تفقدت "الحياة" مخيمات اللاجئين في مناطق الحدود التشادية المتاخمة الاقليم دارفور السوداني، واستمعت الى شهادات عن الوضع المأساوي الذي وصفه الامين العام للأمم المتحدة بأنه "أسوأ كارثة انسانية في العالم اليوم". وتحدثت "الحياة" الى مسؤولي منظمات اغاثة والى عدد من النازحين الذين تقول الاممالمتحدة ان عددهم يتجاوز مليوناً ومئة الف شخص حول المدن الكبيرة، فيما فر اكثر من مئة وخمسين الفاً الى تشاد حيث تجمعوا في 17 مخيماً، يبلغ عدد اللاجئين في واحد منها حوالي 15 ألف شخص. يبعد مخيم دبوبا للاجئين مسافة 75 كيلومتراً من الحدود التشادية - السودانية، واستغرقت الرحلة إليه اكثر من ساعتين بسبب الكثبان الرملية التي كانت تعطل السيارة من الاندفاع. وخلال الرحلة ضل سائق السيارة التي تقلني الطريق، فطلب مرافقي محمد عبدالكريم من السائق التوجه صوب عدد من الحمير المتعبة رأيناها من بعيد. وقال "نحن قرب مخيم للاجئين... فالحمير هي التي اقلت الناس الفارين الى هنا". وبالفعل بعد دقائق دخلنا إلى المخيم حيث افترش أكثر من أربعة آلاف لاجئ الارض، وتغطيهم اشجار الكتر واللعوت. علمت ان المخيم حديث ولم يتلق اللاجئون فيه اي معونات بعد من المنظمات الانسانية. كانت خديجة محمد التي فرت من غرب كبكابية 14 عاماً على مدخل المخيم تحمل اناء صغيراً يحوي كمية من الدقيق. أخبرتني والحزن باد في عينيها ان ما تحمله دقيق اقترضته من احد المعارف لأن عائلتها المؤلفة من خمسة افراد ليس لديها ما يسد الرمق في ذلك اليوم. وروت خديجة انها سارت مع عائلاتها 27 يوماً قبل ان تصل الى المخيم. واضافت :"قصفت المقاتلات الحكومية بلدتنا، لكن قبل ان يفر غالبية السكان، شنت مليشيات الجنجاويد غارة على المدنيين وهم في حال من الخوف والرعب. كان افراد الميليشيات يمتطون الخيول ويرتدون ملابس الجيش الحكومي. قتلوا العشرات ونهبوا كل شيء. كنا من بين عدد قليل نجا من الغارة... وسرنا في اتجاه الحدود حتى وصلنا الى هذا المخيم قبل ايام منهكين من العطش والجوع وتعب المسير". فاطنة داوود حماد امرأة طاعنة في السن من قبيلة التامة، قالت :"أتيت من بلدة سليبي قرب مدينة الطينة على ظهر حمار عندما هاجم العرب البلدة واضرموا النار في البيوت قبل تسعة شهور. لا اعرف أي شيء عن مصير بناتي الثلاث". وسألتني فاطنة مساعدتها بأن احضر لها ملابس :"لا أملك سوى هذه الخرقة التي ارتديها منذ تسعة شهور". وفي مخيم كلنغو على بعد 175 كيلومتراً من الحدود ينتشر 15 الف لاجئ تحت اشعة الشمس الحارقة. ولا يمكن للناظر ان يرى اي نهاية للخيم التي يقطنها الاطفال وكبار السن والنساء فقط. وأكد مسؤول من منظمة "اطباء بلا حدود" الفرنسية التي تشرف على جزء من المخيم، ان عدد الوفيات يراوح بين ثمانية وتسعة افراد يومياً في المعسكر وترتفع هذه النسبة بين الاطفال. بسبب أمراض سوء التغذية والحصبة والاسهال. عبدالله بخيت 40 عاماً من قرية ارقو قرب مدينة كرنوي، روى ما شاهده عندما قصفت طائرات "انتونوف" ومقاتلات "ميغ" قريتة ارقو، وقال :"سقطت 12 قذيفة وسط القرية وعلى أطرافها، ثم زحفت ميليشيات الجنجاويد على منازل القرية ونهبت مواشي سكانها، وكان اطلاق الرصاص عشوائياً... قتل عدد كبير من الناس. اثنان من اصدقائي قتلا في الهجوم، واثنان اختفيا هما محمد عبدالرحمن عرجة ويونس عبدالله حسب الله لحظة الهجوم ولم يظهرا بعد ذلك". وقال بخيت عن الاحوال المعيشية في المخيم :"توزع الاممالمتحدة شهرياً خمسين كيلوغراماً من الدقيق لكل اربعة افراد، وعلى الجميع تقنين هذه الكمية... البعض يقايض الدقيق بالويكة البامية الناشفة. والبعض يصنع عصيدة ليأكلها بالماء فقط". وروت سعدية ابراهيم 27 عاماً من قرية صبرنا قرب كبكابية، ان الجنجاويد قتلوا زوجها الطاهر عريفة وحرقوا اثنين من القرية هما فاطمة احمد وسليمان ابراهيم أمام الناس. واضافت: "جلدوني بالسياط فيما اقتادوا عشر فتيات لا نعرف مصيرهن أو الى اين أخذوهن" عبد الكريم ابراهيم نور من صبرنا ايضاً، قال: "في 27 تموز يوليو 2003 ذهبت في الصباح لشرب الشاي مع والدي، وبعد ساعة سمعت اصوات المدفعية والطائرات فخرجت من منزل والدي لكن الجنجاويد الذين هاجموا القرية ضربوني حتى غبت عن الوعي، وعندما صحوت من الغيبوبة وجدت كل المنازل محروقة وعدد من الجثث على الارض... تسللت الى احد الأودية وسرت هائماً في الصحراء... ولا اعرف ماذا حلّ بزوجتي وطفليّ الاثنين الذين كانوا في القرية ساعة الهجوم". اسماعيل احمد قرضية من كرنوي شهد مجزرة قرب بلدته، وقال: "رأيت مئة شخص، أعرفهم جميعاً، يعدمون رمياً بالرصاص بعدما اتهمتهم ميليشيات الجنجاويد بدعم المتمردين. وعلمت ان الجنجاويد اغتصبوا عشر فتيات من ابو قمرة جلهن اقل من خمسة عشر عاماً". وأنا أهمّ بمغادرة المخيم استوقفني احدهم ليروي لي قصته قائلاً: "اسمي علي شريف حامد من منطقة امبرو ومتزوج من منطقة غارسيلا قرب جبل مرة في جنوب دارفور حيث اقتلعت قوات الحكومة اشجار المانجو والجوافة، واعتدت على ابناء قبائل الفور والزغاوة والمساليت والداجو والفلاتة والبرتي". ولما أنهى قصته فضلت الانسحاب بسرعة من المخيم حيث جاء لاجئ كان يعتقد بأنني طبيب فعرض عليّ طفله وآخر جاء بوالده الشيخ ليشكو آلامه وعدم وجود دواء، فيما اعتقد آخرون بأنني من موظفي الاغاثة فتحدثوا عن قلة الغذاء". على مسافة كيلومتر من مدينة الطينة السودانية الخالية تماماً من السكان، حيث لا وجود إلا للجيش السوداني والجنجاويد، التقيت مسؤول العمل الانساني في "حركة تحرير السودان" بحر ابراهيم عربي الذي قال: "ان الاوضاع الانسانية تنذر بكارثة كبيرة. إذ يوجد حوالي مليون ونصف مليون نزحوا داخلياً، واكثر من مئة وخمسين الف شخص يتوزعون في مخيمات اللاجئين داخل تشاد حيث ترتفع معدلات الوفيات، خصوصاً وسط الاطفال والمسنين اما بسبب مخلفات آثار القنابل التي تسقطها الطائرات على القرى ومصادر مياه الشرب والاسواق والمراعي، أو بسبب سوء التغذية والاحوال المعيشية المتردية والحال النفسية السيئة التي خلقت الذعر والرعب في نفوس الكثيرين. هذا الرعب ادى الى نزوح المدنيين الى الوديان وسفوح الجبال هرباً من القصف الجوي وغارات الجنجاويد. وللأسف لم تتمكن المنظمات الانسانية من الدخول الى مناطق المتضررين بسبب انفلات الامن". وأكد مسؤول في اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مخيم للاجئين في تشاد تدفق اعداد اللاجئين يومياً الى تشاد، وقال: "هذا ربما يعني استمرار القتال"، فيما اكد الناطق باسم الاممالمتحدة فريد ايكهارد ان الشهر الماضي شهد نزوح مئة الف مدني من مناطقهم وحمل الحكومة السودانية مسؤولية غياب الامن والفشل في حماية المدنيين. مؤكداً استمرار القصف الجوي وغارات الجنجاويد على المدنيين. وتؤكد مصادر الاممالمتحدة تعرض مناطق ديسة ومثبت وامارايا شمالي مدينة كتم ودور لقصف الانتنوف فيما يتصاعد القتال في جنوب دارفور. "فرسان العرب" حصلت "الحياة" من مصادر أمنية تشادية على وثائق هي عبارة عن اشارات وأوامر من قيادة الامن والجيش السوداني بين مناطق كلبس والطينة والجنينة في الفترة من تموز يوليو الى آب اغسطس 2003. و تتحدث هذه الوثائق عن ميليشيات الجنجاويد وتطلق عليهم اسم "فرسان العرب" بقيادة المقدم شكرت الله والرائد المعز والملازم المصري، وتوضح التنسيق بين الميليشيات وضباط في الامن والجيش السوداني. واوردت احدى الاشارات وصول قوة من 300 مقاتل من "فرسان العرب" الى منطقة كلبس غرب الجنينة في تموز يوليو 2003 بقيادة شكرت الله لقطع طريق الامداد على المتمردين ونهب وحرق القرى التي يدعم سكانها حركتي التمرد من الزغاوة والفور والمساليت، فيما تحدد اشارة اخرى وصول ضابطين احدهما برتبة رائد والثاني برتبة ملازم الى الطينة لصرف استحقاقات "فرسان العرب" وهي مبلغ مليون جنيه للفارس الراكب على الجواد، ونصف مليون للراجل مع صرف قطع سلاح وترك الغنائم للفرسان. من هم "متمردو دارفور"؟ دفع استمرار أعمال العنف في دارافور قبائلها نحو السعي الى حماية ابنائها من خطر الجنجاويد، فعمدت الى فتح معسكرات للتدريب. وفي هذه الأجواء نشأت حركتا التمرد الرئيسيتان "حركة تحرير السودان" و"حركة العدل والمساواة". وتستند قاعدة "حركة تحرير السودان" الى قبائل الزغاوة والفور والمساليت قبل ان تنضم اليها اخيراً بعض الجماعات من قبائل الرزيقات العربية فى جنوب دارفور بقيادة احمد جبريل كبر. ويتزعم "الحركة" الامين العام مني آركو مناوي ويرأسها المحامى عبد الواحد محمد نور. وتتميز قياداتها وعناصرها بصغر السن وتراوح بين العشرينات الى الثلاثينات. انطلق نشاط "الحركة" في العام 2000 ثم نفذت عمليات عسكرية صغيرة في العام 2001 لتنتقل الى عمليات اكبر في العام 2003. لكن الميلاد الحقيقى ل"لحركة" كان مطلع العام 2003 حين استولى المتمردون على محافظة قولو في جبل مرة ليعلنوا وجودهم السياسي والعسكري. ويذكر "مانفيستو تأسيس حركة تحرير السودان" ان "الحركة" تأسست لإزالة التهميش الذي يعانيه سكان دارفور ووقف المظالم وارساء التحول الديموقراطي في السودان الموحد. واشار الى حملات التطهير العرقي في دارفور. العلاقة مع الترابي وفي الوقت ذاته تقريباً، انطلقت "حركة العدل والمساواة" التي يرأسها الدكتور خليل ابراهيم، وهو طبيب من قبيلة الزغاوة، وكان يعمل وزيراً للتعليم في ولاية شمال دارفور حتى استقالته في العام 1999. ويأخذ كثيرون على خليل علاقته بالحكومة وصلته بحزب "المؤتمر الشعبي" بزعامة الزعيم الاسلامي الدكتور حسن الترابي. واذا كان البعض يتهم ابراهيم بوجود علاقة بينه وبين الترابي، فان الحكومة تتهم حركة مناوي ونور بالارتباط ب"الحركة الشعبية" بزعامة الدكتور جون قرنق. ويذكر ابراهيم ان حركته انطلقت منذ العام 1993، لكن اعلانها تم في العام 2003. وهي حركة تميزت بقوة الاعلام رغم ان القوة العسكرية ترجح فيها كفة الحركة الاخرى. ويرى المتمردون ان الحركتين امتداد لثورات دارفورية سابقة بدأت فى الخمسينات ب"اللهيب الاحمر" ثم "جبهة نهضة دارفور" فى العام 1964 التي أسسها احمد ابراهيم دريج الذي أسس لاحقاً "التحالف الفيديرالي الديموقراطي" السوداني مع الدكتور شريف حرير في العام 1994 لينخرط هذا الفصيل ضمن فصائل "التجمع الوطني الديموقراطي" في شرق البلاد. واعلن حرير دمج قواته مع "حركة تحرير السودان".