لاحت لي بشائر غوطة دمشق وأنا عائد بعد زيارة بيروت فشعرت برعشة الحنين التي تصيب كل عائد "لأول منزل". وطوال الطريق كانت تتراءى لي مشاهد إعمار لبنان الذي عرف بنوه السبيل إلى إخراجه من كبوته، ومهدوا جزئياً لعودة دوره المالي والسياحي الرائد في المنطقة. وبعد انحسار رعشة الحنين لاحظت أن مدينتي تبدو هرمة، ألوانها قاتمة، طرقاتها محفورة، أبنيتها مكررة، أنفاقها وساحاتها معتمة، فتملكني فجأة شعور بالحسرة لم يخفف منه قليلاً سوى دفء التلاقي ورحابة المكان. سببان ألحا علي بالجواب: جبروت الصهيونية وأتجرأ على القول جبروت أميركا ثم العامل المحلي أو الأنظمة السياسية المتتالية التي أربكتها مجابهة هذا الجبروت فاتخذت، منذ خمسينات القرن الماضي، مسارات اقتصادية متشنجة وقاصرة. لنأخذ السبب الأول ونسأل، هل بلغت الصهيونية درجة من الهيمنة على السياسة العالمية يجعل وطأتها السياسية والاقتصادية والعسكرية غير محتملة؟ الجواب نعم بالتأكيد ومن الطريف أن إسرائيل وجدت في الحزب الجمهوري الاميركي الذي كان همه الأكبر فرض الأمركة وتأخير العولمة في النظام العالمي الجديد، سنداً صلباً انضم إلى اللوبي الإسرائيلي الذي أصبح بدوره الأقوى اقتصادياً وسياسياً في تاريخ الولاياتالمتحدة وبات يسيطر عملياً على قطاعات مهمة من الاقتصاد العالمي ابرزها قطاع المال وقطاع الصحافة والإعلام. أما العامل المحلي فانطلق من ديموقراطية التعليم التي أفرزتها الحركة الوطنية في سورية أيام مقارعة الانتداب والتي دعمتها أحزاب المعارضة، وقد أدت ديموقراطية التعليم التي أخذت أوسع مدى لها في سورية إلى إخراج كثير من الفئات المحرومة من القمقم الاجتماعي وجعلها تصعد بثبات في سلم الارتقاء الوظيفي والاجتماعي وبالتالي السياسي والاقتصادي. وترافق تنامي النفوذ السياسي للطبقات الشعبية مع تصاعد المشاعر القومية التي سادت المنطقة العربية في منتصف القرن الفائت. لكنّ الارتقاء السياسي المشروع للحركات الممثلة لهذه الفئات المحرومة لم يتزامن مع ارتقاء مماثل في المهارات أو نوعية التعليم ودفع بالتالي إلى سدة المفاصل التنفيذية في الدولة بكادرات محدودة الثقافة والإمكانات وقليلة الطموح والأحلام في كثير من الأحيان. وسبب كل ذلك تراجعاً مهنياً واضحاً لدى جميع فئات الشعب واختفت تدريجاً المرجعيات المهنية شيوخ الأطباء، شيوخ المهندسين، شيوخ المحامين، شيوخ الميكانيكيين، شيوخ الزراعيين....الخ الذين كانوا يشكلون نبراساً يحتذى لأقرانهم، وخفف كل ذلك من تفاعل الشعب السوري مع محيطه الإقليمي والعالمي وقلل من تعرضيته للهبات الفكرية والمهنية والاقتصادية التي عصفت بالعالم. ولحسن الطالع أو لسوئه، تدفق النفط في البلد ولم يستخدم للأسف سوى جزئياً جداً كوسادة تمويل للتحولات الاقتصادية أو الاستثمارات التنموية الفعلية بل استخدم لتغطية العجز أو الخسائر الناجمة عن سياسة اقتصادية رديئة. أشياء قليلة حدت من حجم الكارثة الاقتصادية التي كان يمكن أن تحدث: دخل النفط الكبير نسبياً، توزيع الثروة الجيد الذي وفره القطاع الخاص من خلال مؤسسات عائلية صغيرة ومتوسطة، أفقية المهارة التي اكتسبها الشعب السوري من خلال ديمقراطية التعليم، والإدارة الاقتصادية الوطنية التي حافظت على رغم سيئاتها الكثيرة على مجموعة من المبادئ الحميدة أهمها: حكمة المحافظة على رواتب وأجور متناسبة مع الأداء الاقتصادي، حكمة البطء في تنفيذ كثير من المشاريع الاستثمارية غير المجدية وحكمة تغطية العملة الوطنية باحتياطي جيد في الخارج. والاعتقاد بأن أميركا قادرة على ردع من يحاول تعطيل السلام وإن لم يكن عادلاً بعد التوقيع عليه، لا يبدو منطقياً إلا إذا بدأنا نتخيل نوعاً من السيطرة والتحكم بالعالم ينتمي إلى قصص الخيال ويبتعد كل البعد عما هو مطروح كنظام عالمي جديد، تتساوى فيه الأعراق ويؤدي فيه الاقتصاد والمال الكلمة الفصل في تمايز الشعوب. كيف سنتصدى إذاً لخصم جارف القوة؟ إن الجواب يكمن في العمل على أكثر من محور: المحور الأول: تحقيق سلم أهلي حقيقي في مجتمعنا من خلال تعميق مفهوم الحوار الوطني وإشراك كل القوميات والثقافات والأديان في بناء استراتيجية الوطن وكذلك دعم فعاليات المجتمع المدني. ولا نقصد هنا تلك المهتمة فقط بالحصول على جزء من "التورته" السياسية، بل أيضاً وخصوصاً تلك الهادفة إلى حماية المواطن واقتصاد الوطن من خلال حماية البيئة والمستهلك وتطوير الجودة ومعاييرها وما إلى ذلك. وأخيراً إزالة أسباب التطرف وتوجيه المناهج التدريسية في شكل يخدم التربية الوطنية وحب الوطن والإخلاص للمجتمع. - المحور الثاني: العمل على بناء اقتصاد وطني منفتح يسهل الانطلاق إلى اقتصاد السوق المنافس مع المحافظة على الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية. واللافت في الموضوع هو أن شعبنا تعود على خدمات اجتماعية وصحية دون الحد المقبول ومن دون مقابل مادي، لذلك فهو سيعتبر الخدمات الأكثر تميزاً التي سيقدمها نظام التأمين الصحي والاجتماعي في النظام المقترح أكثر عدالة من تلك التي أعتاد عليها. ويبرز الإصلاح الاقتصادي: إصلاح القضاء، تشريع عمل مصرفي حقيقي، سوق الأوراق المالية، فتح باب التأمين للجميع، الضمان الصحي، الآن كأكثر الأهداف إلحاحاً في منظومتنا الوطنية وهو سيجعل شعبنا أكثر منعة وأكثر تصميماً على تحقيق إنجازات اقتصادية. - المحور الثالث: دراسة المجتمع السوري من خلال قراءة متأنية لنقاط القوة والضعف فيه. تبدأ هذه الدراسة بإعادة صياغة تاريخنا لكي نسمح للحضارات التي صنعته بالمشاركة الفاعلة فيه. فأمجادنا وعثراتنا الأمورية والحتية والآكادية والآشورية والكنعانية الفينيقية والآرامية السريانية والنبطية والإغريقية والتدمرية واليونانية والرومانية والمملوكية وغيرها لا تقل أهمية عن أمجادنا وعثراتنا العربية. ولنا في الشعوب العريقة الأخرى القدوة الحسنة: فرنسا على رغم فرنسيتها تمجد تاريخها السلتي والغولي والروماني، وتركيا على رغم تعصبها لتركيتها تمجد تاريخها الاغريقي والروماني والسلجوقي والعثماني، وانكلترا لا تزال تمجد السكسون والفرانك وحتى غزاتها الفايكنغ. إن إعادة كتابة التاريخ في خطوطه العامة تعني أيضاً مراجعة أخطائنا السابقة من أجل الاستفادة منها في المستقبل. تلي كتابة التاريخ قراءة الجغرافيا وقراءة محيطنا مع دراسة معمقة لشعبنا وإرثه الحضاري ومهاراته، وهي دراسة تساهم في تعريف الاتجاهات التي يستطيع فيها تحقيق نجاحات مؤكدة. بعد ذلك، ستبرز حتماً الحاجة الى دراسة المتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية في العالم والمنطقة والامكانات التكنولوجية الملحة التي ينبغي أن يتمتع بها وطننا. كل هذه الجهود مجتمعة تهدف للوصول إلى اقتراح أميز تموضع اقتصادي وسياسي ممكن لوطننا في المنظومة الإقليمية. وجميل أن تترافق دراسة مجتمعنا أيضاً مع حملة لإزالة الحشو والمبالغة من تصريحاتنا وإضفاء الموضوعية والشفافية عليها، وأجمل منه أن نخفف من المحتوى العقائدي والسياسي في خطابنا ونكثر من المحتوى الاقتصادي والبيئي والصحي والنظافي. - المحور الرابع: وهو الأهم ويقضي باعتماد سياسة واقعية تأخذ في الاعتبار أن إمكانات الخصم أكبر من إمكاناتنا بمراحل وأنه مصمم على الحصول على الكثير مما يريد. وتقضي الواقعية بأن يبدأ حوار مفتوح مع أميركا يتم فيه التوضيح لها بأن أي خطوة نحو السلام في المنطقة من طرفها ستقابلها خطوتان من طرف سورية وأن هذا ينطبق على كل شئ: استقرار العراق، الإرهاب المعرف اميركياً...الخ. إن سياسة الحوار والاستجابة بخطوتين مقابل كل خطوة تهدف للوصول إلى إيقاظ روح العدالة لدى الكونغرس الاميركي واكتشاف نقطة التحول التي ستجعله بعد تجاوزها، يتجرأ على التصرف بعدالة عملاُ بالقيم الأميركية العليا. إن علينا كأمة مستضعفة أن نضغط على أنفسنا لكي نستمر في الحوار من أجل تبين الخيط الأبيض من الأسود، والأبيض لدينا هو باختصار تحرير كل ترابنا المحتل، أما القضايا الأخرى فهي جميعاً رمادية وقابلة للنقاش. الحوار وحده سيجعل أميركا تدرك بأنها تتعامل مع دولة منفتحة، متحررة، معادية للإرهاب وتسعى حقيقة إلى السلام، مع دولة تفرض نفسها كلاعب رئيس لا يمكن تجاهله في المنطقة. ولنستدرك قليلاً ونذكر عدداً من المزايا والسيئات التي يملكها وطننا والتي نستطيع من خلالها استقراء مستقبل قد نكون قادرين على صنعه. لنبدأ بالمزايا فهي أحلى وقعاً على نفوسنا وأجمل: نحن شعب ذو إرث حضاري ممتاز وتكنولوجي ومهني مقبول، والعامل السوري أكثر العمال العرب مهارة في التقانات الميكانيكية والكهربائية المنفذة فردياً. نحن شعب متعدد الأعراق والأديان، عربي الهوية، مسلم الأغلبية، متسامح حتى الصميم. نحن شعب يعرف معنى الدفاع عن الوطن. نحن شعب تعرض إلى الاختلاط الإيجابي بين موجات بشرية متلاحقة عبر التاريخ، تلك التي أتت من الشمال سعياً وراء الدفء وتسامح الطبيعة، وتلك التي أتت من الجنوب سعياً وراء الرطوبة وتسامح الطبيعة أيضاً، ثم فيما بعد سعياً لنشر الدين الحنيف. نحن بلد لا تستقيم الحضارة الشرقية من دونه فقد كان حامل لوائها فترة مهمة من الزمن ولا تستقيم الحضارة الغربية من دونه أيضاً، فأوابدها تشهد على مشاركته الفعالة في إنجازاتها. نحن بلد يستطيع من خلال آثاره وطقسه وانفتاحه الاجتماعي النسبي استقطاب عدد هائل من سياح المعمورة. نحن بلد مجاور للبنان، ويستطيع أن ينهل من إمكانات اللبنانيين والسوريين "المتلبننين" التواقين إلى التوسع الاقتصادي فيه، فتتلاقى مصلحة الطرفين حتى يصبح بإمكان سورية تحقيق التموضع الأمثل مع لبنان بين أوروبا والعالم العربي، وبين أوربا وآسيا. وتبدو تركياً شريكاً مناسباًً في هذا التموضع ويبدو العراق الجديد بعد تحرره التام مؤهلاً لذلك أيضاً. شرق أوسط جديد وصغير مختلف بالطبع عن "الشرق الأوسط الكبير" الذي نسمع عنه اليوم، والذي يوحي بالمقابل بأنه عبارة عن كيان لتجميع ذوي الأصول العرقية أو الدينية الموصومة بقابليتها للإرهاب، بغية ضبطهم وتهذيبهم باستخدام التقانات الإسرائيلية المتقدمة. لننتقل الآن إلى السلبيات فهي على رغم الحزن الذي تسببه لنا، تساعد أيضاً على تبين الطريق الأسلم نحو الأمام. نحن بلد صغير تم تقسيمه في بداية القرن حتى لم يتبق منه سوى أقل من نصفه، لذلك فهو في شكله الحاضر لا يتصف بالاكتمال إلا إذا تحالف وتآلف مع جيرانه. نحن شعب تخلف اقتصادياً وتراجعت تعرضيته لكل ما هو حديث، وانحسرت فيه خبرات مهنية كثيرة: أين المصرفي والاقتصادي والمالي، والمحلل السياسي والمحلل الاقتصادي والإداري والعالم اللغوي، والمحامي الدولي، وأستاذ العلوم الإنسانية... نحن بلد غادرته كفاءاته واتجهت غرباً وشرقاُ وشمالاً وجنوباً، وأصبح من المتعذر استعادتها، علماً بأنها هي نفسها اضطرت إلى اعتماد انحراف مهني في مهاراتها ليعود معظمها إلى التجارة كعمل رئيس ويبتعد عن المهنة التي أُهِّل لها في الأساس. وما حدث منطقي فالمهن تحتاج عادة إلى علاقات اجتماعية قلما يصل إليها المغترب خارج وطنه، أما التجارة فهي إرث طبيعي لكل سوري. نحن بلد لا يزال في مرحلة إعادة تعريف سياسته الاقتصادية وسياسته المالية والاستثمارية وسياسته السكانية والاجتماعية وسياسته الزراعية والصناعية، وهو يعرِّف لأول مرة سياسته المائية والبيئية والتكنولوجية والسياحية، وقد كان ولا يزال يملك فقط سياسة سياسية. نحن بلد يملك بنية تحتية محدودة وتفتقر إلى الصيانة، ويملك أقل مما يجب من الكهرباء وأقل مما يجب من الاتصالات وأقل مما يجب من الخدمات وأقل مما يجب من المياه النظيفة ومن الصناعات والزراعات المنافسة القابلة للتصدير. نحن بلد يعاني من الفساد، والفساد نوعان: الأول فساد يراعي فيه صاحب القرار مصلحة مؤسسته ولكنه يستخدم مهاراته وخبثه وخبرته في الإجراءات لتحقيق الإثراء غير المشروع. هذا الفساد مكروه ومضر، لكن ضرره يبقى محتملاُ ونجد مثيلاً له في معظم بلدان العالم، الفقيرة منها على وجه الخصوص. أما الفساد الثاني فهو فساد هدام يختلق فيه صاحب القرار أعمالاً ومشاريع لا طائل منها ولا جدوى لها لتحقيق الإثراء غير المشروع، وقد يعمد إلى تعقيد معاملة مستوفاة شروطها للغاية نفسها. هذا الفساد قاتل ومعيق للتقدم. نحن بلد فوَّت على نفسه فرصة المشاركة في الثورة الصناعية وفي الثورة الإلكترونية، وتأخر في الانضمام إلى الثورة المعلوماتية، وهو بعيد عن اللحاق بالثورة الأخطر التي تنتظر العالم وهي ثورة المورثات، التي قد تنجح فيها بعض الشعوب في تحقيق التميز الجيني بالمقارنة مع شعوب أخرى. من هنا فإن سورية لم تعد تملك سوى وقت محدود لاختيار موقعها في التكتلات العالمية. وإذا أراد شعبها أن يضيف آلافاً جديدة من السنوات إلى تاريخه الطويل، فعليه منذ الآن أن يلعب دوراً أكبر في التجاذبات الاقتصادية العالمية، وأن يرسم لنفسه الخطوط العامة لاستراتيجية زراعية وصناعية وبيئية وتكنولوجية واضحة ومتكاملة. أنا لا أحاول هنا تبرير الأخطاء والثغرات، وبطبيعة الحال لا أحاول التغطية على كثير من المنكرات أو إلقاء اللوم بحق أو جزافاً على أحد. ولكني أحاول إطلاق دعوة إلى الوطن. دعوة إلى السوريين أينما وجدوا وإلى أي فئة انتموا وبأي معتقد آمنوا ومن أي منطقة أتوا. إن سورية في حاجة إلى عقولكم وسواعدكم: من أجل أن تصبح موطن التسامح والانفتاح، موطن الحوار والعدل. من أجل أن تغدو الزراعة والصناعات الغذائية والنسيجية والدوائية والسياحة والتكنولوجيا الميكانيكية والدراما التلفزيونية... فيها، منافذ النجاح إلى مستقبل واعد. من أجل أن تتكلم بلغة العصر، لغة الاقتصاد ولغة الموقف السياسي المعتدل والشجاع المقترن بتوق حقيقي للوصول إلى السلام. من أجل أن تتعاظم مسيرة الإصلاح التي يقودها بحكمة ومن دون ضجيج رئيس سورية، وهو الذي يدرك تماماً أبعاد التجاذبات الإقليمية والعالمية، المؤثرة على مستقبل البلاد. * اكاديمي وباحث سوري.