداها من دون ان تستطيع سورية كبحها، او ان تمنعها من ان تشكل - كانفرادية - عاملاً لاضعاف دمشق، وخصوصاً مع وضوح اتجاه القاهرة الى الاستقالة من شؤون آسيا العربية، عبر اتفاقية منفردة مع اسرائيل، مما عنى تحولاً مفصلياً في الصراع مع اسرائيل لم يوازه تطور آخر منذ عام 1948. أنشأ ذلك فراغاً في آسيا العربية، حاولت الرياض ودمشقوبغداد ملأه منذ اواسط السبعينات، ولو ان اسرائيل حاولت بدورها بعد زيارة أنور السادات 1977/11/19، ان تشارك في"ملء الفراغ"المصري بآسيا العربية ابتداء من غزوها الاول للبنان في آذار مارس 1978. كانت سياسة الملك فيصل اغتيل في 25 آذار 1975، اي قبل ثلاثة اسابيع من بداية الاحداث اللبنانية تعبر عن اتجاه سعودي الى احتلال مكانة قاهرة عبدالناصر، فيما عبرت اتفاقية الجزائر آذار 1975، بين العراقوايران، عن اتجاه عراقي واضح للتحرر من الجرح الكردي، ولو عبر تنازلات في شط العرب، من اجل التفرغ والتهيئة لدور عراقي نشط غرباً افتقدته آسيا العربية منذ سقوط الملكية في بغداد عام 1985 بعد خمسة اشهر من الوحدة السورية - المصرية. أظهرت واشنطن الكثير من الحذر والخشية تجاه المحاولتين السعودية والعراقية لخلافة الزعامة المصرية في العالم العربي، فيما لم يكن الامر كذلك تجاه ما ادى اليه التدخل العسكري السوري في لبنان 1 حزيران/ يونيو 1976، الموافق عليه اميركياً، من تنام لدور دمشق في المنطقة العربية الآسيوية عبر تحولها الى المتحكم، بغطاء دولي اولاً اميركي وبعد ذلك سوفياتي ثم عربي مؤتمر الرياض السداسي، تشرين الاول/ اكتوبر 1976، بتلك البؤرة اللبنانية المشتعلة التي اصبحت فرناً لطبخ الكثير من طبخات المنطقة ومنها التسوية بحكم وجود المقاومة الفلسطينية هناك وبحكم كون الاخيرة طرفاً اساسياً في الحرب اللبنانية. أتاحت المنصة اللبنانيةلدمشق ان تكون اللاعب العربي الآسيوي الاول على حساب بغداد والرياض، المتفوقتان اقتصادياً وجغرافياً سياسياً على سورية، وفي شكل لم يؤثر كثيراً في وزنها توقيع مصر على اتفاقيات كمب دافيد مع اسرائيل ايلول 1978 ولا خلافها مع العراق في تموز يوليو 1979 بعد تسعة اشهر من التقارب، خصوصاً بعد ان وجدت حليفاً في ايران الخميني استطاعت من خلال التحالف معه التلويح بعصا غليظة اخافت الخليجيين الخائفين من المد الشيعي الذي أقض مضجعهم مما دفعهم الى الدفع بسخاء لدمشق في الوقت الذي كانوا يدفعون البلايين لتغذية آلة الحرب العراقية ضد ايران. ربما كانت حادثة ثكنة الفياضية في بيروت شباط/ فبراير 1978، بما مثلته من بداية تحول الكتائب وشمعون عن دمشق لمصلحة التحالف مع اسرائيل، مؤشراً الى دخول تل أبيب على خط الصراع على آسيا العربية عبر"المنصة اللبنانية"، إلا ان اللافت ان الاساليب العنيفة التي لجأت إليها السلطة السورية ضد المناطق الشرقية من بيروت في عام 1978، لم تؤد الى حجب الغطاء الغربي، الاميركي اساساً، عن الوجود السوري في لبنان، وهو شيء لم يزعزعه الاجتياح الاسرائيلي للبنان في عام 1928، بقدر ما ادى الاخير، مع فشل مخططات اسرائيل لفرض معاهدة ثنائية على لبنان وانشاء سلطة موالية هنالك عبر انتخاب بشير الجميل، الى تبيان ان"لا بديل"عن دور دمشق في لبنان، الشيء الذي تكرس مع اتفاقية مورفي - الأسد في صيف 1988 حول ترشيح ميخائيل الضاهر رئيساً للبنان، ثم سماح واشنطن لدمشق بتصفية سلطة ميشال عون 31 تشرين الاول 1990 في ظل مقايضة كان لبنان احد اركانها في مقابل مشاركة دمشق في قوات التحالف ضد العراق بعد غزو الكويت 2 آب 1990، مما سمح، بعد سنة من اتفاق الطائف، بتكريس النفوذ السوري على لبنان. من خلال لبنان حاولت السلطة السورية امتلاك الورقة الفلسطينية عبر الانشقاق الذي احدثته في منظمة فتح 9 أيار/ مايو 1938 مستغلة الظروف الفلسطينية في فترة ما بعد اجتياح 2891، وفشلت بعد ان تبين، منذ اواسط الثمانينات، انتقال مركز الثقل في العمل الفلسطيني الى داخل الاراضي المحتلة، وهو ما اظهرته بوضوح الانتفاضة الاولى كانون الاول 1987. في المقابل، حاولت دمشق تشكيل محور في"الهلال الخصيب"، لا يقتصر على لبنان والفلسطينيين، وانما حاول التأثير في السياسة الاردنية، بعد ان ابتعدت عمان عن دمشق باتجاه بغداد في عام 1979، الشيء الذي بان مع الحشود السورية على الحدود الاردنية تشرين الثاني 1980، كما حاولت الامتداد الى العراق، مستخدمة ورقة الاكراد جلال الطالباني. ربما كان الدعم النشط الذي اظهرته بغدادوعمان للمعارضة السورية المسلحة، في احداث 1979-1928، تعبيراً قوياً عن تلك الصراعات الاقليمية لملء الفراغ في آسيا العربية يقابل ويواجه ما ابدته دمشق في هذا الاطار، من دون ان يحجب ذلك العوامل الداخلية المحركة لتلك الاحداث السورية. في المقابل، فإن دعم دمشق لطهران في الحرب العراقية - الايرانية ايلول 1980 - آب 1988 لم يكن خارجاً عن اطار ذلك. من هنا، لم يكن غريباً ان العراق الذي خرج غير مهزوم وقوياً من تلك الحرب، قد بدأ بالامتداد غرباً عبر دعمه لميشال عون في لبنان بحربه التي دخلها مع دمشق في آذار 1989، اضافة الى انه دخل بتحالفات عربية استبعدت منها دمشق، مثل"مجلس التعاون العربي"شباط 1990 وهو ما كان لسورية ان تحبطه إلا عبر التقارب مع القاهرة أيار 1990 كاسرة سياستها المقاطعة والمواجهة لمصر منذ كامب ديفيد، من دون ان تتخلى عن عدائيتها للعراق كما ظهر من خلال مقاطعة دمشق مع بيروت للقمة العربية المنعقدة في بغداد أواخر ايار 1990. كان هناك مشهد جديد بدأ بالتشكل في منطقة الشرق الاوسط غداة انتهاء"الحرب الباردة"في خريف 1989، واختفاء العملاق السوفياتي من المسرح: كانت السلطة السورية اول من قرأ تلك المتغيرات، وأول من بادر الى ملاقاتها، عبر اتفاقها مع واشنطن حول لبنان، الذي كرّس عبر"اتفاق الطائف"الامر الواقع الحاصل قبل ثلاثة عشرة عاماً، وعبر اتجاهها لاستعادة محور القاهرة - الرياض - دمشق، الذي كان محور السياسة العربية في فترة 1971-1974، لمواجهة دور بغداد النشط في المنطقة. لم يكن ممكناً لواشنطن تشكيل التحالف ضد العراق، عقب غزوه للكويت 2 آب 1990 لولا دعم ذلك المحور الثلاثي الذي اعطاها"المشروعية العربية"في حربها ضد النظام العراقي تلك التي ادت الى تحطيم العراق عسكرياً ووضعه بالحصار. قايض ذلك المحور الثلاثي العراق بالتسوية في مدريد تشرين الاول 1991، اضافة الى المقايضة الفرعية السورية - الاميركية حول ميشال عون، فيما ادى تسابق المسارات الى اتفاق اوسلو ايلول 1993، ووادي عربة تشرين الاول 1994، بينما تردد النظام السوري بالتوقيع على رغم"وديعة رابين"حزيران 1995. كان تكيف النظام السوري عالياً مع عالم ما بعد الحرب الباردة، على رغم كونه كان نظاماً من اكثر الانظمة التي لعبت على نظام"الثنائية الدولية"، وهو ما جعل الضرائب المستحقة عليه واطئة اذا لم يكن قد خرج رابحاً من خلال عملية الانتقال تلك على الصعيد الاقليمي، فيما لم يدفع ضرائب تذكر على الصعيد الداخلي. يلاحظ ان عقد التسعينات، وعلى رغم انه شهد تعزيزاً في اوله للنفوذ السوري في لبنان الى حدود تكريسه باتفاق الطائف و"معاهدة الاخوة"أيار 1991، الا ان ذلك العقد قد كرس مع اوسلو فقدان دمشق للدور في القضية الفلسطينية ليضاف الى ذلك ابتعاد الاردن الى مدار آخر بعد وادي عربة ولو بعد تقارب قصير من الملك حسين إثر اوسلو، لتصبح دمشق محصورة في اطار مشكلة الجولان ولو عبر امتلاك ورقة اضافية، ربما من اجل ذلك او من اجل دور اقليمي اوسع، من خلال مقاومة"حزب الله"في جنوبلبنان وهو امر قد خفت قيمته كثيراً بعد انسحاب اسرائيل من هناك في ايار 2000 على رغم التسخينات التي تحصل عبر مزارع شبعا. في هذا الاطار أتت الازمة مع تركيا، في خريف 1998، لتؤدي الى فقدان دمشق لورقة اكراد تركيا، من خلال دعم اوجلان وحزبه: في هذا الاطار، يلاحظ ان التقارب الاقتصادي مع بغداد الذي بدأ عملياً منذ النصف الثاني من عام 1997، وخصوصاً بعد ان وضح صعود نتانياهو للسلطة في تل أبيب أيار 1996 بأن التسوية هي في طريق مسدود قد اتى من النظام السوري، ليس فقط من اجل ايجاد متنفس للاقتصاد السوري العليل، وانما ايضاً من اجل ايجاد اوراق جديدة تعوض عن فقدان كل تلك الاوراق الاقليمية، او من اجل تشكيل عامل مساومة مع واشنطن، وهو امر لم تلتفت اليه الولاياتالمتحدة كثيراً في اثناء تحضيراتها لاحتلال العراق، التي توضحت خصوصاً بعد 11 ايلول. اذا كان النظام السوري قد ساوم، في عامي 1990-1991، على"التسوية"و"قصر بعبدا"في مقابل اشتراكه في"حفر الباطن"، فإن فقدانه للكثير من الاوراق، خلال مجرى عقد التسعينات، قد جعله متردداً تجاه عملية التسوية، وهو ما ظهر ليس فقط مع رابين وانما ايضاً مع باراك في الاشهر الثلاثة الاولى من عام 2000، وخصوصاً في قمة جنيف بين الرئيسين السوري والاميركي قبيل وفاة الرئيس حافظ الاسد في 10 حزيران 2000. كاتب مصري.