شاءت الصدفة ان يأتي رئيس الوزراء المصري أحمد نظيف من مجتمع المعلوماتية والاتصالات. كيف تمكن قراءة "الصورة الواسعة" التي يحملها نظيف الى الحكم؟ للإجابة عن هذا السؤال، دخلت "الحياة" الى أرشيفها الخاص. استعادت بعض الذكريات مع وزير تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات، الذي صار رئيساً للحكومة في أكبر بلد عربي. من مبادرة الانترنت المجاني في 9 كانون الثاني يناير 2002، التفت الرئيس حسني مبارك الى الدكتور أحمد نظيف وزير الاتصالات والمعلومات حينها، قائلاً "شكراً يا أحمد... مش عايزك تقف عند مبادرة الانترنت المجاني التي اطلقتها اليوم". رد نظيف "ان شاء الله ياريس سنُطلق قريباً مبادرة الانترنت فائق السرعة". في 15 أيار مايو 2004، التفت الرئيس مبارك الى نظيف مجدداً ليقول له "شكراً يا أحمد... القطاع بتاعك بيتطور بسرعة... أعتقد أن مبادرة الانترنت فائق السرعة التي اطلقتها اليوم ستكون مهمة جداً". رد نظيف "هذه المبادرة ستساهم في زيادة استخدام الانترنت بنسبة 20 ضعفاً خلال السنوات الثلاث المقبلة". وبادر امين الاتحاد الدولي للإتصالات يوشيو أو تسومي الذي حضر حفل اطلاق تلك المبادرة، ليقول: "القطاع الاتصالات والمعلوماتية تطور كثيراً بالفعل... نحن تقدمنا بطلب للاستفادة من تجربتكم لتعميمها على القارة الافريقية". ورد الرئيس "عال... عال" مما أكد رضاه. بعد مبادرة الانترنت السريع، سألتُ "الوزير" نظيف عن احلامه لمصر.. اجابني بالقول ان "احلامي لا تتوقف...التقدم التكنولوجي فائق التطور ونسعى للحاق به...لا تستغرب ان يأتي يوم تستخدم فيه التكنولوجيا لعلاج قصر القامة مثلاً". وضحك الوزير ومن بصحبته ثم تابع: "ستكون مصر دولة متقدمة لو أردنا التقدم، وزارة الاتصالات تبذل أقصى ما في جهدها ونتمنى من الله التوفيق". وفي سري، تمنيت اكثر منه أن يُخترع علاجاً لقصر القامة تكنولوجياً كان او غير تكنولوجي. ولا ريب ان القارئ ادرك انني لست بطول مارد القنديل السحري! يعتبر نظيف الصحافيين كياناً كبيراً في وزارته. يحترم كل قلم. يناقش النقد المرتكز الى الوقائع. لا يسعى الى احراج من يخرج عن الآداب الصحافية، ليؤكد أن اي عمل جاد يلحظه الجميع. جاء قرار تعيينه رئيساً للوزراء مفاجئاً للجميع. ويؤكد القرار، من ناحية ثانية، أن الرجل قدَّم مسوغات كافية للترقي من وزير الى رئيس حكومة. ومنذ توليه أول وزارة تكنولوجيا معلومات واتصالات في مصر في 11 تشرين ألاول اكتوبر عام 1999، أسهم في تدشين مشاريع عدة، في مقدمها اتمتة العمل في الوزارات والمحافظات مثل مشروع الرقم القومي. وبذل جهداً واضحاً لوضع مصر على خارطة العالم في التكنولوجيا، مما جعلها البوابة التكنولوجية لافريقيا والشرق الاوسط في مجال الكومبيوتر والاتصالات المتطورة. وكذلك نجح في فتح المجال امام الشركات العالمية العملاقة للعمل في البلاد، بما في ذلك نقل التكنولوجيا Technology Transfer . قاد بنفسه البعثات الترويجية لقطاع التكنولوجيا المصري والعربي، في الخارج. المعلوماتية تحسم بيروقراطية الورق ويلاقي استخدام التكنولوجيا الرقمية حكومياً بعض التلكؤ من قبل بعض الهيئات الحكومية، اضافة الى عدم حسم البيروقراطية الورقية. وفي المقابل، تبنَّت الوزارة مشاريع ضخمة تساهم في تنمية المجتمع ونشر تقنية المعلومات، مثل مشروع نوادي تكنولوجيا المعلومات التي وصل عددها الى الف نادٍ، ودعَّمها بمبادرات الشراكة بين الشركات المصرية والدولية وغيرهما. وتحت اشراف نظيف، اطلقت الوزارة مبادرات مثل "الانترنت المجاني" و"الانترنت فائق السرعة" و"حاسوب لكل بيت". كما اشرف على مشروع "القرية الذكية"، التي مثلت شراكة بين القطاعين العام والخاص. وأصدر قانون حماية حقوق الملكية الفكرية عام 2002 ، وقانون الاتصالات الموحد 2003، والتوقيع الالكتروني 2004. والأرجح ان تلك الامور تدل على نجاة قطاع الاتصالات من مفرمة العشوائية والتخبط والبيروقراطية الادارية. رئاسة خبراء التكنولوجيا وإذا كانت هناك غالبية تؤكد نجاح نظيف كوزير للاتصالات فتلك الغالبية تترقب تجربته المقبلة مع الاقتصاد. ويبدو تعيينه بداية لتصنيف جديد لرؤساء الحكومات في مصر. فقد عاصرت الاجيال السابقة رؤساء الوزراء السياسيين، الذين انتهى دورهم بانتهاء فترتي الدكتور فؤاد محيي الدين والسيد كمال حسن علي في الثمانينات. بعدها، بدأت حقبة رؤساء الوزراء التكنوقراط بالدكتور علي لطفي، وانتهت بالدكتور عاطف عبيد. ويستهل نظيف دور رؤساء الوزراء الفنيين والخبراء. فللمرة الأولى فى تاريخ الحكومات المصرية، يتولى الرئاسة خبير تكنولوجي. والحال ان ذلك المنصب يرتكز الى التكليف، مما يبرهن جدية اداء الخبير في الوزارة. عُرف عنه الحسم في قضايا تكنولوجية عدة. ويتخوف بهضهم من تباطؤ الحسم في قضايا أخرى فى مجالات الاقتصاد. والواقع ان التعامل مع الكومبيوتر والإنترنت والمحمول، ومع العلاقة الوطيدة التي تربط هذه الاشياء بالمؤسسات الدولية، يمكن ان يخدم سعي نظيف لتعميم نجاح ما أنجزه في قطاع الاتصالات على بقية القطاعات. ولم ينتظر بعضهم اكثر من يوم واحد للقول إن اختياره غير موفق، خصوصاً فى هذا التوقيت. ويرى المنتقدون ان البلاد بحاجة إلى شخصية اقتصادية ووجه جديد. وروجوا للقول ان البلد يحتاج الى رغيف الخبز وليس إلى شريحة كمبيوتر، وان 47 مليون مواطن من محدودي ومتوسطي الدخل، يئنون من مشاكل لا حصر لها، مثل ارتفاع أسعار السلع الأساسية والبطالتين المباشرة والمقنعة وغيرها. حكم سلبي مبكر! عزز المنتقدون لتولي نظيف رئاسة الوزراء حكمهم السلبي على الحكومة الجديدة بالقول إن الدكتور عاطف عبيد، على رغم خبرته الطويلة فى المجال الاقتصادي والإداري وعلاقته القوية بالمؤسسات الاقتصادية الدولية، لم يحقق المرجو من حكومته، ولم ينفذ ما وعد به، إلا في القليل من القليل. فكيف سيكون الحال مع وزارة رأسها "خبير تكنولوجي"؟ ولم يكتف المنتقدون بذلك بل رأوا أن حكومة نظيف ربما لا تستمر حتى تشرين الأول أكتوبر المقبل، اي بعد الاستفتاء على ولاية جديدة للرئيس، فكأنه جاء لمرحلة انتقالية وقصيرة! والحال ان نظيف خبير اقتصادي بارز. يفكر بأسلوب متطور. ويعرف أنه يواجه مشاكل كبيرة، وقد رصدها. ويعلم أن عدم حلها سيضر بنجاحه في الوزارة. وتدرك غالبية الرأي العام والخبراء أن اختيار نظيف ليست مخاطرة من أصحاب القرار، إنما محاولة جادة لتعميم النجاح من مكان إلى أماكن عدة. وفي الوقت نفسه، لا ينبغي أن نفرط بالتفاؤل في هذا النجاح، فالأوضاع المتردية عالمياً أصابت اقتصادنا، والأوضاع المتردية داخلياً باتت جزءاً من واقعنا. من جهة أخرى على الدولة أن تزيل من أمامه العقبات البيروقراطية، لا أن تحجب عنه المعلومات.