ثلاثة أشياء تؤكد لك أنك الآن في الأردن: رؤية مواطنين عابسين في شكل مستمر، يركبون سيارات مرسيدس، ويتسكعون في"المول". والجديد الذي طرأ على هذا القول الدارج بين الشباب هو الكلمة الأخيرة. فعالم"المولات"اكتسح أخيراً حياة الشباب والشابات في هذا البلد المحافظ، ليصير بنداً مهماً في حياة أي شاب يعيش في المملكة. واكتسحت المولات شوارع عمان الغربية، أكثر من غيرها من المناطق الأخرى. وبما أن"المول"يضم مختلف المرافق التي يبحث عنها الشباب، فقد أصبحت بالنسبة إليهم مكاناً مناسباً للإقامة الدائمة. لذلك لا بد من وجود المقاهي بمختلف أشكالها، إلى جانب مطاعم الوجبات السريعة ومقاهي الإنترنت ومحلات ألعاب الكومبيوتر وصالات السينما، إضافة إلى محلات الألبسة. علي بسام طالب جامعي يعتقد أن"المول أفضل اختراع عرفته البشرية، لأنه جمع كل شيء يريده الشخص في مكان واحد. أستطيع هنا التسوق وحضور أحدث الأفلام السينمائية والتبضع... وطبعاً التسكع". وعلي هنا لم ينطق عجباً. فالتسكع هو أكثر ما يهم الشبان والشابات في المتاجر الضخمة، حتى لو لم يقولوا ذلك صراحة، فهذا واضح إن تابعت المشهد عن كثب يوماً بعد يوم. ويقول هشام إبراهيم يعمل في محل إن"الموجودين يتكررون في شكل شبه يومي. كما أنهم لا يشترون شيئاً من المحل. أراهم دائماً يدردشون ويضحكون. أنا متأكد من أن المول مكان مناسب للتسكع". ويبدو أن لاستغاثة هشام صدى جيداً لدى إدارة المولات في شكل عام. فبعضها يقفل أبوابه في وجه الشباب أيام نهاية الأسبوع، ويقتصر دخوله على العائلات. فالتسكع ليس دائماً من غير هدف. والهدف في كثير من الأحيان يكون محصوراً في أمور"البصبصة"وملحقاتها، قدر المستطاع. طبعاً لا يعني الوجود المكثف للشباب في المولات أن الأمر مجرد تسكع مفرغ من المعنى. محمود عزيز يقول إنه مدمن على مشاهدة الأفلام في السينما. ولهذا فإنه يأتي إلى المول كل بضعة أيام ليشاهد فيلماً. ويضيف:"طبعاً ما يساعدني على التوجه إلى المول بكثرة أنني عاطل من العمل هذه الأيام. تركت عملي قبل نحو شهر، والمول يسليني ويجمعني بأصدقائي". أما خطيبة محمود، فرح الأسمر طالبة جامعية التي رافقته لمشاهدة أحد الأفلام، فلها رأي يختلف قليلاً في الموضوع. فهي ترى أن انتشار ظاهرة التسكع طبيعية،"خصوصاً أن نسبة كبيرة من الشباب إما طلاب جامعة أو عاطلون من العمل، والمول مفتوح للجميع، وفيه أماكن تسلية متعددة. بالتأكيد كل هذه المعطيات ستدفع الشباب إلى التسكع. ما المانع في ذلك؟". لكن بالنسبة إلى فرح، تقتصر ظاهرة التسكع في المولات"على فئة معينة من الشباب، وتحديداً على الشباب الذين يتمتعون بوضع مادي جيد. لو نظرت إلى المناطق الشعبية لما وجدت هذه الظاهرة". هنا يتدخل محمود الذي كان ينقل نظراته وعقله بين مجريات الحديث وملصقات الأفلام على الحائط، ويعتبر أن ظاهرة التسكع بحد ذاتها موجودة في كل مكان، وهي العمل المفضل للشباب،"والاختلاف يتلخص في أن المولات غير منتشرة في المناطق الشعبية، لذا يستبدلها شباب تلك المناطق بالتسكع التقليدي في الشوارع". ربما يظهر النقاش الذي دار بين محمود وفرح قدراً من الاتفاق على وجود ظاهرة التسكع وانتشارها بين الشباب، حتى أنها باتت مجالاً لطرح النظريات والاستنتاجات. فصحيح أن توافر المولات سهّل كثيراً من انتشار المتسكعين، إلا أن الوضع الذي يعيشه الشباب هو أكثر ما أدى إلى ذلك. ربما ساهمت المولات بخلق أجواء مناسبة أكثر للتسكع، تماماً كما خلقت شكلاً جديداً للأردن. فالبلاد من دون هذه المجمعات التجارية الضخمة، تخسر ميزة صعبة التعويض، حتى وإن ازداد العبوس على قسمات وجوه المواطنين، أو كثرت سيارات المرسيدس في شوارعهم. == لم أعلم ان زميلتي الباريسية قروية ...قبل أن تستقل القطار لقضاء العطلة بعيداً { باريس - فراس زبيب ودّعني معظم زملائي في الجامعة، في اليوم الأخير من الدروس قبل عطلة الاعياد. ليس لأنني مسافر، بل لأنهم هم مسافرون. هم الفرنسيون، سيأخذون القطار، الذي يقلهم الى قراهم، او مدنهم الفرنسية التي هجروها، للدراسة في باريس. وانا، سوف الوح لبعضهم بيدي مودعاً، بينما يبتعد قطارهم، ثم اعود الى شقتي الباريسية، حيث أمضي العيد. يتبعثرون في مناطق فرنسا كلها، زملائي الفرنسيون، الذين لطالما ظننت انهم باريسيون. سيمضون عيد الميلاد مع اهلهم وعائلاتهم، في بيوتهم التي كبروا فيها، بعيدا من باريس. يتركون باريس حيث يعيشون، ويبتعدون في قطارات اتجاهاتها مختلفة. ليسوا من اهل باريس الحقيقيين. بعضهم قروي، قطع مئات الكيلومترات، للسكن والدراسة في العاصمة. وبعضهم جاء من مناطق ساحلية وبحرية، او من الجبال. كثيرون يسكنون باريس للدراسة من مناطق فرنسا الأخرى. وكثيرون يتركونها لقضاء العطلة في بقية المناطق الفرنسية. تفضحهم لهجتهم أحياناً، وخصوصاً أبناء الجنوب ومدينة تولوز. هؤلاء، اعرف انهم غير باريسيين حين التقي بأحدهم، وأكلمه. أسأله، أنا أيضاً، من أين يأتي، كأنه مثلي مغترب، او كأنني لست في بلاده. هؤلاء، تفضحهم كلماتهم، على رغم شكلهم الباريسي. ولهجاتهم هذه تدلني على اتجاهات قطاراتهم، وعلى مدّة جلوسهم فيها. فاختلاف لهجاتهم عن اللهجة الباريسية، يدل على مدى ابتعاد قراهم او مدنهم من باريس. ولكن ليس للمناطق كلها لهجة. وعندما يتكلم الشباب باللكنة الباريسية، لا شيء يفضحهم. يتكلمون كالباريسيين، ويلبسون مثلهم، ويستمعون الى موسيقاهم. اناييس، زميلتي في الجامعة، تحب الموضة، والموسيقى وباريس. تأتي الى الجامعة مشياً على الأقدام، بثياب واسعة، كما هي الموضة في ايامنا هذه، وفي أذنيها السماعتان الصغيرتان اللتان تسمع من خلالهما موسيقاها المفضلة،"الراب"، وعلى وجهها حلقات عدة من معدن. تبدو اناييس، حين تأتي الى الجامعة، كشابة باريسية عصرية مثالية، كأنها من الشابات اللواتي يسبقن الموضة، وقد يخترعنها غداً. اناييس ودعتني، هي أيضاً، في يوم الدراسة الاخير قبل عطلة العيد، بلهجتها الباريسية المعتادة. سألتها الى أين تذهب، فأجابت بأنها سوف تعود الى قريتها الصغيرة في النورماندي، في الشمال، القرية التي تركتها في السنة الماضية، وحيث تنتظرها عائلتها لعيد الميلاد. "هي قرية صغيرة، يعيش فيها أقل من ثلاث مئة شخص"، قالت أناييس وهي تبتسم كأنها تخجل من قريتها وان كانت في الوقت نفسه تشعر بالشوق اليها. ثم اضافت:"انها قرية لا يحصل فيها شيئ، و لكنني يجب ان اذهب اليها من اجل ان ارى اخوتي وأهلي". في قريتها التي لا يحصل فيها شيء، يعيش شبان و شابات مثلها، يشبهون الباريسيين ويعيشون مثلهم. شباب القرى، في فرنسا، لا يشبهون القرويين. تصل الموضة الباريسية اليهم، فيتنكرون بها. قراهم لا تشبه قريتي في لبنان. فقراهم فيها مسارح ومقاه، ومحلات تبيع ثياباً عصرية كالتي تباع في باريس، وسوبرماركت بدل الدكاكين. وفيها حركة تشبه حركة المدن. وسياح يتنزهون في الشوارع ويلتقطون الصور بكاميراتهم الحديثة. وقراهم فيها مزارعون يعيشون كالموظفين، ورعاة يجمعون طوابع البريد النادرة للتسلية، وشبان وشابات يحلمون بباريس وبالحياة فيها، من دون ان ينقصهم منها شيء فعلاً. اتخيل بيت أناييس بيتهم هناك، الذي يشبه بيوت القرى من الخارج، والشقق الباريسية من الداخل. بيتهم الذي فيه كل وسائل الراحة، ولكن أيضاً أثاث حديث وديكور يواكب الموضة، كالذي في شقق العاصمة. القرى في فرنسا لا تشبه القرى كما أعرفها، والقرويون لا يعيشون في عزلة. المزارعون يلبسون ثياب الموظفين، ويشترون سيارات جديدة ويأخذون دروساً في الرقص، ويجلسون مع أولادهم حول الطاولة للأكل كل مساء. لا يرجع زملائي في الزمن الى الوراء، حين يعودون الى قراهم ومدنهم الصغيرة. لا يبتعدون عن الموضة الباريسية، ولا عن حضارتها ولا موسيقاها. فالقرى هنا لا تشبه القرى في لبنان، حيث الابتعاد عن العاصمة يشبه الابتعاد عن الحاضر، وعن مفهوم الموضة والفن والحضارة. وحيث الاقتراب من القرى يعني الاقتراب من الفقر، والملل والجهل احياناً. ثم أخبرتني اناييس، في حديثنا نفسه، ان اهلها يعملون في مصنع للدهان. قالت ذلك من دون اي تردد. وأنا صرت أفكر أنه لا يبدو عليها كل ما تقول. كأنه يجب ان يبدو عليها ان أهلها عمال في معمل. لأنني آت من بلد يبدو فيه على الفقير فقره، وعلى القروي قرويته. وبينما اناييس تبدو كالفتيات الباريسيات حين تمشي في الشارع، انا بتّ، منذ حديثي معها، لا أرى فيه الا قرويين في ثياب باريسية. غالبا ما التقي بشبان وشابات يخبرونني انهم اتوا من بعيد. من فرنسا، ولكن من بعيد. في البداية، ما كنت أسألهم عن أصلهم، ظاناً انهم هم الباريسيون، وأنا ضيفهم هنا، حين يسألونني عن أصلي. فأنا يبدو علي أنني عربي، من لون بشرتي وشعري، ولحيتي. اقول لهم انني لبناني، وانني لست من أصل لبناني. فيستغربون، ويسألونني كيف يحصل انني اتكلم الفرنسية بطلاقة ان لم اكن فرنسياً. انا يبدو علي انني لست من هذه البلاد، مهما أجدت لغتهم، بينما يتشابهون كأنهم كلهم من المدينة نفسها، ومن القرية نفسها. الآن بت أعرف أن معظم شباب باريس الفرنسيين ليسوا منها، وأعرف ان اسألهم عن أصلهم، كما يسألونني، وأعرف أنهم ربما يأتون من جبال الألب، او من الجزر الافريقية، الفرنسية هي ايضاً، او من الشمال او الجنوب، وأعرف أنهم يعيشون الحياة نفسها، في ديكور ونمط مختلفين. في قرية اناييس، يعيش شباب يشبهون أترابهم الباريسيين، ويعيشون فيها حياة باريسية هادئة، واناييس التي تحب باريس وصخبها، تتوق للعودة اليها قبل أن تغادرها. اناييس ذهبت الى قريتها الصغيرة، ذات الثلاث مئة نسمة، ومثلها، مئات الشبان والشابات، في قطارات تنطلق من باريس، وتأخذ الاتجاهات كلها.