في كتابه «الإسلام والمسيحية سوسيولوجيا العصور التأسيسية»، (دار الرافدين، 2016)، يعالج الدكتور صادق المخزومي العلاقات الإسلامية- المسيحية على مستوى كلّ من: التّاريخ، والاجتماع، والتّشريع. الكتاب يقع في 520 صفحة من القطع الكبير ويُعْنى -في الدرجة الأولى- ببحث إشكالية حوار الحضارات والأديان، مُستأنساً بالاحصاءات الحديثة التي تؤكّد أن 48 في المئة من سكان العالم يعتنقون الأديان السماوية، أو ينتسبون إلى جماعات دينية ابتكرها البشر، وأن المسيحية تحتل المجموعة الدّينية الأولى بما يمثل 5.13 بالمائة من سكّان العالم المنتسبين إليها، واحتلت الديانة الإسلامية المرتبة الثانية إذ يعتنقها 2:32 في المئة من سكّان العالم، ثم اليهود كأقل المجموعات الدّينية بنسبة لا تتعدّى 2.0 في المئة، إذ لا يتجاوز عددهم 41 مليون شخص. والواقع أنَّ بقاء المسيحية والإسلام يحتلان المساحة الكبرى على خريطة الأديان منذ قرون، دفع كثيراً من الباحثين إلى محاولة تفسير هذه الظاهرة، واستكناه طبيعة العلاقات التّاريخية بين الدّيانتين. وضمن هذا السِّياق العام يتنزل هذا الكتاب حيث ركّز في الجانب التّاريخي على دراسة العلاقات الإسلامية- المسيحية إبّان القرن الأول الهجري/السابع الميلادي (عصر الرسالة والخلافة الرّاشدة والدولة الأموية) من أجل استكشاف جذورها على مستوى الفكر والممارسة التاريخية. ونتيحة لذلك، تشعّبت الفصول لتغطّي الجوانب، أو العلاقات، السّياسية، والدّينية، والحقوقية، والاجتماعية المعنية بالعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في ظل الحضارة الإسلامية. كما استوعب الكتاب تجليات العلاقة بين الجانبين على المستوى الاجتماعي بصفة خاصة من تزاوج وتزاور، وتعارف وتعايش، وتبادل للخبرات والمصالح والمعارف، والتي تعدّ ترجمة حقيقية لمناخ التّعايش السّلمي الذي طبع العلاقة في أغلب مراحلها التّاريخية. ووفق المؤلّف، فإنّ الإشكالية الرئيسة للكتاب تكمن في ماهية الظّاهرة المسيحية، ومدى تفاعلها، واندماجها في البيئة الإسلامية، وحجم العلاقات الإسلامية المسيحية في ضوء المتغيرات الدّولية، والأبعاد التّاريخية والاجتماعية والثقافية التي سادت إبّان القرن الهجريّ الأول، وما تلاه من مُتغيرات تاريخية وفكرية في القرون اللاحقة. فنشأة الإسلام في بلاد العرب لم تكن أمراً عبثياً، بل جاءت لملء الفراغ الدّيني الذي سبَّبه توسُّع الشَّتات في الأفكار والمذاهب الدّينية من جانب، وانتشار الوثنية في البلاد العربية من جانب آخر. كما أنّ القرآن الكريم هو أول كتاب سماوي يتناول الأديان بالشّرح، ويُقدِّس كتُبها، ويعدّ الإقرار بها شرطاً للإيمان في الإسلام، ويخصُّ المسيحيين بالمودّة والقربى ويدعو إلى التقارب مع معتنقيها، باعتبارهم في ذمة الله ورسوله. إنّ أهمية هذا الكتاب تكمن في اعتماده على المصادر المسيحية والسّريانية التي تتضمّن معلومات مهمّة في ما يخصُّ المجامع الكنسية التي حضرها أساقفة العرب، وما آلت إليه من قرارات، فضلاً عن تبيان الأسباب، وكذلك التعريف بالآراء والمذاهب المسيحية التي ظهرت بين نصارى العرب، ومعرفة الأبرشيات العربية التابعة للكنيسة النسطورية أو اليعقوبية، وأسماء أساقفتها، والتي تقدِّم الدّليل على حالة الرُّقي الثقافي في أكاديميات الرّها ونصيبين وجنديسابور، التي ارتبطت بأسماء عدد من العلماء، ساهموا في الحراك الحضاري. وفي مقدم هذه المصادر السِّريانية: «تاريخ ميخائيل الكبير»، بطريرك الكنيسة السّريانية الأرثوذكسية، الذي نقل أحداثاً سياسية، ومعلومات مفصَّلة عن علاقة الحكّام المسلمين بمشاهير المسيحيين، وعمَّال الأمصار ورؤساء القبائل العربية وعامّة الناس. كما اشتُهر ابن العبري المؤرّخ السّرياني المتوفَّى عام 586ه بمساهماته الغنية في حقل الدّراسات التّاريخية: «تاريخ السّريان»، «التّاريخ الكَنَسِي (من هارون إلى ما بعد العهْد الرَّسُولي)»، «تاريخ العرب»، والتي جمعها كلها في آخر حياته في أسلوب عربي مُؤثّر تحت عنوان: «مختصر تاريخ الدول». ينتهي المؤلِّف -بعد استعراض طبيعة العلاقات الإسلامية- المسيحية في عصر النبوة- إلى القول: اتّجه الرّسول (صلى الله عليه وسلم) للتّعامل مع المسيحيين العرب بعد فراغه من قريش واليهود، ولم تتعدَ هذه الفترة خمس سنوات، وقد دخل في الإسلام فيها عدد قليل من مسيحيي دوْمة الجندل، كَلْب، ونفر قليل من غسَّان وبرَاء، وبعض التّغالبة. وهكذا ظلّ أغلب المسيحيين في أطراف الشّام الجنوبية على دينهم عند وفاة الرّسول حيث ظل مسيحيو نجران على دينهم، وكذلك كان الأمر مع أقسامٍ من بني ناجيَة وكندة وحِمْير. ووفق المؤلِّف، فقد اعتمد النَّبي في دعوة المسيحيين للإسلام أسلوبين، حيث حمل على بعضهم عسكرياً، كما هي الحال بالنسبة الى كل من: دوْمة الجنْدل وأطراف الشَّام، وبعث رُسلَه وكتُبَه ومن يحاور أو يجادل نصارى نجْران. وقد تراوحت مواقف المسيحيين العرب بين المقاومة في البداية، ثم الخضوع مثل: كَلْب ودوْمة الجندل، وبين التَّحالف مع الرُّوم ضد المسلمين كما في جنوب بلاد الشّام، أو الاستجابة السّريعة للدخول في الدّين الجديد، كما في حالة عبد القيس سادة حِمْيَر، وناجيَة. وفي الأخير لا يمكن الحديث عن مواجهةٍ كُبرى بين الإسلام والمسيحية، كما حدث مع قريش واليهود. وفوق هذا، ليس ثمة مصدر يذكر أنَّ المسيحيين قد بادروا بالهجوم على أي موقع من مواقع المسلمين، ولم تقع تلك الحملة التي أعدّ لها الرُّوم لمهاجمة المسلمين، والتي كان من المقرّر أن يُشارك بها مسيحيون عرب من جنوب بلاد الشّام قبل غزوة تبوك. ويبدو أنَّ أَسْلَمَة المسيحيين العرب، أو عدمها، ارتبطت بأسباب مختلفة، فقد أسلم بعضهم حِفاظاً على مصالحه كسادة حِمْيَر، أو لعدم تعمُّق المسيحية في النُّفوس حيث كان دخولهم في المسيحية حديثاً عندما أتى الإسلام. أمَّا من تعمَّقت المسيحية في نفوسهم، كأهل نجران، فقد بقوا على دينهم، على رغم كلّ محاولات الرّسول لاستمالتهم إلى الدّين الجديد. لقد حقّق النَّبي جملة من المكاسب والإنجازات الحضارية منذ القرآن المكّي وفي السنتين الأوليين من الإسلام المدني، مُشدِّداً على ضرورة الالتزام بأخلاق العدل والإنصاف والإحسان والرحمة، والاعتراف بالدّيانات المعروفة في عصره باعتبارها تمثّل طرُقاً للخلاص الرّوحي لجماعات المؤمنين، كما شدّد على مبدأ الحرية الدّينية حيث لا إكراه في الدّين. وهذه المكاسب جسَّدت الحرية الدّينية في أبهى صورها، وعزَّزت التَّقارب بين الدِّيانتين حيث شكَّلت تجربة المدينة النَّمط التَّأصيليَ للظاهرة الإسلامية، ونقطة بدايتها، وارتكاز هُويّتها، حتّى أضحتْ نموذجاً للعمل التّاريخي، وقدوة تُحْتذى من لَدُنْ أجيال تلتْهَا. في الباب الثاني من الكتاب: «المسيحية والتّشريعات الإسلامية والدّور الحضاري»، يعرض المؤلّف التّجليات التّاريخية للمسيح وأمّه (سلام الله عليهما) في القرآن الكريم، مُستخلصاً عدداً من القيم في المنظور القرآني عن السيد المسيح والسيدة مريم، في مُقدّمها: علو قيمة مريم، واصطفاء الله لها على نساء العالَمين، والبِشَارة بالسيد المسيح... إلخ. ثم يتحدّث بعد ذلك عن الجدل والحوار بين الأديان في القرآن الكريم. فالإسلام دين الحوار منذ بزوغه، وهو الذي وفّر الأمن والسّلامة لمخالفيه في العقيدة والرّأي على حدّ سواء، ورفع شعار الحرية الدّينية، ودعا إلى نظام المشاركة مع وجود الاختلاف في العقيدة، ما دامت الحاكمية والمرجعية إلى الله عز وجل: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ». (الحج: 17) كما اتّسمت روح الشّريعة الإسلامية بإفساح أرحب مجال للأعمال البشرية، بما أنَّ «الإسلام هو دين الإنسان» وفق ما يؤكد إرنست رينان. ومن ثم، حدَّد الشَّرع الإسلامي الوضعَ القانونيَّ لأهل الكتاب حتّى قبل الفتح الذي ضمّ إلى دار الإسلام جماعات من أهل الكتاب ممن كانوا رعايا في الامبراطورية السّاسانية الفارسية، وهو وضع «المعاهدين» الذي سُمِحَ لهم بمقتضاه بالإقامة بدار المسلمين، والتمتّع بحماية/ذمَّة المسلمين. وقد كان من أثر ذلك كله سيادة حالة من التّعايش السِّلمي بين الجانبين مما انعكس إيجاباً على الأدوار الحضارية التي لعبها المسيحيون في الحضارة الإسلامية. فقد وضع القرآن لبنات العلاقة الإيجابية مع غير المسلمين، وخصَّ المسيحيين بالمودَّة والقربي، وزادت أقوالُ وممارسات الرّسول في نجران وغيرها من وشائج العلاقة مع المسيحيين، وكذلك مسالكُ الخلفاء الرّاشدين السّمحة، فقد رفع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الجزية عن قبيلة تغْلب العربية، وتفاعل الإمام علي (رضي الله عنه) مع المسيحيين في الكوفة، ورعى فقراءهم. وقد حفّزت هذه الممارسات ومثيلاتها النّسيج الاجتماعيّ الواحد، سُدًى ولُحْمَةً، على التآزر والتعاضد والتمازج في ظلّ الحضارة الواحدة والدّولة الواحدة المتَّشحة بالإسلام. وكان خالد بن يزيد الشَّخصية الأولى التي عملت بمشورة علماء السِّريان، فأقدم على الاشتغال بالكيمياء، والعناية بإخراج كتب القدماء فيها، كما عاصر الحقبة الأموية عددٌ كبير من العلماء ورجال الدّين النّصارى من نساطرة ويعَاقبَة، كانوا في نشاط دائم لنقل التُّراث اليوناني إلى لغتهم السّريانية، لا سيما في مجال الفلسفة والمنطق في مقدّمهم: ساويرس سنجت (ت48ه)، وحنّا نيشوع (ت82ه)، ويعقوب الرّهاوي (ت90ه)، ويوحنا الدّمشقي (ت126ه) الذي كان والده أحد موظّفي الدولة الأموية، وشغل يوحنا منصب كبير مستشاري هشام بن عبدالملك، ثم اعتزل واعتكف في دير القديس سابا. يتحصَّل مما سبق، أنَّ النَّسيج الاجتماعي تحفّز على التّفاعل، ومشاركة أعضائه في الاحتفالات والمناسبات الدِّينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية. وسبب ذلك التّحفيز يعود إلى منظومة الحقوق التي شملت غير المسلمين حيث تتجسّد فيها روح الانتماء والمواطنة، فلم يستشعروا حالةَ اغتراب مع السُّلطة والمجتمع، إذ لم تقم العلاقة على عقود الأمان والحماية فحسب، وإنما لم يحظر الإسلام أي عمل يدوي أو فكري على المسيحيين، ولم يكن العيش المشترك خالياً من أسس الاحتواء، أو الانضواء تحت ظلال دين الدّولة، إلا أنه خالٍ من القهر الدِّيني والإكراه، وهو ما عبّر عنه خريسو ستموس بالقول: «إنَّ الدّولة العربية كانت تحمل طابعاً إلهياً دينياً، وإنّ العرب بمقتضى كتابهم المقدّس، القرآن، حفظت حقوق أهل الذِّمَّة، أو أهل الكتاب، وبخاصَّة المسيحيين، وكان لهم أن يتمتّعوا بحقوق الحياة، وتُركتْ لهم حريتهم الدّينية، وحقوق إدارة جماعاتهم، مع السُّلطة الرُّوحية في الحاكم الخاصة، تحت ولاية رؤسائهم الرُّوحيين».