يبدو ان سحر "ألف ليلة وليلة" لا يزول، بل يقوى بمرور الزمن. منذ الترجمة الفرنسية الأولى في القرن الثامن عشر، ثم الترجمة الانكليزية الأولى في القرن التاسع عشر، والكتاب يمارس تأثيره في الأدب الغربي. وبعد عشر سنوات على صدور كتاب "الليالي العربية" لروبرت اروين، الذي لقي رواجاً، يعاد طبعه الآن، مع مقدمة جديدة. هذا الكتاب يتحدث عن "اعظم انجاز ادبي في العالم العربي". وليس ذلك فحسب، بل ان هذه الليالي العربية لا يزال لها سحر كبير على المخيلة الغربية، كما يقول كيفن جاكسون. هذا على رغم الصراع الحقيقي والمفتعل بين العالمين الغربي والاسلامي، وعلى رغم الصورة القاتمة عن العالم الاسلامي عند الغرب، التي تنعكس في فتاوى "طالبان" وإسلاميين متشددين آخرين. على رغم هذه الصورة القاتمة عن العالمين العربي والإسلامي هناك التماعات ايجابية من بينها تلك النزعة المتنامية في الغرب نحو نظرة اكثر تعاطفاً مع العالم الإسلامي بحكم دوره الحضاري. فقد صدر كتاب "الحمراء" لإرفينغ ونفدت طبعته الأولى في غضون اسابيع وسيقدم على الشاشة الصغيرة. كما ان الطبعة الثانية من "الليالي العربية" ستشفع بسلسلة من خمس حلقات بعنوان "ألف ليلة وليلة" تذاع من القناة البريطانية BBC الرابعة. ويتحدث كيفن جاكسون عن الوصفة الإيكزوتية التي غزت العالم الغربي من طريق الليالي العربية، وكيف ان لعبة الكرة والدبابيس القديمة كانت مزينة بصور مثيرة عن مشاهد كانت مثار اعجاب المخيلة الأوروبية: "بيضة الرخ الهائلة، والجاريات بسراويلهن الشفافة، والرجال ذوو الأنوف المعقوفة المتفننون في استعمال السيوف المعقوفة... الخ". وقد تبدو هذه اشياء تافهة، لكنها نافست وربما فاقت، مشاهد من شكسبير، او هوميروس، في ما تنطوي عليه من عنصر الادهاش. قال خورخيه لويس بورخيس مرة عن "الليالي" انه "كتاب من السعة بحيث لا يتعين عليك قراءته" مع انه قرأه، وظل متأثراً بقراءته بلا انقطاع. ويقارن روبرت إروين بين "ألف ليلة وليلة" والكتاب المقدس في حضورهما في الذهن أكثر من قراءتهما، ولربما فكر القراء الأكثر ثقافة في شهرزاد، وبراعتها في الإفلات من الموت برواية قصصها على مدى الف ليلة وليلة، بيد ان القراء لا ينسون السندباد، وعلاء الدين ومصباحه، وعلي بابا والأربعين حرامياً... فهذه القصص هي، حقاً، نظائر لقصص مثل snow White وبينوكيو، وهرقل. على ان حضور "الليالي" في الذاكرة لم يكن مجرد شيء ذي طابع جماهيري بسيط، قد يذكرنا بلعبة الكرة والدبابيس والتمثيل الايمائي. فقد زعم فولتير انه قرأ قصص "ألف ليلة وليلة" اربع عشرة مرة، وانتحلها في قصصه، وقال هوراس واليول: "اذا قرأت السندباد فستقرف من انياس بطل انياذة فرجيل اما كوليرج فقد زعم انه قرأ الحكايات وهو في السادسة من عمره، حيث ارعبه بعضها، مثل دي كوينسي، وورد زوورث، وتنيسون، وديكنز الذين اغنوا ذاكرة طفولتهم بهذه الحكايات العربية، مع عبارة سكورج احد ابطال ديكنز "يا عزيزي المخلص القديم علي بابا"، أما المؤلف غيبون فقد تعاطف بحرارة مع الخلفاء العباسيين في انهيار وسقوط الامبراطورية الرومانية، وهو انعكاس مباشر لهيامه بالليالي العربية في طفولته. وقدم روبرت لويس ستيفنسون ليالي عربية جديدة لعصره، وفي أميركا كان كل من ادغار الن بو، وملفل مسكوناً بالأرابيسك... وهكذا، نرى ان ذكرى شهرزاد تترجع عند مارسيل بروست وجيمس جويس، وبورخيس وآخرين، بمن فيهم سلمان رشدي. وقد صدرت روايتان حديثتان في بريطانيا متأثرتان بكتاب روبرت إروين عن "الليالي"، هما "الجن وعين البلبل" A.S. Byatt و"شهرزاد" لأنتوني اونيل. ولم تقتصر الحال على الأدب بل تتعداه الى عالم السينما والموسيقى، والمسرح، والفنون التشكيلية، كما هو معروف. فكيف حصل هذا الغزو الجميل؟ سؤال كبير استغرق روبرت اروين اكثر من 300 صفحة للاجابة عنه جزئياً كما يؤكد. ولعل الجواب السريع هو: حجرات نوم الاطفال. وكما ينبغي، واحياناً بغباء، كان النص يتعرض الى البتر، والتصرف لتشذيبه من السموم الضارة بما في ذلك الكلام الوافر عن الجنس، والعنف المخيف والصورة عن الجرم العربي في القرون الوسطى بما يضارع اي شيء في الادب، لأليزابيثي واليعقوبي. وكانت هذه الصيغ المهذبة من "الليالي" تعتبر ملائمة جداً للعقول الفتية التي كانت تتلهف إلى غذاء كهذا من الفانتازيا والأعاجيب. وهكذا، على غرار رحلات غوليفر أو روبنسون كروزو، أصبحت السرديات التي كتبت للبالغين مادة صالحة لمخيلة الأطفال. وكانت فرنسا أول من تعرّف الى هذه الليالي، كان انطوان غالان 1646-1715 أول مترجم أوروبي لها. لقد نشرت ترجمته بين 1704-1717، ولقيت نجاحاً منقطع النظير. ومن الجدير بالملاحظة، أن صيغاً عربية لبعض الحكايات لم تظهر الا بعد ترجمة غالان، مما يعني انها قد تكون ترجمت إلى العربية من الفرنسية، ثم تبعتها ترجمة انكليزية في 1708، تشتمل على مختارات من الحكايات، يبدو أنها كانت سطواً على ترجمة غالان. وبعد ذلك بقرن ظهرت ترجمة جوناثان سكوت في 1811 بعنوان "تسليات الليالي العربية". وكانت هذه الترجمة بشيراً بظهور ألف طبعة وطبعة للأطفال، على حد قول كيفن جاكسون، وفي أعقابه، وبفضل انتعاش الحركة الاستشراقية كمؤسسة نافعة ومدفوعة الأجر بسخاء في ما تقدمه من خدمات لأعظم امبراطورية، كانت الترجمات الرئيسية ترجع مباشرة إلى مصادر محققة ومطبوعة حديثاً: ادوارد لين في 1838-1841 وجون بين في 1882-1884، ثم السير ريتشارد بيرتون بعشرة مجلدات، نشرت بين 1885-1888. وكان مستوى هذه الترجمات على نحو ما جاء في مجلة ادنبرغ ريفيو: غالان لدور الحضانة، ولين للمكتبة، وبين للدراسة، أما بيرتون فللبالوعات بالانكليزية Sewers وتعني أيضاً كبار خدم المائدة". أما ترجمة "بنغوين" في القرن العشرين. التي تعتبر مفضلة، فقد خذلت جمهور القراء، بحسب رأي روبرت اروين، لأن لياليها تبدو مملة. وهو يعتبر ترجمة حسين هدّاوي من العراق، الصادرة في مجلدين عن دار Everyman Libarary لا نظير لها، ويضم الجزء الأول مئتين وسبعين حكاية. أما الثاني فيشتمل على قصص مثل السندباد وعلاء الدين. ومن بين مشاريع سنة 2004، أن مالكولم ليونز من جامعة كيمبرج أخذ على عاتقه انجاز أول ترجمة انكليزية شاملة لليالي الكاملة منذ بيرتون. وستصدر عن دار "بنغوين" في 2005 أو 2006 وسيكتب اروين مقدمتها. ويتساءل كيفن جاكسون: ترى هل سيلعب الاحتفاء الجديد بحكايات شهرزاد، في المعسكرين، دوره المتواضع في التخفيف من هذا الصراع العنيف بين العالمين الغربي والإسلامي؟ لكنه لا يذهب في آماله بعيداً، في ضوء الأوضاع الملتهبة في منطقة الشرق الأوسط والسياسة الواقعية. ففي هذا الواقع الذي تحركه السياسة وتخطط له، لا يكاد يبقى موطئ قدم للطبقة المثقفة مهما كانت نياتها لهيبة. مع هذا، وفي أقل الاحتمال، ان من شأن الليالي العربية أن تذكّر القراء في الغرب انهم كانوا يوماً ما ينظرون إلى الشرق كعالم "ساحر ورومانسي، وتكتنفه الأسرار"، بدلاً من النظر إليه بغضب ورعب. وفي العالم الإسلامي، حيث سعى البعض إلى تحريم "الليالي" لأسباب أخلاقية، قد يكتشف قراء غير متغرضين في انتولوجيا اروين الكلاسيكية ما وصفه هذا الأخير بثقافة إسلامية واثقة من نفسها ومتسامحة وتعددية. وعلى أي حال، ان في فلسفة رويّ شهرزاد حكمة: ما دام ثمة من يروي قصة، وثمة من يصغي اليها، فالموت يبقى بعيداً.