حفلت وسائل الاعلام العربية بتقويمات كثيرة للانتفاضة الفلسطينية اتسم أكثرها بالتعظيم من شأنها، واعتبارها تمهد لمرحلة جديدة تستعاد فيها رموز الصراع العربي - الاسرائيلي وأشكاله التقليدية. وبعضهم راهن على تأثيراتها في إحداث تغييرات جذرية في الساحة العربية. وعلى رغم انه من السابق لأوانه اجراء تقويم شامل لتأثيرات الانتفاضة كما لانجازاتها، إلا أنه ينبغي مناقشة التقويمات السائدة، والعمل على إشاعة مناخ من التعامل بموضوعية وجدية ومسؤولية مع الانتفاضة، ومع التضحيات التي يبذلها الشعب الفلسطيني، ببطولة وبسالة نادرتين في مواجهة الجبروت العسكري الاسرائيلي. وما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذه الانتفاضة لم تأت من فراغ. فهي امتداد لصراع الشعب الفلسطيني المديد والمرير مع المشروع الصهيوني ودولته اسرائيل، ومن أجل تأكيد حضوره والدفاع عن حقوقه واستعادة أراضيه. وبهذا المعنى فإن انتفاضة الأقصى هي امتداد للانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في العام 1987، واستطاعت وضع الشعب الفلسطيني على خارطة المعادلات السياسية الدولية، وعلى الخارطة السياسية للمنطقة، والخبرات المكتسبة والاطار السياسي. وهذه الانتفاضة، كما الانتفاضة السابقة، رسمت بخارطتها البشرية والجغرافية وبوسائلها، خريطتها السياسية التي تتحدد بشعاري الحرية والاستقلال الناجزين. ومعنى ذلك أنه، مع الأخذ بالاعتبار تداعيات هذه الانتفاضة، وحتى امتدادها للتجمعات الفلسطينية في الأراضي المغتصبة في العام 1948، ينبغي عدم المبالغة بهذه التأثيرات أو تحميلها أكثر مما تحتمل، لأن الأمر قد يقود الى نتائج معكوسة وخطيرة ان على الانتفاضة أو على الفلسطينيين في مناطق 1948، في ظل موازين القوى الراهنة. فانتفاضة الأقصى لم تفتح معركة تحرير فلسطين، لأن فتح هذا الباب يحتاج الى معطيات عربية مؤاتية، والى ظروف دولية مناسبة. فضلاً عن أن معنى التحرير بات يكتسب دلالات مختلفة بالنسبة لجميع الأطراف، بحكم الوقائع والمتغيرات، وإن كان جوهر العملية هو تقويض معنى السياسات الصهيونية العنصرية والعدوانية في المنطقة. أما بالنسبة لتأثيرات الانتفاضة على الشارع العربي، فقد ظهر، في كثير من الأحيان وكأنه استحضار للخطاب العاطفي الذي ساد الساحة العربية في أواخر الستينات والسبعينات. وكان من أبرز مظاهره تقديس العمل الفدائي، واعتباره المخلص من الأوضاع العربية السائدة. ومن المعروف أن كلا الأمرين قادا الى نتائج خطيرة وخاطئة، إذ جرى اختزال الصراع مع اسرائىل بالعمل الفدائي، أو بالكفاح المسلح، في حين أن الوسائل الأخرى غيبت، ما جعل الصراع مع اسرائيل مقتصراً على فئات محدودة تمارس هذا العمل. أما التعويل على العمل الفلسطيني لتغيير الأوضاع العربية، فقد أدى الى نتائج سلبية. وهو محاولة للتعويض عن قصور النخب العربية التي ما زالت عاجزة عن تحريك الشارع العربي وتنظيمه وادارة نضالاته. ولا بد من القول هنا أنه على رغم التأثيرات المهمة للانتفاضة التي أعادت الموضوع الفلسطيني الى أحضان الجماهير العربية، وأهميتها كفعل تثقيفي للأجيال الجديدة، إلا أن الاحتضان هذا لم يصل الى بعده المطلوب، إذا تجاوزنا حال التعاطف والشعارات والأبعاد غير المباشرة. ومثلما ان القمة العربية كانت دون مستوى تضحيات الانتفاضة بمعنى ما، فإن حركة الشارع العربي لم تكن أفضل حالاً. فخرجت الجماهير الى الشوارع بالألوف وبعشرات ومئات الألوف، ولكن هذه الألوف خرجت فرادى وعادت الى بيتها فرادى، ولم تنتج هذه الحركة حالاً منظمة وممأسسة ومستدامة لدعم الانتفاضة، أو لتدعيم أشكال مقاومة اسرائيل. والمراهنة على الانتفاضة في تحريك الشارع العربي لتغيير الأوضاع السائدة فهي متسرعة وعاطفية وسطحية جداً. والقضية الفلسطينية ظلت على الدوام عامل تحريك لعواطف الجماهير العربية والتعبير عن مكنوناتها، ولكن الأساس في موضوع التغيير هو وعي الجماهير العربية لذاتها ولحقوقها ولمتطلباتها في تغيير واقعها هي، ومستوى تنظيمها ومستوى تحركها ووسائل عملها تالياً. فإذا كانت هذه الجماهير لا تستطيع التحرك نحو التغيير، لأسبابها الذاتية الخاصة بها والمتعلقة برؤيتها لأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإذا كانت لا تملك الوسائل لتغيير هذه الأوضاع، فإنها لن تستطيع ذلك في أي موضوع آخر حتى لو كان هذا الموضوع بمستوى مكانة الموضوع الفلسطيني. لا شك في أن هذه الانتفاضة عززت، من جديد، ثقة الشعب الفلسطيني في ذاته، وأعادت الاعتبار له في الإطار العربي، باعتباره شعباً مناضلاً ومكافحاً، بعد أن طمست عملية التسوية هذا الاعتبار. وبيَّنت الانتفاضة من جانب آخر، عمق البعد الصراعي للعملية التفاوضية الجارية. فهي، لم تعد مجرد عملية إملاء من طرف على طرف آخر، ووضعت الشعب الفلسطيني على قدر من التكافؤ النسبي مع الطرف الاسرائيلي. وعلى الجانب الفلسطيني أسهمت الانتفاضة في تصليب وحدة الشعب الفلسطيني، في أماكنه كافة، وعززت مكانة قيادته الوطنية، وكانت أشبه بإعادة تثقيف له، ولأجياله الجديدة، وعززت تبلور هويته الوطنية والقومية. وأثبتت وقائع الانتفاضة أن اسرائيل ذاتها قيادة وشعباً هي التي تعوِّق عملية التسوية. وفضحت خواء الديموقراطية التي تميز بين سكانها، وتستخدم الدبابات والطائرات في إخضاع شعب آخر، أو السيطرة عليه. وأثبتت الانتفاضة، ورد الفعل الاسرائيلي عليها، سواء من جهة الحكومة أو من جهة الاسرائيليين أنفسهم، خرافة أوهام التعايش، وبينت استحالة قدرة اسرائيل، على رغم جبروتها، فرض ارادتها واملاءاتها على الشعب الفلسطيني. وأكدت أن الحل الممكن في الظروف والمعطيات الراهنة انما يتطلب قيام دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدسالشرقية، بما يمهد، في ظروف ومعطيات اخرى، لاستكمال عملية تقويض أسس الصهيونية. وهو ما يفتح المجال، ربما، لقيام دولة ثنائية القومية، أو قيام دولة ديموقراطية علمانية لكل مواطنيها في فلسطين - اسرائيل، في إطار المنطقة العربية. * كاتب فلسطيني.