الضفة الغربية لم تشهد حال تمرد صريح على سلطة الرئيس عرفات مثل ما يحصل في قطاع غزة منذ الجمعة الماضي. وهذا يظهر ان مطالب الاصلاح ومكافحة الفساد المرفوعة في القطاع ليست وحدها التي حركت التمرد. وما تشهده الضفة من مثل هذه الممارسات المشكو منها ليس اقل من تلك التي تستشري في القطاع. التشبيه الاكثر رواجاً للوضع في غزة هو برميل البارود، وذلك منذ سنوات كثيرة، وحتى قبل اقامة السلطة في اراضي الحكم الذاتي العام 4991. انفجر هذا البرميل هذه الايام فقط، لان القطاع يستعد للانسحاب الأحادي الاسرائيلي المقرر السنة المقبلة، ولأن تعبئة الفراغ الذي سينشأ عن الخطوة الاسرائيلية تقررها القوى على الارض. والاشتباكات مساء السبت بين"كتائب الاقصى"والامن الفلسطيني في رفح هي بداية تجربة القوى. يمكن لعرفات ان يقدم دلائل كثيرة، وهو الذي ما زال ممسكاً بالامن، على ان مسؤولين فلسطينيين سابقين وحاليين يتحدثون مع الاسرائيليين، وان هذه العلاقة تفيد الخطة الاسرائيلية في تقويض سلطته والتأثير على سياسته الرافضة للتنازل في القضايا الوطنية. ويمكنه، كما فعل في حالات كثيرة سابقة، ان يتهم بأنه عرضة لتحرك يصب في مصادرة القرار الفلسطيني. هذا الدفاع قد يكون مفيدا لتبرير الامساك بالوضع الداخلي، لكنه لم يعد يتناسب مع حجم التغير الكبير الحاصل في الداخل الفلسطيني منذ تطبيق اتفاقات اوسلو، خصوصاً نشوء قوى أخرى ذات وزن على الارض "حماس"و"الجهاد" والتبدل الكبير الحاصل في حركة"فتح". ولعل اهم ما حصل في"فتح"انها، وإن كانت نظريا العمود الفقري لمنظمة التحرير والسلطة، باتت على الارض، خصوصاً في القطاع، موزعة المواقف السياسية والولاءات ومصادر القرار. ولم يعد يمكن للممسك، نظرياً بقرارها السياسي، الاعتماد على صيغة الولاء المطلق السابق الذي شهدته الحركة منذ انشائها العام 5691. ولعل عرفات يرفض الاقرار بهذا التغير الكبير، ولذلك تبدو خطواته غير متطابقة معه، انطلاقاً من اعتبار ان اي دور يشغله آخرون سيكون على حسابه بالضرورة. ولذلك تبدو قراراته في الشأن الداخلي، من تعيينات واقالات وتراجعات عنها، تريد اظهار أمر ما وضده في آن. ولذلك لم يتمكن عرفات من التعامل، على نحو صريح، مع المبادرات الخارجة عن سلطته سواء تلك التي تمثلها قوى فلسطينية داخل"فتح"ومنظمة التحرير والسلطة او تلك الصادرة عن اطراف غير فلسطينية. لقد تعامل معها كلها على انها في اطار"المؤامرة"على وضعه الشخصي. وتعزز قناعاته تلك المعاملة الفظة واللاانسانية من حكومة ارييل شارون. لقد اهمل كل البيانات الفلسطينية، بغض النظر عن مصادرها، والتي حذرت من الفساد المحيط به واستشراء السلاح وخراب الاجهزة. كما اهمل التعامل مع مبادرات الانقاذ، الدولية والعربية، وآخرها المبادرة المصرية التي تكمن اهميتها في الربط بين الفراغ في غزة، بعد الانسحاب الاسرائيلي من جانب واحد، وبين قدرة السلطة الفلسطينية على الاستمرار. وليس من دون معنى ان يكون مصدر الاعتراض في القطاع عن جسم اساسي في"فتح"، ممثلا بمسؤول الامن الوقائي السابق وصاحب التجربة التي أُفشلت في وزارة الداخلية محمد دحلان والمتهم بعلاقة ملتبسة مع اسرائيل و"كتائب الاقصى"التي تنحو اكثر فأكثر الى العمل العسكري ضد الاحتلال. اي ان مصدر الاعتراض ليس بالضرورة نابعاً من توافق سياسي في اطار المفاوضات، في مقدار ما يعكس حال استياء كبير من اداء السلطة، ورغبة في رفض اساليب ادارتها في القطاع. وفي مثل هذه الحال، قد لا يكون مستبعداً ان يتشكل"تحالف"، لمواجهة التمرد الفتحاوي في غزة، بين انصار عرفات و"حماس"التي لا ترتاح الى صعود دحلان والتي تعتبر ان دعوتها الى قيادة مشتركة تلقى استجابة اكثر لدى الرئيس الفلسطيني الذي تلتقي معه على قواسم مشتركة حالياً اكثر من غيره، في اطار استراتيجية الانتظار. وهذا يعني ان"فتح"التي لعبت دور حزب السلطة، لم تعد تملك مقومات هذا الدور، نظراً الى التغيرات التنظيمية والسياسية التي شهدتها، ونظراً الى ان قوى اساسية فيها باتت ترى انه يمكنها ان تجد دوراً لها تستمد شرعيته من خارج الحركة. ر