ما الذي يدعو الى الخوض في بنيان "فلسفة الكراهية"؟ استفحالها. وما القصد من تفكيك عناصر "عمارتها" المشيدة على تاريخ عصي؟ الطموح الى حاضر يفك عقدة استعصاء المستقبل. وما الهدف "النبيل" من تظهير صورة الكراهية المتآكلة؟ التأسيس لدعوة "محبة" تخاطب "الخير الأصلي والأصيل في الانسان". لقد فعلها الدكتور راشد المبارك. فتكتب بتؤدة، وتقدم بتأنٍ، وحلل باستبصار، وطرح على "استشكال"، واقترح مخالفاً الاستسهال، وخالف السائد وعاند المقيم ولم يثنه عن التعرض للموروث "طول الإلف" ولم يرهبه الداخل المتلقي، المنطوي على وهم "الغزو الثقافي" والقابض على "مأثرة نظرية المؤامرة"... لم يتراجع أمام كل ذلك. لاعتقاده ان من مهمة المثقف "مقاومة تأصيل الوهم وضلال الفهم". إعلان مبكر وموجز وسريع، بمثابة "اتهام وإدانة" لما يطفو على سطح الحياة اليومية العربية من ممارسات ثقافية، ومن ارتكاس او احتجاب او امتناع... مثقفين، عن التصدي لما تؤهلهم له معارفهم الواسعة. كتاب راشد المبارك "فلسفة الكراهية - دار صادر - بيروت 2001. إذا كانت الكراهية ظاهرة محسوسة لها "نباتها الحربي" ولها بذارها الظالم، ولها تجلياتها في مفاصل التاريخ البشري، بما يختزنه من أفعال ومن ردود عليها... إذا كان كل ذلك موجوداً، فما هي الأسس التي تستند اليها الكراهية؟ وعلى أي وجه، يمكن للمتضررين، وللفاهمين، مقاربة نشأتها واشتداد عودها، وانتشارها وترسخها، واتساع صفوف "مريديها"؟ الذين يديمون سقايتها، بالدماء والدموع، وبسيل من النظريات التي ترقى الى مستوى فلسفي، بل وتصدر عن فلاسفة لهم شأنهم في التاريخ الفكري العام. يطرح الدكتور عبدالله مبارك أسئلته حول "الكراهية" ويشير من خلال الأسئلة الى بعض دروب الاجوبة. يقول كاتبنا: "هل الكراهية موقف عقل؟ هل هي طبيعة في النفس؟ هل تجتمع مع الصواب وعدالة النظر؟ هل هي ميل واستعداد تغذيه قوى معينة في موقع قيادة؟ تحتمل الردود على المطروح، السلب والإيجاب، لكنها تأخذ بيد المجيب دوماً الى التحليل وإلى الاستخلاص أيضاً. يبادر "الدكتور" في هذا المجال، ليستخلص، منحازاً الى "دعوته الى المحبة"، والى العقل الكامن فيها، فيقرر: "أن الفكر او المعتقد مسؤول عن تكوين مشاعر الفرد... وان الأوامر ذات السطوة والنفوذ، كالعقائد تختطف الملكة العاقلة لدى الفرد"، إذا شئنا المساهمة مع "الكاتب" في هذا المجال، نرى من الواجب طرح السؤال حول مكونات "الفكر ذاته" و"المعتقد بعينه" الذي تتيح آليات اشتغاله، ونظام مصالحه، الوصول الى "منظومة" الأوامر، وجملة العقائد، التي تهدف الى سلب الأفراد "ملكاتهم العاقلة"... ذلك ان الفكر المنطلق من مصالح محددة ونحو غايات بعينها، لا يجد وسيلة أنجع، لتنفيذ مآربه، من "كتلة الجماهير التي تساق كالسائحة". ضمن منظومة "التضليل الإيديولوجي" كفعل، ومنظومة "الهيجان الجماهيري" كرد فعل، يصير التطابق سيد الموقف، على منبره يطلق "الزعيم" ما يود جمهوره سماعه منه، ومن ساحات "التلقي الجماهيرية" يعيد "الزعيم" صياغة المسلك الذي يريد دفع جمهوره اليه. التطابق، يصير الغاء للتمايز، أي توزيع نسخة "فهم" محددة على الآخرين، أو بلغة الكاتب: "إعارة" العقل الواحد المفرد، للكثرة الكاثرة لتفهم وفق أحكامه، وتفسر بمقتضى أدواته. بهذا المعنى لم يكن الزعيم الألماني هتلر غريباً على أفهام قومه عندما أبلغهم ان من "أشمل بركات الله كره الأعداء"، وقبله كان هيغل لساناً "جمعياً" على نحو ما عندما قرّر أن "الحرب تطهير للنفوس" ومثله "ايمانويل كانت الكاره لطول السلم في المجتمع لأن ذلك ينشر أخلاق السوق ويؤصل الجبن لدى الأفراد والمجتمعات...". الوجه الآخر "للوجه الفلسفي" هذا، موجود في علم المصالح، وكامن في دهاليز السياسة، التي اتقن "فلاسفة عصرهم" الوقوف ضمنها أو على أبوابها، أو على مسافة منها... لأسباب كانت الكراهية حصادها، ولم تكن "كطبع نفسي" في أساس نشوئها. على خلفية المصالح هذه، يتاح لنا مواكبة الكاتب في استقصائه للكراهية الكامنة لدى المسلم، في موضع علاقته مع الآخر غير المسلم، وبعلاقته أيضاً مع الآخر المسلم، مع ما رافق ذلك من عداء استحكم في كلا المطرحين وتحت عناوين مختلفة اتخذت النبذ والرفض والاقتتال والصراع دائماً، ولم يخفف من تشابه "الحروب" ضد "الآخَرَين" أنها تمت في مكان تحت راية "الجهاد" ضد الغريب عن القوم والدار، وحصلت في مكان آخر، تحت راية "صحة المذهب ووحدانية التفسير، واحتكار صفاء العقيدة...". دائماً كانت الدنيا هي الحاضرة في لبوس الدين، ولأن الأمر كذلك، نحي الدين "بغاياته ومحبته" واستشرت الدنيا بمآسيها وكراهيتها، إذ لن يحب المسلوب سالبه، ولن يستكين المغلوب لغالبه، ولن يغفر "القتيل" لقاتله... في ساعة "مصالح" وفي ديمومة جشع واستحواذ، دارت رحى حروب الأفكار المتصارعة، ومعارك الجيوش المتناحرة، وكان النصر في كل مرة حليفاً أوحد لكراهية المهزومين، وصانعاً دائماً لكراهية المنتصرين. رفض خضوع وتطلب إخضاع، هذه هي "الحياة الفعلية التي عرفها البشر" والتاريخ غير المتخيل، يقع ضمن هذين الحدين. في هذه المرآة، تصير قراءة الحروب الصليبية، والموقف من الصراع مع اسرائيل، ميسورة أكثر، وأكثر قابلية للفهم أيضاً. هاتان المسألتان يحددهما الدكتور مبارك، كينبوعين لعلاقة الشك وسوء الظن بالآخر، الذي هو الغرب في هذا المجال... لكنه لا يتوقف أمام أحكامهما "كماضٍ" لا ينبغي اسقاطه، أو نفيه، لكن من غير المجدي، بل من الخطأ الفادح إدامة الجمود حياله كواقعة سلفت، "فالموقف الحاضر لا يبنى على الذاكرة" وليس رشيداً استفتاء التاريخ للتعامل مع الآخر". في اسناد موقفه يذكر الكاتب ان الغرب تناحر مع نفسه أيضاً، فكانت له "حروبه الدينية وحروبه العالمية" لكنه استطاع تجاوز ذلك، وأحال الماضي الى "المتاحف" لمن يريد ان يتذكر، ليعتبر. النسيان في هذه الحال يعادل التجاهل، وهو مضر "بصحة الأمم" أيضاً. الأهم من عبرة المتاحف هذه، إبراز التجاوز الذي استطاعه الغرب وعجزنا عنه نحن. ففي حين تقدم الغرب بعلومه، وبإضافاته الى الحضارة الانسانية، اكتفينا نحن بالتوقف عند هجاء استعماره لنا. مرّة أخرى، لا يبرئ الدكتور مبارك الغرب من وطأة استعماره، ولا من موروثاته، لكنه يتجاوز بأسئلته فوراً الى الأهم من "ينبوع الاستعمار الكريه": لماذا نجح الغرب في استعمارنا؟ ولماذا كانت الوطأة ثقيلة الى هذا الحدّ؟ ولماذا استطاعت أمم تعرضت لما تعرضنا له، ان تجعل الماضي الاستعمار ماضياً، فيما نحن ما زلنا أسرى تلك الحقبة المظلمة؟... سؤال الداخل العربي والإسلامي، يصفع الجميع، وكذلك سؤال العجز الذي يرسف "الداخل" هذا في أغلاله. طبعاً سيجد العرب والمسلمون من يرد بأننا ما زلنا ضحايا "المؤامرة"، وان الغزو المادي الغربي، بواسطة الجيوش، أخلى مكانه "للغزو الثقافي" وللهيمنة الاعلامية... هكذا ردود تعيد طرح الموضوع من أساسه، وبمستوياته الصراعية كافة، سواء كان ذلك في مقارعة الثقافة الغربية السائدة، أو في مواجهة الاحتلال الصهيوني الجاثم على أرض فلسطين. المؤكد سلفاً، ان العجز هو السمة العامة. لذلك فنحن المسؤولون عن معالجة "انحسار الثقافة العربية عن شواطئ الآخر" وعن التصدي لمعضلة "احتلال فلسطين" الناجمة عن انهزامنا في الداخل وليس عن قوة اليهود ومدى نفوذهم، او عن جملة "الأعاجيب" التي ننسبها الى سطوة نفوذهم في محافل القرار الدولي. "لقد عجز العرب عن إرادة القوة فهزموا، والخطر عليهم من جهلهم لا من علم الآخرين" مقولة مفتاحية، يضمها الدكتور عبدالله مبارك الى مطالعته حول اسباب تقدم غيرنا وتخلفنا، فهو يرى ان "تقدم الثقافة الغربية الوافدة اتى من جهة ما تبدعه وليس تفوقها من جهة العرق او النسب... لقد كان ذلك ثمرة للتفوق العلمي الذي هو الأم الولود للقوة"... هذا في حين ان ثقافتنا لم تجد "ما تهديه للآخر او تبادله به". بل انها ظلت "وعظاً بلا برنامج عمل... ينتج عقماً فقط" ولم يقتصر الأمر على فقدان القدرة العلمية والتقدم في مجالاتها، بل إن "الأمة فقدت القدرة ولم تحاسب نفسها على فقدها" فكيف ينتظر "لثقافتها الظهور والانتشار؟" تساؤل مرير يضع الإصبع على الجرح، حتى لا يظل ردنا على العالم: الخروج منه بمحاربته او بالانعزال عنه. وإلى كل الذين يتسمرون امام الغزو الحضاري الاستعماري، يتوجه كاتبنا بسؤال: هل جاءت ثقافة الآخر على مدفع؟ هل حُمل الناس على تقبلها بالإكراه؟ هذا جانب، اما الجانب الآخر، فهو لماذا ذهب الاستعمار ولم تذهب تركته؟ هل الحدود جزء من مؤامرته علينا؟ إذاً لماذا لا ننهض لإزالة التجزئة بالوحدة؟ وهل ما يفسر جسارتنا حيال بعضنا عندما يتعلق الأمر "بمصلحة قطرية ضيقة" في مقابل تخاذلنا في كل ما من شأنه ان يهدد الأمة؟... وهو يهددها يومياً... كل الدروب التي يسلكها "المبارك" تقود الى الداخل، وكل المياه تعود الى بحره... وهو ما يفاقم مسؤولية الناظرين في "حال الأمة" المشغولين بقضايا استنهاضها ونهضتها. يكمل كاتبنا هذا الجانب العاجز عن الفعل، بتعرضه الى جانب آخر عاجز عن الفهم. فيساجل بعض قارئي النصوص على غير حقيقتها، ويتعجب لقراءة غامضة او خاطئة تنال من "النص الواضح". لا يجد الدكتور مبارك سبباً لذلك سوى "النقل غير الأمين... والقراءة وفق ما يؤيد المعتقد والأهواء... لأن المواقف مقررة بإملاء المعتقد السائد وبإغواء النظام المسيطر، الذي يحدد للمجتمع كيف يفكر وكيف يفسر وكيف يعبّر ايضاً...". * كاتب لبناني.