لا يخفى على المراقب والمتتبع للشؤون الفلسطينية ان حوادث الخطف وما لحقها من صراع داخلي في غزة، كان في الأساس صراعاً على السلطة حتى لو تم تحت شعار الاصلاح وازاحة الفاسدين عن بعض المناصب خصوصاً في الاجهزة الأمنية. وليس من المستغرب ان يكون الاصلاح ومحاسبة الفاسدين شعاراً يستخدم أداتياً لإعطاء مشروعية لما هو من صراع بين جناحين في السلطة الفلسطينية، جناح اكبر بقيادة الرئيس عرفات، وجناح أصغر ازداد نفوذاً خلال العام الماضي خصوصاً في قطاع غزة. اما في ما يتعلق بالفساد فكما يعرف الجميع داخل فلسطين وخارجها ايضاً، ان الأيدي النظيفة في كلا الجناحين قليلة، سواء كان ذلك فساداً ادارياً أو سياسياً أو مالياً. ولم يكن من قبيل المصادفة ان شعار الاصلاح استخدم في هذا الصراع على النفوذ والأدوار، ذلك ان مطلب اصلاح السلطة الفلسطينية في كل نواحي عملها له تأييد عارم في استطلاعات الرأي الفلسطينية وعلى صعيد النخب خارج السلطة ايضاً. وهو مطلب سابق لاكتشاف الحاجة الى"اصلاح"السلطة الفلسطينية من قبل الرئيس بوش وارييل شارون. وعلى رغم جهود متنوعة للضغط نحو اصلاحات بنيوية بموجب جدول أعمال داخلي فلسطيني، سواء من قبل المجلس التشريعي أو المؤسسات الأهلية والقطاع الخاص ايضاً، لم يحدث اصلاح يذكر بسبب ضعف آليات الضغط الداخلي وضعف المجلس التشريعي أمام القيادة الفلسطينية. وتجدر الإشارة الى ان الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية عموماً لم تضغط بشكل كاف لإحداث اصلاح جذري في السلطة الفلسطينية قبل الانتفاضة الثانية، لأن جدول أعمالها كان اساساً سياسياً، أي استمرار المسار السياسي والتغاضي النسبي عن الاصلاح الشامل. أما اهتمام الولاياتالمتحدة و"الرباعية"حالياً بالموضوع، فهو من باب جدول أعمال سياسي ضيق اسرائيلي في الأساس، اي ايجاد وكيل أمني فلسطيني في غزة أولاً والضفة الغربية ثانياً لمشروع شارون المسمى"انسحاب من طرف واحد"، في غياب أي مسار سياسي مقنع، مع ابقاء الرئيس عرفات"مهمشاً"سياسياً. ومن الواضح ان لا حافز للرئيس عرفات بالتعاون مع جدول أعمال من هذا النوع، اي التخلي عن بعض أو كل صلاحياته، من دون سبب موجب سوى التعاون مع مشروع شارون الذي سيحل محل خريطة الطريق حتى ما بعد الانتخابات في اسرائيل في تشرين الثاني نوفمبر 2006، أي بعد منتصف 2007 وبعد تشكيل حكومة اسرائيلية جديدة، ان جرت الأمور كما هو معطى حالياً. ومن منظور الجناح المناهض لسياسة عرفات داخل السلطة الفلسطينية، والذي يقف وراء"التوجه الانقلابي"الأخير في غزة على ما يظهر، فإن السياسة هي"فن الممكن"ربما في هذه الحالة، بأسوأ معانيها، اذ لتوجد"لعبة أخرى"غير ما هو مطروح اميركياً واسرائيلياً كما يقولون. بالتالي فإن"الواقعية السياسية"تتطلب التكيف مع ما هو ممكن. لا شيء اكثر أو أقل من هذا، وقد عبر عن هذا الرأي اكثر من مساند لهذا التوجه من سياسيين وآخرين، ما زالوا يمثلون تيار الأقلية، حتى لو شعروا بثقة اكبر في النفس اخيراً، بفعل دعم قوى خارجية لهم والإفادة من سوء سمعة السلطة الواسع النطاق بين الفلسطينيين، ومن ثم شعار الاصلاح. غير ان حقيقة الأمر، كما يقال، اكثر تركيباً وتعقيداً مما يظهر في وسائل الاعلام العربية والاجنبية، ناهيك عن الفلسطينية، والتي تمارس رقابة ذاتية مستمرة في غياب حكم القانون وضمانات بنيوية ومؤسساتية لحرية التعبير وحرية الاعلام. والحال هي ان هناك قدراً من التقاطع الموضوعي بين جدول أعمال الاصلاح بموجب التوجه الوطني الداخلي الفلسطيني وجدول أعمال اسرائيل والادارة الاميركية. اذ انهما يؤديان الى التقليل من صلاحيات الرئيس عرفات ودوره. لكنهما ايضاً يختلفان في مداخل الاصلاح والأولويات. صحيح ان الرأي العام الفلسطيني مناهض لما سمي بالفلتان الأمني و"فوضى السلاح"وانتشار المجموعات المسلحة وسيطرتها على الشارع و"أخذ القانون بيدها"، لكن اهتمام الحكومة الاسرائيلية منصب اساساً على مركزة الاجهزة الأمنية تحت سيطرة وزير داخلية غير موال لعرفات. الغرض هنا هو وجود وكيل أمني لاسرائيل، هذه هي نهاية مشروع"الاصلاح"الاسرائيلي على المدى القريب. اما على المدى الابعد فهي تسعى الى ايجاد قيادة سياسية بديلة لعرفات. لكن من منظور القوى الفلسطينية المساندة للاصلاح بموجب توجه وطني ان مداخل الموضوع تبدأ بارساء حكم القانون وايجاد قضاء مستقل ونزيه. ذلك ان مركزة الاجهزة في غياب حكم القانون ستحول الى حكم العسكر عاجلاً ام آجلاً. كذلك لا سبيل لمكافحة الفساد ومساءلة المسؤولين عنه من دون وجود قانون نافذ وقضاء قوي غير خاضع للسلطة التنفيذية. واذا كان تغيير من هذا النوع يلزم ارادة سياسية مفقودة حالياً، ينشأ التساؤل عن كيفية توليد ارادة من هذا النوع. لذا، ان مداخل الاصلاح تكمن في فتح النظام السياسي الفلسطيني للتغيير من خلال انتخاب مجلس تشريعي جديد يعكس التعددية الموجودة في المجتمع الفلسطيني وبموجب قانون انتخابات جديد يوفر امكان ظهور مجلس نيابي قوي غير ضعيف امام السلطة التنفيذية، بخلاف المجلس التشريعي الحالي. لكن الوضع الراهن لبنية السلطة الفلسطينية لم ينشأ خلال الانتفاضة الثانية. فلم تسع السلطة من انشائها العام 1994 الى تأسيس دولة حديثة تقوم على المأسسة وتوزع الصلاحيات وحكم القانون، وانما انشأت نظاماً ادارياً وسياسياً زبائنياً سمته العامة الفسيفسائية والتجزئة والتفتت. ومكونات هذا النظام اشبه بحلقات متصلة افقية وعمودية تستمد مقومات وجودها ومنافعها وامتيازاتها في نهاية الامر من قمة الهرم اي من الرئيس عرفات. وفي هذا ما يفسر وجود مدير في احدى الوزارات له نفوذ وسطوة اكبر من تلك التي في حيازة الوزير اذ كان مرتبطاً بحلقة اقرب الى المركز ومصدر النفوذ والمنافع. وهو نظام معهود في عدد من الدول العربية بما في ذلك لبنان مع غياب الجانب الطائفي الذي يعكس خصوصية ذلك البلد واحد مصادر مشاكله الداخلية. لكن خصوصية النظام الفلسطيني تكمن في ان الصمغ اللاصق للنظام السياسي والاداري ولحركة"فتح"هو شخص الرئيس عرفات. اي ان غيابه عن الساحة السياسية سيحدث انهياراً في النظام القائم بما في ذلك داخل الحركة، ومن ثم مطالبة العديدين داخل هذه الحركة بالمأسسة خشية من تنفيذ اسرائيل تهديداتها تجاه عرفات، وتفتت هذه الحركة نتيجة لذلك. وما حصل خلال الانتفاضة الثانية خصوصاً خلال الشهور الاخيرة الماضية وبفعل الظروف الميدانية وضعف السلطة المركزية، دخول اطراف عدة خارجية وداخلية خصوصاً في قطاع غزة، في نطاق النظام الزبائني المبني اساساً على التمويل والامتيازات اي الآليات الفاسدة والمفسدة نفسها، لغرض اضعاف القيادة الفلسطينية باستخدام شعار الاصلاح ومكافحة الفساد، سعياً وراء شرعية المطلب امام الرأي العام الفلسطيني المساند لهذه الشعارات ولكن ليس ضرورة مسانداً لجداول الاعمال المختلفة الكامنة وراءها. لذا ان المعضلة الاساسية التي تواجه المصلحين المستقلين الذين يتطلعون الى اقامة دولة فلسطينية لا يطمح مواطنوها للهجرة منها، والتي لا تقوم على الزبائنية والامتيازات والفساد، وفي هذا الظرف بالذات، تكمن في اشكالية تأييد هذا الفريق او ذاك لان كليهما لا يشكلان حلاً لازمة النظام الفلسطيني الحالي، في آليات عمله واساليب ادارته، بالمقابل ان الترفع عن اتخاذ موقف سياسي واضح هو وصفة للشلل السياسي امام معطى محدد وهو الصراع الجاري حالياً بين جناحي السلطة الفلسطينية. لذا تبقى الشعارات التي يرفعها المصلحون المستقلون مثل الدعوة ل"انتخابات نيابية واصلاح قانون الانتخابات وفتح النظام السياسي الفلسطيني للتغيير وارساء حكم القانون تبقى هذه المطالب من دون قوة دفع كافية او فاعلية عملية تؤدي الى التغيير بسبب احتكار القوة في الميدان من الاطراف المتناحرة في هذه الازمة بالذات". ان معضلة الاصلاح في فلسطين لا تختلف جوهرياً عن معضلة الاصلاح في الدول العربية. ففي معظم الحالات لا توجد آليات ضغط داخلية كافية لاجراء الاصلاحات المطلوبة، اما بسبب ضعف القدرة التنظيمية في المجتمع وإما لضعف الاحزاب السياسية وغياب الحركات الاجتماعية الفاعلة او لأسباب اخرى. لذا يهيمن طرفان في العادة على اي مشروع"اصلاحي"، الحكومات المطلوب اصلاحها والقوى الخارجية التي هي دائماً على استعداد لمقايضة"الاصلاح بمقابل سياسي او آخر يخدم مصالحها، فيتحول الاصلاح الى قطار تقوده الحكومات او الى صفقات مع دول اجنبية تؤمن استمرار النظم الحاكمة. اما ما يسمى ب"المجتمع المدني"ان وجد، فيبقى مهمشاً او قليل الفاعلية كما كان دائماً يبحث عن نقطة ضوء في النفق المظلم لمسمى اصلاح. * استاذ في برنامج الماجستير في الديموقراطية وحقوق الانسان ودائرة الفلسفة في جامعة بيرزيت، فلسطين.