لدى قراءتي عنوان رد الاستاذ منير شفيق "الحياة" 28/1/1998 على مقالتي "المواجهة الثقافية مع الغرب" "أفكار - الحياة" 5/1/1998، لم أتردد بالترحيب انطلاقاً من إيمان راسخ بأهمية الحوار بين المثقفين العرب وانعكاسه على تقدم الامة العربية وخلاصها من مأزقها التاريخي، وظناً ان هذا الرد سيكون مناسبة لتبادل الآراء تبادلاً مثمراً يضيء أمامي زوايا معتمة ومجهولة لا تزال خافية عليّ. الا ان قراءة الردّ جاءت مخيبة لكل توقعاتي، وليس ذلك لان الاستاذ منير خالفني الرأي، فهذا حق له لا أجادله فيه ولا اعترض عليه، بل لغياب الموضوعية في تفسيره لما ورد في مقالتي ثم بناء تصورات واستنتاجات لا تتفق مع روحه ومضمونه، بشكل استطيع معه الاعتقاد انه قرأ قراءة متسرعة ومتوترة مدفوعاً باحكام مسبقة فوتت عليه التعامل معه تعاملاً نقدياً سليماً واستيعاب اهدافه الحقيقية كما جعلته لا يرى في النص الا ما أسقطه فيه من الهواجس والتصورات ورد الفعل. أعذر الاستاذ منير فقد تكون دعوتي للانفتاح على الحضارة الغربية وقيمها ومبادئها ومسلماتها قد أثارت انفعالاً فورياً، وربما كان ورود كلمة "أصولية" في مقالي قد أيقظ في نفسه مشاعر عدائية لا أريدها وليست هي ما أتطلع اليه. ولكن ليس مسموحاً للاستاذ منير ولا لغيره ان يقلب الحقائق لكي يسهل عليه اتهام من يخالفه وابتزازه. فأنا لا أدري الى الآن ولا اعرف كيف استطاع الاستاذ الكريم وهو مثقف وكاتب، ان يفهم من مقالي وضع الدكتورين نبيل دجاني ومحمد عابد الجابري مع الاصوليين في سلة واحدة، من دون ان يتنبه الى ان الاستشهاد بهما جاء في سياق التدليل على أهمية مقولة الغزو الثقافي في الوقت الراهن نظراً للمكانة البارزة التي بتبوأها كل منهما في الثقافة العربية، الا ان ذلك لا يفهم منه اننا نضع رأيهما في سلة الاصوليين واننا نعتبر تعاملهما ومقولة الغزو الثقافي ضمن المنهج نفسه الذي تعامل من خلاله الاصوليون مع العلمانية والديموقراطية وحقوق الانسان. وفي العودة الى حرفية النص حسم للمسألة، قلت في مقالي: "يستأثر الغزو الثقافي الغربي بحيّز واسع من اهتمامات المثقفين العرب". وفي هذا الاطار التعددي، اي في اطار اهتمام المثقفين العرب، على اختلافهم وتنوعهم، بالغزو الثقافي الغربي، جاء استشهادي بالدكتورين نبيل دجاني ومحمد عابد الجابري ثم بالاصوليين. ولو كنت أقصد وضع الجميع في سلة واحدة، هي سلة الاصوليين لكنت اكتفيت بالاستشهاد بهؤلاء موفراً على نفسي عناء الاستشهاد بغيرهم. ولكنني آثرت ان أقدم استشهادات متعددة ومن اكثر من مصدر تدليلاً على شمول مقولة الغزو الثقافي اكثر من قطاع من قطاعات الثقافة العربية. وليس خافياً علي ان لا المفكرين المذكورين ولا الاصوليين انفسهم ينتمون الى موقف واحد، كما لا يمكن بأي حال استخلاص هذه النتيجة من مقالي. ولكن الاستاذ منير تحت وطأة إنفعاله وتصوراته المسبقة أصر على تحميله مضامين هي في الواقع غريبة عنه، لكي يتسنى له اتهامي بمحاولة ارهاب دجاني والجابري ومن بعدهما ارهاب الاصوليين باعتبار "تعاملهم والاشياء شتيمة ثقافية وفكرية مسَلماً بها". ولا يقف عند هذا الحد بل يقفز الى اتهامي بالابتعاد عن "الفكر العلمي والعقلانية" وبپ"التسلط الايديولوجي والثقافي" و"تحقير الاصوليين". يقول: "ثم هل يعتبر التعامل والاصوليين بهذا المستوى من التحقير تسلطاً إيديولوجياً وثقافياً أم لا؟ وهؤلاء يقيناً ليسوا هامشاً أو قلة في الأمة". وحقي ان اسأل بدوري: لماذا لم يذكر ولو شتيمة واحدة موجهة الى الاصوليين او عبارة تنم عن تحقير او تسلط ايديولوجي وثقافي قبل ان يلقي عليّ درساً في "العقلانية والفكر العلمي"؟ اما اذا كان يعتبر ما أشرت اليه بالنسبة لموقف الاصوليين من الديموقراطية والعلمانية وحقوق الانسان "شتيمة"، فذلك لا ينكرونه، بل ان اكثرهم إن لم نقل جميعهم لا يقبلون ديموقراطية الغرب وعلمانيته ومفهومه لحقوق الانسان، ولا يترددون في الجهر برفضهم لكل هذه المقولات. اما ان الاصوليين ليسوا "هامشاً أو قلة في الأمة". فهذا ما لا ينكره احد، وإلا لما أخذت موقفهم من الغزو الثقافي في الاعتبار. ولا يكتفي الاستاذ منير بذلك القدر من التعسف واللاموضوعية فيصل الى حد اتهامي بدمج موقف الدجاني والجابري بموقف "غلاة الاصوليين" متقدماً خطوة جديدة في محاولة ابتزازي وارهابي، اذ انني لم أخلط لا من قريب ولا من بعيد بين هؤلاء ولم أساو بين مواقفهم من الغرب والحضارة الغربية. ثم بعد كل هذه الاتهامات التعسفية ينتهي هذه المرة الى ان "الامة هي المستهدفة وان ما نبهت اليه من عدوانية الغرب ونهبه واستعماره ما هو الا تغطية وتمويه لتسويغ جرائمه وتسهيل غزوه، تمهيداً "لفتح أوطاننا واسواقنا ومجتمعاتنا وعقولنا وبيوتنا لرياح الغرب بكل ما تحمله بلا استثناء، من كل الجهات، من دون سؤال إن كانت بعض تلك الرياح صهيونية وبعضها متصهينة". هكذا تكتمل الصورة ونصل الى النتيجة التي دار حولها الاستاذ منير منذ البداية متوسلاً التفسيرات المتعسفة وخلط الاوراق من دون سند موضوعي، الا وهي إرهابي بوضعي وجهاً لوجه ازاء الجميع وتورطي في فتح الابواب امام الصهاينة او المتصهينين. ويؤسفني الاستنتاج ان هذا "الوعي المؤامراتي" كان هو الدافع الاساسي لرد الاستاذ منير شأنه في ذلك، شأن كل الذين ما برحوا يتصورون، من دون ان يتعلموا من كل هزائمنا ونكساتنا، ان ثمة من تآمر دائماً على تاريخنا ونهضتنا ووحدتنا وتحريرنا وثقافتنا وقيمنا، متجاهلين مبدأ الصراع في الكون ودور الشعوب والحضارات في الدفاع عن نفسها. فكل من يضع يده على الجرح متآمر، وكل من يرفض التخلف متآمر، وكل من يدعو الى الخروج من المحنة بامتلاك وسائط التقدم والتطور والبناء لا شك "صهيوني" أو "متصهين". ولندع هذا جانباً، ما يهمني في هذا الرد او أوضح للاستاذ منير: أ - انني أرفض اي تسلّط عقائدي او ايديولوجي او ثقافي واعترف للآخر بحرية الرأي والتعبير طالما لم يسعَ الى فرض هذا الرأي بالقوة والعنف. ولكن من حقي ايضاً ان أناقشه وان أبدي رأياً مخالفاً لرأيه من دون ان أتعرض لاي نوع من انواع العسف والارهاب. وانطلاقاً من هذا الموقف دعوت اكثر من مرة على صفحات "الحياة" وغيرها الى البحث في اسباب العنف الاصولي واعادة الروح الى المشروع القومي المنكفىء تجنباً للصراع والحرب الاهلية. كما دعوت الى حوار عقلاني مع الاصوليين يضع حداً لحوار السكاكين والمشانق بينهم وبين السلطة. الا ان هذا لا يجعلني أقبل النهج الانغلاقي التعصبي الذي ينهجه هؤلاء، فمقاومة الغرب والاستعلاء الغربي ليست ممكنة في نظري، الا بالانفتاح على الحضارة الغربية واستلهام ليبراليتها وعقلانيتها. وهذا ما تنبه اليه روادنا المنورون العظام كالطهطاوي وعبده والافغاني والشدياق والمراش والريحاني وغيرهم الذين تعاملوا نقدياً مع الحضارة الغربية من داخلها ومن لندن وباريس ونيويورك. ب - يقول الاستاذ شفيق: "تصنيف الاصوليين كما درج البعض على استخدامه يشمل كل علماء المسلمين وكل الدعاة وكل الباحثين والمفكرين يعتمدون الاسلام مرجعية لهم فضلاً عن مختلف الحركات الاسلامية والجماعات الاسلامية". ينطوي هذا التصنيف على محاولة اخرى لخلط الامور والمواقف. فالمقصود بپ"الاصولية" في مقالي ليس أولئك الذين يعتمدون الاسلام مرجعية، اذ إن هؤلاء موضع احترامي وتقديري. ولا اعتقد انه بين مرجعياتنا الثقافية او الدينية او السياسية العربية من يقصد هؤلاء حين ينتقد الاصوليين. إنما المقصود هو "الأصولية السائدة" بوصفها حركة سياسية. وقد أشار الى ذلك المفكر الاسلامي محمد أركون فرأى ان الاصولية السائدة يُراد من ورائها "التوصل الى اغراض دنيوية سياسية". ومن الزاوية نفسها اعتبر محمد جمال باروت الاصولية "نتاجاً معقداً لاخفاقات الشعبوية وتناقضاتها الحادة". ج - لا لزوم للتأكيد على ان قيمنا التراثية، الانسانية والاخلاقية التي ذكرها الاستاذ منير هي جوانب مضيئة ومشرقة في تاريخنا، ويجب ان تكون حافزاً كبيراً لنا لرفض الظلم والتسلط والاستبداد وعدم القبول بواقع التخلف. الا ان ملامح الصورة الراهنة تكاد تطبق علينا جميعاً وهي "راعبة" حقاً، مهما حاولنا تجميلها وتسويفها. أليس مخيفاً ان يكون نصف العرب أميين، وان يعيش اكثر من 73 مليون عربي تحت خط الفقر، وان يكون الشعب العربي بحاجة الى استيراد اكثر من نصف غذائه بالرغم من جغرافيته الشاسعة وخيراتها الوفيرة، وان يعيش عشرات ملايين العرب في بيوت الاكواخ والصفيح، وان يعجز اكثر من 210 ملايين عربي عن مواجهة اسرائيل مع انهم أنفقوا على التسلح والسلام آلاف البلايين من الدولارات منذ نكبة فلسطين الى اليوم؟! أليس مخيفاً ان تترعرع في عالمنا العربي أعرق الديكتاتوريات الاستبدادية وان تنتهك حقوق الانسان انتهاكاً صارخاً في اكثر اقطارنا؟! أليس محزناً ان نهضتنا العربية بدأت قبل نهضة اميركا واليابان والصين باكثر من نصف قرن ومع هذا لم نفلح في انتاج العلوم والتكنولوجيا، ولا نزال مرتهنين الى الغرب في أبسط حاجاتنا، فيما يهاجر علماؤنا ومبدعونا بمئات الآلاف لما يواجههم من التسلط وانسداد الآفاق؟!. اجل لقد اتجهت جحافل النخب العربية الى الغرب وتعلمت فيه ومنه وحاولت ان تنقل النموذج الغربي وان تبدع، ولكنها بقيت نخباً مرفوضة ووجهت دائماً بالشكوك او بالتكفير والابعاد. صحيح اننا استوردنا جامعات الغرب وتكنولوجيته وحاولت انظمتنا الاقتداء به، ولكن ذلك كله بقي دملاً غريباً ودخيلاً علينا، فلم نتفاعل معه تفاعلاً إبداعياً يعفينا من الاتكال الدائم عليه. ولم نتعلم من الغرب بعد لا تداول السلطة ولا احترام حقوق الانسان ولا الاعتراف بالمجتمع المدني ولا حتى "التعامل مع انفسنا كبشر يستحقون ان يعاملوا كمواطنين حياتهم مهمة وثمينة بشكل حقيقي" على حد تعبير ادوارد سعيد. د - لم أدع في مقالي الى تقبل الثقافة الغربية بالكامل كما فهم ذلك منه الاستاذ منير. فهذه الثقافة ليست فردوساً ارضياً وهي تنطوي على الكثير من المساوىء والنقائص والآفاق. وإنما اردت ان يكون انفتاحنا على الغرب "صدمة كهربائية" توقظنا من سباتنا وتخلفنا، لا لكي نتبعه بصورة عمياء، فننتقل بذلك من إتباع الى إتباع، بل لكي نتحول الى البناء والابداع والمشاركة بفعالية في الحضارة الانسانية. ولو تمعن الاستاذ منير قليلاً لرأى في مقالي دعوة صادقة للنهوض بالامة وتحريضها على مجاوزة واقعها. ه - هناك فرق كبير في العودة الى التاريخ والتراث بين الغرب والاصوليين. فالغرب عاد الى الماضي ليؤسس عليه نهضته الجديدة ثم تجاوزه باعتباره تجربة تاريخية وليس نموذجاً ابدياً فوق التجربة وفوق التاريخ يجب احياؤه وتكراره. و - يبدي الاستاذ منير قلقه من حضارة الغرب: "تهديم العائلة، الترويج للعنف والجريمة، تسفيه قيم الصدق والعمل الجاد، الحصول على اللذة فوق كل اعتبار. ونسأله بدورنا: هل هذه القيم بعيدة عن مجتمعاتنا؟ وهل ما يُمارس من تهميش واضطهاد للمرأة ومن عنف سياسي وبوليسي وحشي على يد أنظمتنا واحزابنا وجماعاتنا هو من صنع الغرب؟ واذا كان تسفيه قيم الصدق والاستقامة والعمل الجاد من شيم الغرب، فكيف اذن توصل الى بناء الوفرة الاقتصادية والعلمية والثقافية ومجتمع الرفاهية والانتاج والكفاية؟ لقد كتب قاسم امين مطلع هذا القرن، إن الغرب ليس أفضل منا مادياً وحسب بل هو أفضل منا روحياً كذلك. فهل تغيرت الحال في أواخر هذا القرن؟ لو راجعنا تقارير المنظمات الدولية لرأينا ان المرأة في الغرب تكاد تساوي الرجل في الحقوق، وان ثمة منظمات للدفاع عن حقوق الانسان وجمعيات لحماية الطفولة والشيخوخة والبيئة والرفق بالحيوان، وان الامية شبه معدومة، وان هناك فصلاً بين السلطات، وتداولاً حقيقياً للسلطة، واحتراماً لكرامة الانسان، ولا يلاحق انسان بسبب عقيدته ورأيه. بينما لا تزال هذه الامور غائبة أو شبه غائبة عن مجتمعاتنا. هل هي مسؤولية الغرب وحده؟ لا بالتأكيد. وما قاله ادوارد سعيد في "الحياة" 29/1/1998 يشكل دعوة نموذجية الى التفكير بشجاعة في مسؤولية العرب الذاتية عما آلت اليه أوضاعهم بدل إلقائها على الغرب، بالرغم من كل جرائمه وخطاياه بحق العرب وشعوب العالم الثالث. يقول سعيد: "الذين كافحوا مناّ على امتداد سنين من اجل حق تقرير المصير للفلسطينيين أصيبوا بخيبة أمل مريرة بسبب سلوك السلطة الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات تجاه مواطنيها بالذات. وتحدثت كل المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان عن غياب القانون وعن الفساد والوحشية السافرة لرجال الأمن التابعين للسلطة الفلسطينية الذين كان كثيرون منهم ضحايا لسلطات الاحتلال". ويضيف سعيد "هناك في حياتنا العامة وحشية فظة تثير اشمئزازاً عميقاً ... ويجري تكرار وحشية الاستعمار، بل إعادة انتاجها في مجتمعاتنا بعد انقضاء جيلين على انتهاء الاستعمار". ان طرح الامور دائماً وكأن الغرب هو مصدر عللنا وبلايانا، وان حضارته مليئة بالشرور والمفاسد التي يجب ان نتجنبها، ضيَّع علينا فرصاً كبيرة للاستفادة من ثورة الغرب العقلانية والعلمية والابداعية، وينبغي ان نفتش في داخلنا عن اسباب تخلفنا وتعثر نهضتنا بعد مئتي سنة على انطلاقها. فلماذا فشلت حركاتنا التحديثية ولماذا يُضطهد مبدعونا وتهاجر كفاءاتنا ويشرّد احرارنا ولماذا لم تستطع "جحافل النخب التي ما فتئت منذ مئتي عام تتعلم في الغرب ومن الغرب" ان تحدث تغييراً ذا أهمية في المجتمع العربي؟ هل هو الغرب ايضاً؟! ثمة خلل كبير في بنيتنا الحضارية وقف دائماً دون تحقق مشروع نهضتنا يجب ان نمتلك شجاعة البحث عنه وإن كانت تلك مهمة شاقة دونها مخاطر وتحديات. ولكن لا بد من المغامرة ومن وضع اليد على الجرح.