موسيقيو المترو الباريسي يتنقلون فيه من مقصورة الى أخرى بسرعة اغنيتين في المقصورة الواحدة. ويسافرون هكذا من قطار الى آخر، ومن محطة الى اخرى، في أنفاق باريس التي لا تفرغ من المسافرين. يؤدّون عرضهم بسرعة، ثم يمرّون على ركاب المقصورة مادّين كوب بلاستيك او قبعة لجمع المال، ثم ياخذون آلاتهم ومعداتهم ويخرجون مسرعين الى المقصورة المجاورة، ليؤدّوا فيها العرض نفسه، وهكذا دواليك. وهم بذلك يحاولون ان يسمعوا اغانيهم او موسيقاهم لاكبر عدد من المسافرين، إذ أن نسبة ضئيلة جداً من ركاب المترو، تمد يدها الى جيبها ثم اليهم. وحده شاب محطة "بل فيل" المصري، يبقى مع عوده على الكرسي نفسه، وفي المحطة نفسها، كل يوم، طيلة النهار. كأنه وجد البقعة المثلى، "الملطش" كما يقول اللبنانيون، حيث المارة اكثر كرماً من أي مكان آخر. أو كأنه ليس من موسيقيي المترو الباريسي، بل مجرد رجل يعيش في الجوار، يحب العود والعزف في الاماكن العامة. هو لا يطلب شيئاً من المسافرين الذين يمرون امامه، هو حتى لا ينظر اليهم. والقبعة التي على الارض الى جانبه لا يقرّبها منهم، بل يتركها على الارض، كأنها مرمية، وهو ينظر الى الأرض أمامه وهو يعزف، ويبقي صوت اوتاره خافتاً، كأنه لا يريد ان يزعج الآخرين، او كأنه يعزف لنفسه فقط. لطالما رأيته هكذا، وحده على المقعد الذي اختاره كمن يختار المكان الانسب لفتح متجر، والذي اعتاده كما يعتاد رب المنزل كرسياً معيناً في صالة طعامه. وسرعان ما لاحظت انه يعزف اغانياً أعرفها، لعبد الحليم ولأم كلثوم، فبتّ اجلس بقربه لاستمع للأغاني التي تجعلني احن لبلدي، بين قطار وآخر. والمتعة التي حصلت عليها من موسيقاه، جعلتني ارغب في التكلم معه، فقط لأقول له إنني اعرف تلك الاغنية او ذاك المطرب. كأنني اردته ان يعرف بكل بساطة انني استمع الى عزفه وانني احب ذلك. فكلمته. قال لي انه مصري، وسألني عن أصلي. قلت له إنني لبناني، فبدأ عزف اغنية لفيروز. ابتسمت لاشكره، وتحدثنا بعدها لبضع دقائق. هو رجل خجول اتت به الحياة الى باريس وهو كأنه لم يكن له رأي في ذلك. لا يتكلم الفرنسية، ولا يعرف احداً في باريس. عرفت حينها ان حديثنا العربي يفرحه كما افرحتني موسيقاه، وفهمت انه يبقى هكذا في المكان نفسه، لأن ضوضاء القطار لا تناسب الهدوء الذي يتطلبه عوده، ولأنه خجول وضائع في عالم كل ما فيه غريب عنه. فلا يمد يده لأنه لا يعرف ان يقول بالفرنسية الكلام الذي يجب ان يقال، ولا يتنقل في المترو لانه يشعر بأمان حين لا يتكلم مع احد، حين لا يكلمه أحد. وفجأة، حين قلت له انني طالب في باريس، تغيّر تصرفه تجاهي. عاد الى صمته الذي يخاله احتراماً. وعاد ينظرالى الارض امامه، واعادني بذلك الى خانة الباريسيين الميسورين الذين يتجاهلون الشباب المشردين، حتى الموسيقيين منهم. كأن الفقر وحده كان كفيلاً بأن يجمعنا، يجعلنا متساويين بانسانيتنا. هو لا يعرف اذاً، ولكننا شابان عربيان جالسين قرب بعضنا بعضاً في محطة مترو باريسية، وقد بقيت انا استمتع بذلك كأنني اقل بعداً من الثقافة التي انتمي اليها، ويزيد الحنين نغم العود الذي عاد الى ام كلثوم، حتى وصل قطاري وغادرت. ما زلت اراه، صديقي الشاب المصري، نتبادل التحية بالعربية، ولا نتحدث. وانا ما عدت اضع المال في قبعته كما كنت افعل قبل ان نتعارف، لانني بت اخجل من فكرة اعطاء بعض القروش لشخص تربطني به علاقة مهما كانت. وهو ربما يسأل كيف ابخل عليه على رغم علاقة التعارف التي بيننا. في هذه الاثناء، لا زلت استمع الى الموسيقى التي يوزعها بخجل وحزن على المسافرين الفرنسيين والصينيين وعلي، فأدندن الكلمات ويبقى اللحن في رأسي حين ابتعد في القطار.