يمكن القول ان محاكمة صدام حسين قد بدأت وانتهت! يوم الخميس الماضي بالنسبة إلى الحكومة العراقية الموقتة برئاسة الدكتور اياد علاوي والتي أرادت أن تعطي انطباعاً بولادة"عراق جديد"يسمح بظهور الرئيس المخلوع أمام محكمة عراقية وهو الذي لم يسمح بمحاكمة أي مواطن عراقي محاكمة عادلة. وهكذا حاول المسؤول القضائي العراقي سالم الجلبي أن يختصر 35 عاماً من حكم صدام ب35 دقيقة من أبرز الجرائم الموجهة إليه. من حيث الشكل، تطور المشهد الخارجي للرئيس العراقي الذي ما زال يرفض التخلي عن منصبه"كرئيس للجمهورية العراقية"من الصورة الستالينية لدى اعتقاله في شهر كانون الأول ديسمبر الماضي في ذلك المخبأ السري قرب تكريت كما أعلن في حينه حيث بدا زائغ النظرات، كث شعر الرأس واللحية بالمزيج من اللونين الأسود والأبيض. والبعض شبه شكله الستاليني بصورة راسبوتين. أما عند مثوله أمام المحكمة الخاصة يوم الخميس، فقد بدا كسولجنتسين المفكر الانفتاحي الروسي والمنظر، وقد رآه الجميع يكتب على ورقة صفراء بعض الملاحظات تعليقاً على التهم التي وجهت إليه وهي طويلة. وقبل التوغل أكثر فأكثر في الشأن العراقي بوضعه الجديد مع تسلم السلطة والسيادة من قوات التحالف الاحتلالية، هنالك بعض الجوانب القانونية التي يجب معرفتها من قبل الجميع، علّها تلقي بعض الاضاءة على نقاط غامضة. من ذلك أن حواراً طويلاً جرى بين السلطة العراقية الموقتة والسفير بول بريمر حول ضرورة تسليم صدام إلى الجانب العراقي. وصدام عندما كان في عهدة القوات الأميركية كان يعامل على أساس أنه"أسير حرب"، الأمر الذي يمكنه من التمتع بما نصت عليه معاهدات جنيف الثالثة والرابعة من حيث الضمانات والامتيازات التي يتمتع بها. ولكن منذ لحظة تسليمه إلى الجانب العراقي سقطت هذه الصفة عنه وبات"مجرم حرب"وليس"أسير حرب". وبالإضافة إلى ذلك، فإن التعجيل في اتخاذ خطوة اظهار صدام حسين أمام المحكمة العراقية يتصل بخلفية مهمة، فقد طلب الصليب الأحمر الدولي من العراق:"حاكموه أو اطلقوه"خلال أسبوعين، وفقاً لاحترام القوانين الدولية، ولهذا السبب تم استعجال الاجراءات وإعداد لوائح الاتهام الموجهة إلى الرئيس المخلوع. والذي حدث أن صدام رفض أولاً الاعتراف بشرعية المحكمة، وهو الذي فوجئ بوجود قضاة عراقيين بالذات هم الذين يوجهون الاتهامات إليه، وهو يطعن بشرعيتهم لأنهم عينوا من قبل قوات التحالف. ولكن اتضح لكل من شاهد الشريط المكتوم الصوت أولاً ثم مع الصوت لاحقاً، بدا له بوضوح أن صدام استرسل في الدفاع عن التهم الموجهة إليه، وبدت نظراته هي نفسها كما ظهرت غطرسته وغروره وتمرده. وكان طبيعياً أن يحيل الموضوع كله إلى"المجرم الحقيقي جورج بوش"، كما أنه لم يتورع عن الدفاع بقوة عن اجتياحه الكويت عام 1990، ووضع ذلك ضمن إطار سعيه للمحافظة على"الأراضي العراقية". وكان من الطبيعي في نهاية الأمر أن يرفض التوقيع على مضبطة الاتهامات الموجهة إليه. أي ديكتاتور في العالم فعل ذلك؟ واعترف طواعية بجرائمه؟ ولعله كان يراهن على محاكمة دولية كما يعمد إلى اقتباس محاكمة سلوبودان ميلوشيفيتش أمام محكمة لاهاي والتي لا تزال معلقة حتى الآن. لكن السلطات العراقية اعتمدت على أن صدام حسين ارتكب العديد من الجرائم بحق الشعب العراقي، بالإضافة إلى جرائم بحق الإنسانية، لذا كان تغليب فكرة مثوله أمام محكمة عراقية على اعتبار المحكمة الدولية. أما التفاصيل القانونية والاشكاليات التي يثيرها هذا الفريق أو ذاك حول شرعية المحكمة والمحاكمة، فلم تعد على جانب كبير من الأهمية، باعتبار أن الجدار القانوني، إذا قيض له أن يتواصل سيكون طويلاً، هذا إذا حدث. وقد لا ينتهي نهاية طبيعية. أما الكلام الكبير عن محاكمة علانية مشرعة أمام عدسات التلفزيون، فلم يكن إلا من قبيل الاستهلاك والاستعراض الكلامي. ولعل الجلسة الاجرائية الأولى وما جرى من تشديد على عدم سماع صوت صدام ومرافعته عن نفسه، كما كان التشديد عينه على عدم اظهار وجه ممثل القضاء العراقي لأسباب أمنية مفهومة، كلها تعطي المؤشر على الخطوات الآتية حيث عاد صدام حسين إلى الحماية الفعلية للقوات ذات الجنسية المتعددة. ونأتي الآن إلى الوضع العراقي الجديد بعد الثلاثين من حزيران يونيو على رغم أن ضرورات سياسية وجود جورج بوش وتوني بلير في اسطنبول، بالإضافة إلى ضرورات أمنية فرضت التعجيل بنقل السلطة والسيادة قبل يومين. لقد أطلقنا على الحرب الأميركية على العراق منذ البداية أنها حرب سفاح. والمولود السفاح هو نتاج علاقة غير طبيعية حتى لا نستعمل تعبير"غير شرعية"بين الطرفين المعنيين الأميركي والعراقي بشخص صدام حسين شخصياً. ولأن هذه الحرب بدأت بصورة غير قانونية وانقسم العالم كله حول شرعية القيام بها، كان لا بد أن تكون محطتها الأولى على الطراز والمثال نفسيهما. فالذي جرى يوم 28 حزيران 2004، كان نقلاً للسلطات وللأزمات، لأن المشاكل التي خلفها السفير بول بريمر - عن غباء في ما ظنه ذكاء - هي مجموعة أعباء بحد ذاتها على السلطات العراقية، لذا يجب أن يُقال وبكل وضوح إن الحكومة العراقية الموقتة والمثبتة بموجب قرار مجلس الأمن الأخير، ستواجه عبئاً مضاعفاً يختصر في العنوان الآتي:"تصفية مخلفات حكم صدام حسين، وإزالة آثار أخطاء وعدوان السفير بول بريمر". التركة الأولى معروفة، أما الثانية فلفرط ما أقدم بريمر على اتخاذ قرارات خاطئة منذ توليه الإدارة المدنية لحكم العراق، وهو غادر بغداد مع"عشيقة عراقية"ليستمتع بتعليم الطبخ وبكتابة مذكراته التي ستكون حافلة ولا شك. ولقد أحصت إحدى الصحف البريطانية الفترة التي أمضاها صدام في حكم العراق فحددتها ب9114 يوماً. لكن هل يعني رحيل بريمر خلو العراق من الوجود الأميركي؟ إن البديل سيكون أكبر سفارة لأميركا في العالم تضم ما يزيد على ثلاثة آلاف موظف. أما"المندوب السامي"الجديد فهو السفير جون نيغروبونتي. وبعض المعلومات والخلفيات عنه ربما كانت ذات فائدة. إنه يتمتع بخبرة أربعة وأربعين عاماً في العمل الديبلوماسي. خدم في بدايات حياته العملية كضابط اتصالات في فيتنام ثم تحول إلى السلك الديبلوماسي وارتقى السلم الوظيفي ليصبح في ما بعد سفيراً في هندوراس والمكسيك والفيليبين قبل أن يتولى منصب المندوب الأميركي في الأممالمتحدة. والسفير نيغروبونتي في الرابعة والستين من العمر ولد في لندن لأب يوناني ثم هاجرت أسرته إلى الولاياتالمتحدة ابان الحرب العالمية الثانية. وتلقى تعليمه الجامعي في القانون بجامعة هارفرد، وتبنى مع زوجته خمسة أطفال أثناء عمله في هندوراس. ولدى وصوله إلى بغداد حاول الاحتفاظ بالقصر السابق لصدام حسين كمقر للسفارة الأميركية الجديدة، لكن خلافاً نشأ حول هذا الموضوع، وتطلب الأمر استشارة الرئيس بوش عندما كان في اسطنبول لحضور قمة دول حلف الاطلسي، الذي حسم الخلاف لجهة الفصل بين مبنى السفارة والقصر الجمهوري الذي تحتله قوات التحالف. اما الحوار الذي لن ينتهي بسرعة فهو اختلاف الآراء والاجتهادات والتفسيرات حول"قانونية"الحكومة العراقية التي تتولى الحكم حالياً. فمن اراد ان يكون ايجابياً لقال إن هذه الحكومة هي خطوة انتقالية نحو مرحلة اكثر ثباتاً وقانونية وشرعية الا وهي المرحلة التي ستنبثق عن اجراء الانتخابات الديموقراطية والمقررة استناداً الى قرار مجلس الأمن الأخير بحلول 31 كانون الاول 2004 إذا أمكن أو في موعد لا يتجاوز بأي حال من الاحوال 31 كانون الثاني يناير 2005. الأمر الذي يعني بوضوح ان هذه الحكومة هي موقتة بطبيعتها، يحميها ويظلل وضعها قرار دولي من مجلس الامن. اما من اراد ان يكون سلبياً فهو يذهب الى التشكيك بشرعية هذه الحكومة وبكل التدابير التي ستقدم عليها باعتبار انها حكومة غير منتخبة من الشعب. وهنالك رد على هذا القول وهو: كم عدد الدول العربية التي تتمتع بسلطة منتخبة بصورة ديموقراطية، كي يتم التشكيك بالسلطة القائمة في العراق؟ يضاف الى ذلك ان استرداد العراق لسلطته وشرعيته بالصورة الكاملة وغير المنقوصة هو مسؤولية عربية ايضاً. ويكفي كخطوة اولى من بعض الدول العربية الا تتدخل في الشأن العراقي كمساعدة ايجابية. لكن بامكان العرب ان يمدوا يد العون الى العراق بتركيبته الحالية بقطع النظر عن الحساسيات التي لا فائدة من التمسك بها، لان استقرار العراق سينعكس استقراراً على دول الجوار، وان فشل مشروع الاستقرار الأمني في العراق سيكون له الكثير من التداعيات والمضاعفات غير المريحة على هذه الدول نفسها. وفي هذا الزمن يبرز"العنصر الاسرائيلي"في المعادلة اذ اعلن وزير الخارجية الاسرائيلي سلفان شالوم ان اسرائيل ترغب في اقامة علاقات ديبلوماسية مع العراق، واعترف بوجود اسرائيلي في شمال العراق واضاف:"سنترك للشعب العراقي ان يقرر ما اذا كان يريد اقامة مثل هذه العلاقات مع اسرائيل". ولم ينس ان يوضح"ان رجال الاعمال الاسرائيليين الموجودين في كردستان العراق يعملون لحسابهم الخاص". فهل ان اسرائيل تستعد لعبور"الشرق الاوسط الجديد"عن طريق الخاصرة العراقية؟ وفي سياق متصل نشير الى موقف مميز لأساقفة من بريطانيا يوجهون اللوم والتوبيخ لحكومتهم في شأن العراق. ففي اشارة واضحة للنفوذ المتنامي للحركة المسيحية الصهيونية في الولاياتالمتحدة والتي تتبنى وجهة النظر القائلة إن اقامة اسرائيل التوراتية ضرورية لتسهيل العودة الثانية للمسيح اقر الاساقفة بأنه"داخل المجتمع المسيحي الاوسع لدينا جهود دينية للقيام بها لمواجهة مثل هذه التفسيرات للنصوص الدينية من خارج الاتجاه الرئيسي المتعارف عليه والذي يبدو انه بات اكثر نفوذاً في ترويج التعاطي الاحادي الجانب لمستقبل الارض المقدسة". وهذه صرخة مهمة تسجل لاساقفة بريطانيا في هذا التوقيت بالذات. حيث يجري التذكير بالمواقع التي تسلم فيها البريطانيون السلطة ثم ارغموا على اعادتها الى اصحابها ابتداء من العام 1783 موعد تسليم البريطانيين السلطة الى الاميركيين بعد حرب الاستقلال وصولاً الى العام 1917 عندما حكمت بريطانيافلسطين بعد انتزاعها من الامبراطورية العثمانية الى ان كان وعد بلفور الذي مهد الطريق لانشاء دولة اسرائيل كأول دولة يهودية في التاريخ منذ الفي عام بينما وافق قرار دولي للامم المتحدة بعد ذلك على تقسيم ارض فلسطين بين العرب واليهود. كل هذا لنقول ان الوضع في المنطقة العربية وهذه التسمية قد تتغير في وقت ليس ببعيد هي ملفات مترابطة ولا تجدي سياسات التقوقع والانكفاء لاتقاء المخاطر الآتية بشتى الاشكال والاساليب والتسميات. ما يجب ان يقال في نهاية الامر ان اظهار صدام حسين المتهم امام كاميرات التلفزيون للشعب العراقي اولاً والعرب ثانياً وللعالم ثالثاً هو نقطة تسجل لمصلحة حكومة اياد علاوي طبيب العراق المداوي في هذه المرحلة. رغم ان الرئيس السابق ظهر خلال مبارزته القانونية وكأنه القاضي والمتهم والسجان"ورئيس الجمهورية العراقية"رغم كل ما حدث. ومن الطبيعي ان تتفاوت آراء العراقيين وغيرهم في تقرير مصيرهم بين مؤيد لاصدار حق الاعدام بحقه وبين معارض لذلك. ولا ننسى ان لندن وباريس ابدتا رغبة واضحة بعدم تنفيذ حكم الاعدام لكنهما لا تستطيعان فرض هذا الرأي على السلطة العراقية. وبصراحة متناهية لم يعد مهماً بهذا القدر الكبير ما هو المصير الذي سينتهي اليه صدام حسين، لان القضايا التي ينشغل بها العراق من الآن فصاعداً تمثل تحديات كبيرة، حتى اكبر من تقرير مصير حياة صدام حسين وسائر شركائه في الحكم الذين قيل ان بعضهم كان يرتعد ويرتجف امام القاضي وفي طليعتهم علي حسن المجيد الكيماوي وسبحان مغيّر الأحوال. ان تموز"العراق الحديث"يأتي هذا العام مختلفاً عن كل ما سبقه من هذا الشهر الاكثر شهرة في تاريخ العراق. ومهما قيل ان الجلسة الاولى من محاكمة صدام كانت استعراضية لكنها عكست نمطاً جديداً في اسلوب التعاطي مع الامور في العراق، سواء خلال الفترة الانتقالية وعبوراً نحو الفترة الاكثر استقراراً والتي ستتحدد ملامحها ومصالحها بعد سماح الوضع في البلاد باجراء انتخابات ديموقراطية حقيقية وعندها تعرف حقيقة خيارات العراقيين على اختلاف الوان الطيف العراقي وأنواعه، والتركيبة الجديدة للعراق المتعدد الاعراق. * كاتب لبناني.