"إذا حاولنا ان نثمن اعمال شكسبير تبعاً لمعايير مؤسسة على قاعدة اسمى درجات التطلب الجمالي، لن يمكن ان يفوتنا ابداً اعتبار مسرحيته "انطونيو وكليوباترا"، اسمى اعماله مستوى". هذا الكلام قد يفاجئ كثراً بين مصدق ومكذب. ومع هذا فإنه من كتبه يعتبر من كبار الاختصاصيين في ادب شكسبير في زمننا الراهن. وهو حدد غايته: أكد ان ما يعنيه هنا هو الناحية الجمالية، لا قوة التعبير ولا صلابة الموضوع. ومن هنا فإن ما شاء قوله هو بكل بساطة ان "انطونيو وكليبوباترا" هي الأجمل بين اعمال شكسبير. ولعلها الأجمل لأن بطلتها كانت، في زمنها، وكذلك بالنسبة الى شاعر الإنكليز وكاتبهم المسرحي الكبير، اجمل النساء. ومن هنا، فإن شكسبير لا يفوته ان يؤكد في هذه المسرحية ان من غيّر وجه العالم في ذلك الزمن القديم لم يكن "انف كليوباترا" كما كان كثر يقولون، بل جمالها ككل هي التي كانت، في ذلك الحين، وبحسب شكسبير، بين آخرين، تمثل "جمال العالم ولذة العيش في آن معاً". لذلك لم يكن غريباً ان يقع قياصرة روما في غرامها، وأن يتنازعوا عليها تنازعهم على غزو مصر نفسها. والطريف في هذا كله ان شكسبير، في الوقت نفسه الذي يعزو فيه اموراً كثيرة الى جمال كليوباترا، يقول في الآن عينه انها كانت محظية وملكة، مكتهلة ورائعة في لونها البرونزي، ذات نزوات ولئيمة متهكمة: كانت بالنسبة إليه تجسد الأنثى الخالدة، وبطلة تواريخ الحب المجنون التي عرفت كيف تسمو، حتى بفضل ضعفها الى ارقى درجات العلو. ومع هذا يقول لنا شكسبير انها كانت السبب في هزيمة اكثيوم بفعل جبنها وترددها: لقد شاءت ان تلتف على المعركة قبل اندلاعها، لكن الخوف استبد بها فهربت. غير ان شكسبير يوضح لنا هنا ان عدوها انطونيو، كان مولهاً بها الى درجة انه سرعان ما تخلى عن جنوده وسط لهيب المعركة ليلحق بها. كل هذا قد يبدو لنا هنا، غير صحيح وغير منطقي. لكنه موجود في سجلات التاريخ، ثم كذلك وبخاصة في تلك المسرحية التي كتبها شكسبير العام 1607، اي خلال الحقبة التي وصل فيها الى اعلى درجات نضجه. والحال ان نضج شكسبير هنا يتجلى في لغة كتابة المسرحية وفي ابيات الشعر التي يستخدمها فيها ويبلغ عددها اكثر من 2700 بيت معظمهاً يبدو وكأن له علاقة مباشرة بأجمل سوناتات هذا الكاتب/ الشاعر الكبير. من الناحية التاريخية تتلو احداث "انطونيو وكليوباترا" مباشرة تقريباً، الأحداث التي رواها لنا شكسبير نفسه في مسرحيته "الرومانية" الأخرى "يوليوس قيصر". فأحداث هذه الأخيرة تنتهي في العام 42 ق.م. اما احداث "انطونيو وكليوباترا" فتدور بين مصرع فولفيا في العام 40 ق.م. والعام 31 ق.م. تاريخ موقعة اكثيوم، وموت البطلين وانتصار اوكتافيا سيزار، الذي سيعرف لاحقاً بأوغسطس قيصر. اما بالنسبة الى شكسبير فإن نحو ثمانية اعوام مرت بين كتابته "يوليوس قيصر" وإنجازه "انطونيو وكليوباترا". وهي اعوام حسّنت لغته الشعرية كثيراً، وعلمته كيف يحلل بشكل افضل سيكولوجية شخصياته، وكيف يعطي الغرام مكانة اكبر في كتابته. ومن نافل القول ان "انطونيو وكليوباترا" أفادت من هذا كله في شكل يبرر تماماً الحكم الذي اوردناه اول هذا الكلام. الأحداث التي ترويها لنا المسرحية اذاً، تتلو هزيمة الجمهوريين في روما... حيث انتهى الأمر بالترويكا الحاكمة الى تقاسم اراضي الامبراطورية الرومانية. وكان واضحاً منذ البداية ان ذلك التقاسم الثلاثي لن يدوم طويلاً... إنه قانون التاريخ. وكان من الواضح ان واحداً من الثلاثة، اي اوكتافيو، الأصغر سناً ولكن الأكثر إقداماً سينتهي به الأمر الى سحق الآخرين... وهكذا ما ان أُبعد الخطر الخارجي، الذي وحّد الثلاثي الحاكم لفترة، حتى بدأ الصراع الداخلي يندلع - تبعاً لقوانين عرف شكسبير دائماً كيف يعبر عنها في كل مسرحياته التاريخية -. وكان الصراع اول الأمر بين انطونيو والقيصر... لكنه - بحسب دارسي شكسبير - لم يكن صراعاً عادياً بين قوتين مهيمنتين طموحتين، بل كان - بالأحرى - صراعاً يدور داخل انطونيو الذي، بحسب شكسبير، كان ثمة في داخله شخصان: القائد العسكري الذي لا يقهر من ناحية، والإنسان العاشق الذي احب ملكة مصر وسُحر بها من ناحية ثانية. وهكذا، إذا كان انطونيو انتصر دائماً في الحرب، فإن هزيمته لن تكون إلا بسبب الحب. وطوال المسرحية سنجد انطونيو "متأرجحاً بين الحب والحرب، بين القائد والإنسان في داخله. غير ان هذه الازدواجية ليست الوحيدة في المسرحية. هناك ازدواجية مهمة اخرى، هي ازدواجية الشرق والغرب. اما قيصر، فإنه في البداية ظهر - بحسب ادعاءاته - وكأنه يريد ان يحمي "صديقه" انطونيو من نفسه الأمّارة بالسوء... وكذلك من افتتانه بالسحر الذي سحرته به ملكة مصر. وهكذا تبدو لنا الحوارات بين قيصر وانطونيو رائعة تحمل ألف معنى ومعنى، بل ان قيصر يصل الى حد التقريب بين اخته اوكتافيا وبين انطونيو لعل ارتباطهما ينقذ هذا الأخير من ولعه بكليوباترا. ولكن من الواضح لشكسبير ولنا بالتالي ان كل ما يفعله قيصر انما هو مبني على حسابات خادعة ودقيقة. فقيصر يعرف ان انطونيو لن يتخلى عن "حبه" لملكة مصر، وأنه لن يصغي له ابداً. بل ان قيصر، في قرارة نفسه يعرف منذ البداية ان هذه هي غايته هو نفسه، طالما ان ذلك الهيام سينتهي بتدمير انطونيو... وقيصر لا يريد في الحقيقة إلا هذا الدمار، لأن فيه امله الوحيد بتحقيق طموحاته وتطلعاته الخاصة. وهكذا، بفعل عودة انطونيو الدائمة الى حضن كليوباترا، تكون القطيعة الغامضة بين قيصر وأنطونيو - رغماً عنها! - تقدم هي على الانتحار. إن بعض المؤرخين يرى انها انتحرت حباً وحزناً على عاشقها. لكن الحقيقة التي يقولها لنا شكسبير تفيدنا أن الملكة انما انتحرت خوفاً من الأسر والاسترقاق. وهكذا يضعنا شكسبير مجدداً امام لؤم التاريخ وأمام الدوافع الحقيقية، لا المتخيلة عاطفياً للشخصيات. إن هذه التفسيرات الشكسبيرية كلها هي ما يجعل من هذه المسرحية عملاً استثنائياً في مسار صاحب "هاملت" و"عطيل" و"الملك لير"... إذ ان شكسبير ركز هنا على بناء الشخصيات والتوغل في عواطفها، اكثر مما ركز على بناء الفعل المسرحي نفسه، ما يربط هذه المسرحية، من هذه الناحية على الأقل - برباط حميم مع شقيقتها "الرومانية": "يوليوس قيصر"، علماً أن هاتين المسرحيتين تشكلان مع "كريولاتوس" ثلاثياً رومانياً كتبه شكسبير، في ثلاث مراحل متفرقة من حياته، ودائماً - تقريباً - انطلاقاً من مدونات بلوتارك، لكنه آثر ان يجعل منها اعمالاً تضيء بقوة على عدد كبير من مواضيعه وغوامض مسرحيات تاريخية له، لم تصل فيها جرأة طرحه وتحليله الى المستوى الذي بلغه في تلك الثلاثية الرومانية الكبيرة.