} تشير التصريحات الأخيرة للرئيس جورج بوش التي استهدفت العراق مباشرة، الى ان هذا البلد لا يزال هدفاً في المؤشرات كما على أرض الواقع، وأن هذه التصريحات تشكل ارتداداً طبيعياً لاستراتيجية اميركية ثابتة لم تتبدل منذ حرب الخليج الثانية، ويمكن اختصارها بالهيمنة العسكرية والسياسية على الشرق الأوسط وضمان امنين متلازمين: الأمن النفطي والأمن الإسرائيلي. أي ضمان أمن آسيا الوسطى وأمن الشرق الأوسط، على المستويين الاستراتيجي والاقتصادي. بدا ان القاموس الأميركي لا يزال على حاله، أظهرت الأهداف الأميركية بأنها ذات دوائر متعددة لا تمس بلاد ما بين النهرين فحسب، بل ثمة امتدادات اخرى لها تشمل سورية وإيران، اللتين لا تزالان تشكلان "خطراً" على المصالح الأميركية و"تهديداً" لأمن اسرائيل. لذلك كان يتعين على العقل الاستراتيجي الأميركي ان يحاصر هذه الأخطار وأن يرسم خطط اضعافها وينفذها على مراحل كلما انحسر دخان الحرب على افغانستان. ولكن ما هو رد الفعل العراقي إزاء الاستراتيجية الأميركية؟ في الظرف الحالي حيث يقف العالم مصعوقاً إزاء الهياج الأميركي بعد الجرح الكبير في نيويوركوواشنطن 11 ايلول/ سبتمبر 2001، وقلقاً إزاء الإجرام الإسرائيلي في فلسطينالمحتلة، سيحاول العراق استيعاب الأحداث القريبة من عمقه وامتصاص امتداداته: التركية - الإسرائيلية، وتقليص مساحاته الجغرافية، والعمل على تحجيمه عبر تعريبه في اطار الجامعة العربية. وفي حال فشل المهمة سيعمل العراق على تأجيج العداء لأميركا في الشارع العربي الذي اصبح اكثر استعداداً لهذا العداء، وإثارة مخاوف الأنظمة الخليجية عبر الضغط النفسي والتهويل العسكري بغية زيادة كلفة الحملة الأميركية وإضعاف تطلعاتها الاستراتيجية. مؤشرات المواجهة ويتزامن اعتماد سيناريوات "أفغنة" العراق مع اجراءات على أرض الواقع تؤكد ان واشنطن تجاوزت مسألة اطلاق الإشارات، وبدأت العمل الجدي لترجمة الأفكار الى خطط قابلة للتنفيذ. ويبدو ذلك جلياً في ما يأتي: أولاً: ان الحشود الضخمة التي تجمعت لمعركة افغانستان هي اكبر من معركتها، وأكثر مما تحتاجه افغانستان! ثانياً، بدء خطط تصفية المسألة الفلسطينية، بإعطاء الضوء الأخضر لرئيس حكومة إسرائيل آرييل شارون للقيام بذلك، تكريساً للهجمة الأميركية من جهة، ومحاولة لاستفزاز العراق الى المعركة، وفتح جبهة الشمال الكردي وامتداداته التركية من جهة اخرى، باعتبار ان فلسطين لا تزال تشكل قضيته المركزية الأولى، خصوصاً ان دخول العراق في مسيرة التسوية سيفتح الباب على مصراعيه لتصفية القضية الفلسطينية ومحاصرة سورية وإيران. ثالثاً، الإحصاء الذي أجرته الولاياتالمتحدة "وتبين" لها من خلاله وجود 7500 عالم وتقني عراقي يعملون على تطوير قدرات العراق النووية وهو ما يقلق الإدارة الأميركية وحليفتها إسرائيل. رابعاً، تدفق الأسلحة في شكل لافت على الجماعات الكردية والتركمانية في شمال العراق، وخضوع الجماعات التركمانية لتدريبات مكثفة في تركيا. خامساً، المقايضة التي تمت بين واشنطن وأنقرة في شأن تسوية فيديرالية للمسألة القبرصية في مقابل مشاركة قوات تركية في الحملة العسكرية الأميركية - البريطانية المقبلة ضد العراق. سادساً، نجاح روسيا في تثبيت شروطها داخل مجلس الأمن بتمديد العمل ببرنامج "النفط في مقابل الغذاء" لمدة ستة اشهر، وتخلي الولاياتالمتحدة عن فكرة "العقوبات الذكية" في هذه المرحلة، وهو ما يطرح سؤالاً عما اذا كان التحالف الأميركي - الروسي الجديد في آسيا الوسطى وامتداداته الاستراتيجية ينطوي على تسوية ما تنهي زمن الحصار والعقوبات. ام ان الاندفاعة الأميركية في تهديداتها قادرة على توظيف المرونة الروسية على اساس ان افغانستان ليست سوى البداية، والعراق هو المحطة التالية؟ سابعاً، زيارة نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ريان كروكر الى شمال العراق لجس نبض القيادات الكردية في احتمالات المستقبل العراقي. راهنية التفكير الأميركي سيناريوات "أفغنة" العراق، إذاً، تقع ضمن هذه المؤشرات، والغاية استكمال السيطرة الأميركية على نفط العالم بإضافة نفط العراق الذي يعتبر من اكبر الاحتياطات النفطية في العالم، وتحقيق هذه السيطرة سيضع في يد الولاياتالمتحدة سلاحاً فاعلاً في كسب المنافسة مع الحلفاء المنافسين، وأيضاً المنافسين من خارج دائرة هذا التحالف. صحيح ان آلة اتخاذ القرار في واشنطن بدأت تعمل الآن في شكل مختلف ونوعي وبما يتلاءم مع عمق الكارثة الأميركية من جهة ويؤشر الى شكل رد الفعل الأميركي المنتظر تجاه العراق ونوعيته، إلا ان تغير المناخ العام المحيط بالعراق عربياً ودولياً، وربما عسكرياً، مقارنة بما كان عليه بعد عملية "ثعلب الصحراء" في كانون الأول ديسمبر 1998، سيشكل اساساً مهماً لكيفية التعامل معه وتحديد مستوى وطبيعة الأوراق الموجودة في الملف الأميركي ما إذا كانت تعبر فقط عن رغبة في اغلاق موضوع لا يزال مفتوحاً منذ حرب الخليج الثانية بطريقة لا توحي بهزيمة الولاياتالمتحدة او انسحابها، ام ان تلك الأوراق تعبر عن نفاذ صبر من النظام العراقي الذي قد يؤخر تنفيذ الأهداف الأميركية بعد المرحلة الأفغانية خصوصاً ان بغداد لم تتوقف لحظة عن تحدي واشنطن ورفض دخول مفتشي اسلحة الدمار الشامل الدوليين الى العراق لعلمها ان وضعاً شبه مثالي في افغانستان قد يعيد السياسة الأميركية الى المربع الأول، حيث التساؤل: ماذا نفعل في الخليج؟ هذا التساؤل بات في الغالب محورياً في التفكير الأميركي ويستمد راهنيته ليس فقط لأن جزءاً كبيراً من المتاعب الأميركية ناجم عن هذا الوجود، بل ايضاً لأن التيار الأقوى في الإدارة الحالية ينزع نحو الانسحاب الأميركي من العالم بقدر الإمكان، وإن كان لا يصل الى درجة الوقوع في الانعزالية. العراق ليس افغانستان ستستهدف إدارة المجهود الحربي الأميركي تجاه العراق في حدها الأقصى - اذا حدثت - اعادة محاولة تغيير النظام الحاكم بالقوة العسكرية... وتحريك فصائل المعارضة الهزيلة، وتمكين بعض قوى النظام من الانشقاق عليه كما حدث في افغانستان. هذا السيناريو قد يكون مقنعاً على الورق، ولكن العراق ليس افغانستان لاسيما ان قوى المعارضة العراقية المضطربة والمنقسمة على نفسها، لا تملك تاريخاً عسكرياً مؤثراً مماثلاً لقوى تحالف الشمال الأفغاني، وهو ما يطرح السيناريو التركي - الإسرائيلي كما رسمه المبعوث الأميركي الجديد الى الشرق الأوسط الجنرال انتوني زيني، المكلف من قبل الرئيس جورج بوش التنسيق مع إسرائيل ضمن اتفاق التعاون الاستراتيجي بين البلدين، وهو عكف خلال مهمته في المنطقة على وضع الخطط العملياتية المشتركة مع تل ابيب بالتعاون مع كل من رئيس شعبة العمليات في هيئة اركان الجيش الإسرائيلي الجنرال غيورا ايلاند، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الجنرال عاموس مالكة، والأول أمضى الأسبوع الأخير من تشرين الثاني نوفمبر في تركيا للإعداد والتنسيق للضربة المتوقعة ضد العراق. ولهذه الغاية كانت إسرائيل اقامت قاعدة متقدمة في الأراضي التركية، حسب الاتفاق الاستراتيجي بين البلدين، لاستخدامها لنقل الوحدة الخاصة التي تدربت في الأعوام الماضية على تنفيذ عمليات في عمق الأراضي العراقية. في هذه الأثناء يكتسب الوجود التركي في شمال العراق اهمية خاصة مع الحديث عن وجود تركي مماثل في شمال افغانستان، إذ تولي انقرة الأخيرة اهمية بالغة في حساباتها الاستراتيجية الخاصة بمنطقة آسيا الوسطى حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي قرغيزيا وتركمانستان وأوزبكستان. كما ان التعاون العسكري والاستخباراتي الواسع بين انقرة بالتنسيق مع تل ابيب وأوزبكستان ضد نشاطات الجماعات الإسلامية يساعد الأتراك في دعم دورهم وترسيخه في المنطقة وهو ما يحظى باهتمام العواصم الإقليمية والدولية خصوصاً موسكووطهران وإسلام آباد وبكين. لذا فإن السيطرة الأميركية على آسيا الوسطى، تمر اولاً عبر تصفية "بعض الحسابات القديمة" في الخليج، بدءاً بالعراق إذ يشكل تحدياً حقيقياً للنظام العالمي الجديد، وبالتالي فإن منطق الهيمنة الأميركية والأمن النفطي، سيفترض "إزالة" أو "تعطيل" التوجه العراقي الحالي. تفاصيل الهيمنة والدولة الكردية وتشير التحليلات الاستراتيجية الى أن "النظام العالمي الجديد" الذي تسعى إليه واشنطن منذ انهيار جدار برلين وانفراط الاتحاد السوفياتي كانت تنقصه بعض "التفاصيل". وحرب الخليج الثانية كما حرب البوسنة وحرب كوسوفو، وأفغانستان اليوم، كلها تندرج في استكمال هذه "التفاصيل". ومعلوم ان كل تركيبة دولية جديدة، وكل تأسيس لحال جيو - سياسية جديدة على مستوى العالم، تمر بحروب كبيرة او مجموعة حروب صغيرة متعاقبة: ف"عصبة الأمم" مثلاً كانت نتيجة الحرب الأولى، و"الأممالمتحدة" جاءت نتيجة الحرب الثانية، لكن الاتفاقات والمعاهدات والتوازنات التي حكمت العالم حتى نهاية الثمانينات، انهارت في التسعينات ليتم الانتقال الى "تركيبة" مختلفة للولايات المتحدة فيها الدور الأساس. وإلى جانب مشروع الربط الاستراتيجي بين المصالح الأميركية في آسيا الوسطى وتلك في الخليج، هناك مشروع اميركي محدود أطلق همساً ويسعى الى إقامة دولة كردية في شمال العراق وعلى رغم نفي السفير الأميركي في انقرة روبرت بيرسون لذلك، فإن واشنطن تسعى فعلياً لقيام دولة كردية تعترف بها تركيا وإسرائيل في سياق الخريطة الجيو - سياسية الجديدة التي يفترض ان تلغي مفاعيل الحرب العالمية الثانية لترسي "النظام العالمي الجديد" على أسس بديلة. لذلك كان لا بد من الربط بين السيناريوات من خلال خطة تقضي بمنع العراق من استعادة قوته، والموقف التركي البالغ التعاطف مع توجهات واشنطن يعني انه حين يأتي دور العراق ستكون تركيا الى جانب "الائتلاف" تماماً، وهو ما عبرت عنه وثيقة سرية لوحت بها وزارة الخارجية التركية وتتضمن قراراً لرئيس الوزراء بولنت اجاويد بتدخل عسكري في شمال العراق لاحتلاله، إذا أطيح صدام واستغل الأكراد ذلك لإقامة دولة هناك. ويشير تسريب الوثيقة في هذه الفترة الى المخاوف التركية لا سيما بعد اغلاق بوابة الخابور الحدودية مع العراق في تشرين الأول اكتوبر الماضي من اجل السماح بعبور حوالى 3000 مقاتل من "البيشمركة الأميركان"، وهم الأكراد الذين جندتهم الاستخبارات الأميركية للدخول الى شمال العراق الذي غادروه عام 1996، الى جزيرة دييغو غارسيا الأميركية بدعم من القوات الأميركية المرابطة في قاعدة انجرليك الجوية قرب اضنة. هل تغامر تركيا؟ دفعت هذه السيناريوات الأميركية، وبكل تفاصيلها وتبعاتها المختلفة، انقرة الى التفكير الجدي وقبل ان تبدأ اي خطوة عملية في موضوع العراق خصوصاً أن واشنطن إذا قررت ضرب العراق ستفعل ذلك من تركيا التي اعتبرها الرئيس السابق للاستخبارات الأميركية جيمس وولسي "المفتاح في الموضوع العراقي"، والتي يمكن اقناعها "من خلال اعطائها حصة من نفط الموصل - كركوك". وهو ما اكده وزير الدفاع التركي صباح الدين شاكماك اوغلو، الذي قال "إن انقرة لا تحبذ اي عمل عسكري ضد العراق، إلا انها قد تعيد النظر في موقفها هذا وحسب الشروط والظروف المستجدة"، مؤيداً بذلك اقوال السفير التركي في واشنطن فاروق لوغ اوغلو، الذي اشار الى ان الحكومة التركية قد تؤيد السياسات الأميركية ضد العراق، إذا تأكدت لها صحة الاتهامات الموجهة ضد بغداد. ومن الطبيعي القول ان موقف انقرة الإيجابي جداً من اي تحرك اميركي مستقبلي ضد العراق سيخلق اخطاراً شتى لبلاد الأناضول التي تعيش ازمة اقتصادية خانقة، والتي لا يمكن تجاوزها من دون مساعدة اميركية - اوروبية من طريق صندوق النقد والبنك الدوليين للحصول على مساعدات وقروض بقيمة ثمانية بلايين دولار تضاف الى قروض سابقة متفق عليها مع الصندوق الدولي بقيمة 14 بليون دولار. ولحل هذه الأزمة التي تنبئ بانهيار تركيا، شكلت واشنطن لجنة ثلاثية لمساعدتها مؤلفة من مسؤولي وزارات الخارجية والدفاع والخزانة لشطب ديون تركيا العسكرية البالغة خمسة بلايين دولار، اضافة الى زيادة حصة تركيا في استيراد منسوجاتها لمساعدتها في تجاوز ازمتها الاقتصادية الخانقة. لكن قلق انقرة من نتائج الضربة الأميركية ضد العراق، يتجاوز المسألة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها بلاد الأناضول، الى احتمالات اخرى قد تعيد ترتيب الأوراق من جديد في المنطقة، وتخلق مشكلات جديدة امام الاستراتيجية الأميركية قد تعيق تحقيقها، وأهم هذه الاحتمالات: أن يبدأ الجيش العراقي الزحف نحو الشمال لاستعادته بالقوة العسكرية، ما سيخلق فوضى ونزوحاً للأكراد نحو الحدود التركية كما جرى عام 1991 عندما لجأ نحو مليون كردي عراقي الى تركيا، التي لا تزال تعيش حالاً من القلق، بسبب وجود اكثر من 5000 مسلح من عناصر حزب العمال الكردستاني في المثلث العراقي - الإيراني - التركي. يتخوف المسؤولون الأتراك من ان يسهم العمل العسكري الأميركي ضد العراق في إطلاق الصواريخ العراقية نحو اهداف تركية محددة من بينها قاعدة انجيرليك العسكرية. كما يتخوف الأتراك من ان تشجع العمليات العسكرية الأكراد على استغلال الفوضى وإعلان دولة مستقلة في شمال العراق، وهو ما لا ترضى به انقرة خوفاً من ان تستفز هذه "الدولة" أكراد تركيا على المدى المتوسط والبعيد. ما يمنع الولاياتالمتحدة من تحقيق اهدافها على المستوى الاستراتيجي الإقليمي هو قيام محور: دمشق - بغداد - طهران. وأي اعتداء على العراق حكماً يسرّع قيام هذا المحور الذي بات يمتلك سلاح الدمار الشامل. يعتقد الأتراك، ان اول أدوار المحور إخراج تركيا من مناطق المياه دجلة والفرات. اما مخاوف الاستراتيجية الأميركية فهو ان الفراغ في منطقة المياه، قد يؤدي الى إنشاء كردستان على الأراضي التركية معادية للولايات المتحدة ولاستراتيجيتها في المنطقة. * كاتب سوري.