تفرد الصفحات الثقافية في الصحافة الأوروبية، كعادتها كل صيف، مساحات لما يمكن أن يُسمّى "قراءات صيفية". هذا تقليد درجت عليه هذه الصحافة متعاونة مع دور النشر والمؤسسات التي تعنى بصناعة الكتاب. اللافت في مطلع هذا الصيف، الاستفتاء الذي أجرته مجلة "لير" الفرنسية حول القراءة الصيفية في أوروبا "الجديدة" التي انضمّت اليها أخيراً عشر دول من القارة القديمة نفسها. دار الاستفتاء حول الكتب "المحلية" و"العالمية" التي يقبل عليها القراء في كل دولة. ولم يكن مفاجئاً أن تحلّ في المرتبة الأولى أوروبياً رواية الأميركي دان براون وعنوانها "كود دافنتشي" وفي المرتبة الثانية رواية الكاتب البرازيلي المشهور باولو كوهيلو "احدى عشرة دقيقة". وإن كان الرواية الأكثر رواجاً في أوروبا هذا الصيف أميركية، فهي تدور حول قضية فرنسية - ايطالية ويمكن أن يقال انها فرنسية المضمون وأوروبية الهاجس. فالحادثة الأولى في الرواية تقع في متحف اللوفر الباريسي ثم لن تلبث آثارها أن تشمل الرسام الايطالي ليونار دافنتشي وأرشيشف الفاتيكان وسواهما. أما "البطل" فهو باحث من جامعة هارفرد وقد تسلّم رسالة سرّية من صديقه الفرنسي الذي يدير متحف اللوفر، قبيل وفاته قتلاً في ظرف غامض. عرفت هذه الرواية منذ صدورها في أميركا نجاحاً كبيراً واستحالت "رواية رائجة" بست سلر في العالم الانغلوفوني وسرعان ما ترجمت الى لغات عدّة. أما رواية باولو كوهيلو التي احتلت المرتبة الثانية أوروبياً فهي تدور في معظمها في أوروبا وتحديداً في سويسرا، وبطلتها برازيلية شابّة تجد نفسها محاطة برجال سويسريين ومتنقلة بين أمكنة سويسرية. وفي هذه البلاد تتحوّل شيئاً فشيئاً الى مومس حتى تلتقي رساماً يغيّر حياتها ويحول دون عودتها الى البرازيل بعدما جمعت الكثير من المال. ترجمت الرواية الى العربية في بيروت وعرفت رواجاً نظراً الى ما يملك كوهيلو من شهرة عالمية وعربية. قد لا يهمّ القارئ العربي أن يلمّ بما يروج في أوروبا من كتب "صيفية" ما دام هو محروماً من مثل هذه المبادرات. وهذه القضية طالما أثيرت في الصحافة العربية ولم تؤتِ أي ثمار. فلا الناشرون العرب - المشغولون الآن بتظاهرة معرض فرنكفورت - معنيون ب"القراءة الصيفية" وما تتطلب من جهد ومثابرة، ولا القراء بدورهم مأخوذون بهذه الفكرة. فالصيف الذي هو أصلاً فصل الاسترخاء والكسل والاستجمام لا يكون فيه إلاّ حيّز ضئيل للقراءة. أما القراء الذين يدمنون هذه الهواية الراقية في كلّ الفصول فلا تكون "القراءة" الصيفية حدثاً في حياتهم. وهؤلاء لا ينتظرون أي مبادرة تحثهم على القراءة وهم طبعاً من القلّة القليلة في العالم العربيّ. ما يؤلم في قضية كهذه أنّ الكتاب في العالم العربي لم يتحوّل رفيقاً دائماً للأفراد، ولم تصبح القراءة بذاتها متعة دائمة تماثل المتع الأخرى التي تحتل حياة الفرد العربيّ. وعوض أن تنتعش دور النشر والمكتبات في الصيف تغدو كأنّها "ضامرة" و"غائبة" ومنصرفة بدورها الى عطلة الصيف. وإذا سألت أحد الناشرين عن هذه الظاهرة السلبية عربياً يقول لك: "إن كان الكتاب لا يروج في الشتاء فهل تراه يروج في الصيف؟" مثل هذا الكلام يزيد من حال اليأس الثقافي ويسلّط الضوء مرة أخرى على أزمة القراءة المتفاقمة في العالم العربي. هل يمكن ألا تعرف البلدان العربية حتى الآن ظاهرة كتاب "الجيب"؟ هل يمكن أن يتراجع عدد القراء العرب بدلاً من أن يتقدم وأن تقفل مكتبات كثيرة أبوابها سنة تلو أخرى؟ هل يمكن أن يظل الكتاب محصوراً بفئة قليلة جداً هي الى مزيد من الانحسار؟ كلما طرحت قضية "الكتاب" العربي ارتفعت استغاثة الناشرين وصرخة الكتّاب والمؤلفين... والأسباب هي نفسها والجميع يعرفها ولكن ما من حلّ. وعلى رغم ذلك يزداد ثراء الكثير من الناشرين ويزداد فقر الكتّاب والشعراء والروائيين... وتبرز الآن ظاهرة الطبع على نفقة المؤلّف في الكثير من دور النشر. ولكن إذا راج الكتاب فصاحبه لن يستفيد منه ماديّاً كما ينبغي. قد لا يكون من المناسب طرح مثل هذه الشجون إزاء الكلام عن "قراءة" الصيف... لكن أزمة الكتاب تتوزّع في حلقات يرتبط بعضها ببعض! ترى لو سألنا دور النشر عن خطة صيفية لتوزيع الكتاب فهل لديها من جواب؟ ولو أجرينا استفتاء في العواصم العربية عن أكثر الكتب رواجاً في الصيف فما تراها تكون؟ بل هل يكون هناك من كتب رائجة فعلاً؟ قد يأخذ بعض المثقفين الأوروبيين على بروز "الرواية الرائجة" البست سلر في صيف أوروبا على حساب الروايات الجادّة والطليعية. وقد يكون هذا من حقهم، أما المثقفون العرب فهم يأخذون دوماً على رواج كتب مثل كتب الطبخ والمنوعات والتسلية. ويا ليت هؤلاء يأخذون ذات يوم على القراء العرب، نزعتهم الى الروايات الرائجة. فمثل هذه الكتب، حتى هذه الكتب، لا تشهد الرواج المفترض عربياً. أما روايات باولو كوهيلو الرائجة في ترجماتها العربية فلا يتخطى مبيعها الأرقام المعروفة وشبه المحدّدة مسبقاً. ليقرأ المواطنون العرب ما شاؤوا، فالمهم أن يقرأوا. والمهم أيضاً أن يصبح الكتاب واحداً من الأشياء التي يصطحبونها في رحلاتهم الصيفية وفي اقامتهم أينما كانت! روايات رائجة؟ ليقرأوا من غير تلكؤ. لعلّ مثل هذه الروايات تثير رغبتهم في المزيد من القراءة وتنعش قليلاً حال الكتاب العربي.