لعله الأطول عمراً بين أبناء جيله، والأكثر حضوراً كذلك الأطول حضوراً في الساحة السينمائية العالمية، هو الذي مثّل في فيلمه الأول عام 1936 حين كان في الحادية والعشرين. ويقيناً انه الأكثر انجاباً بين ممثلي هوليوود كافة، يضارع في هذا مثله الأعلى شارلي شابلن. فأنطوني كوين انجب من زيجاته ما لا يقل عن 13 ولداً. إلا ان هذا كان امراً طبيعياً بالنسبة الى رجل كانت له طاقاته المدهشة. فلئن عرف الناس انطوني كوين ممثلاً وأحبّوه، فإنه هو، كان الى هذا، اشياء عدة اخرى. كان رساماً وكاتباً ومخرجاً ومنتجاً وراقصاً. وكان اميركياً ومكسيكياً. ولمَ ليس يونانياً وإيطالياً وعربياً. أعلن اسلامه ذات مرة، وبدا عليه انه يعرف العالم العربي والتاريخ العربي، هو الذي قام بأدوار عربية، مثل حمزة عمّ الرسول وعمر المختار في فيلمين ليبيين ودور عودة ابو طي في "لورانس" ديفيد لين وأدوار عربية اخرى؟ انطوني كوين الذي رحل اول من امس عن 86 عاماً، عاصر نحو ثلاثة ارباع القرن من عمر السينما، ومثّل في عشرات الافلام والتمثيليات التلفزيونية، وعاش اكثر من بلد وهوية. ترى هل كان في امكان احد ألا يصدق انه زوربا اليوناني الحقيقي، وهو يرقص رقصة السرتاكي الشهيرة في آخر فيلم مايكل كاكديانيس عن رواية كازانتزاكي ويرقص معه الانكليزي آلان باتس؟ وهل كان يمكن احداً ان ينكر عليه تقمصه حمزة في "الرسالة" فيبدو عربياً اكثر من العرب؟ وفي "الطريق" لفيلليني ألم يكن اكثر حقيقية من اي زامبانو آخر يمكن ان يحلم به المعلم الايطالي رفيقاً لجولييتا ماسينا؟ ومكسيكيته ألم تبرز للعيان في "فيفا زاباتا" الى جانب مارلون براندو تحت ادارة ايليا كازان؟ ولاحقاً حين مثّل دور عاشق انغريد برغمان الغادر بها والمطارد من مأجوريها في "الزيارة" اضطر حتى فردريك دورنمات، صاحب المسرحية الاصلية، الى القول ان اداءه فاق في الفيلم كل توقعاته. من المستحيل طبعاً، تعداد كل الادوار التي مثلها بل تقمصها وتقمصته انطوني كوين في حياته المهنية الطويلة. يمكن القول فقط ان ادواره الكبيرة صارت علامات في تاريخ السينما وتاريخ الأداء: لم يعد في امكان احد ان يتصور غوغان إلا تحت ملاحمه في "ظمأ الى الحياة" مع انه، كما في معظم احواله، كان صاحب الدور الثاني في فيلم مينيللي هذا وباراياس، السارق الذي سجن مع المسيح وصلب معه، هل يمكن ان تكون له سمات غير سمات انطوني كوين؟ كان انطوني كوين فناناً شاملاً، غنّى ورسم وأخرج، لكنه لم يفعل اي شيء آخر خارج اطار الفن. بل فعل: انجب كثيراً. وهو حين سرت اشاعة انه اعتنق الاسلام قبل سنوات، قال ان ذلك لم يحدث على رغم حبه الاسلام وتفهمه المسلمين. ثم استدرك وقال: "ربما انطلقت الاشاعة من كوني كثير الانجاب" وضحك. وأنطوني كوين على رغم الادوار المأسوية الكثيرة التي أداها مستخدماً فيها ليونته الجسدية وملامح وجهه الشديدة التعبير، كان معروفاً بمرحه الشديد وسرعة بديهته وميله الى الفكاهة. وهذا يتجلى خصوصاً في معظم صفحات سيرته الذاتية التي كتبها قبل نحو ثلاثين سنة بعنوان "الخطيئة الاصلية"، وكذلك في كتاب آخر عن سيرته كتبه العام 1995 بعنوان "تانغو لرجل وحيد". وأيضاً في المقالات الكثيرة التي اعتاد كتابتها وملأها دائماً بسخرية لاذعة، سخرية تكاد تجعل من شخصيته نسخة طبق الاصل عن "زوربا" احدى اشهر الشخصيات التي مثلها، على امتداد مساره الفني.