الحالة الهستيرية التي يعيشها أنصار صدام والمدافعون عنه بعد تسليمه إلى القضاء العراقي ودخوله قفص العدالة تمهيداً لمحاكمته عن ملف أسود يُعد الأضخم في تاريخ المحاكمات، ويتضمن، على الأقل، سبع تهم رئيسية: 1- استخدام الغاز في حلبجة 1988، 2- قمع التمرد الشيعي 1991، 3- المقابر الجماعية 1991، 4- الحرب ضد إيران 1980-1988، 5- غزو الكويت 1990-1991، 6- قتل رجال دين شيعة 1980-1999، 7- قتل عشيرة البارزاني. هي حال تذكرنا بالحال التي انتابت قطاعاً عريضاً من المتعاطفين مع صدام، غداة سقوطه على يدي التحالف بعد مطاردة طويلة لأكثر من نصف سنة حيث قبض عليه في حفرة العنكبوت. ولو طابقت أسماء المدافعين عنه، الآن، باسماء المتعاطفين والباكين بالأمس، لما وجدت اختلافاً كبيراً. ولكن هذا الهوس بكيل الاتهامات المسيئة للقضاء العراقي ثم التدافع المحموم للإشادة بأكبر رموز الطغيان، والتحركات العبثية بين عمّان وطرابلس وباريس لا تصب في مصلحة موكلهم، ولا تدل على حال نضج لهؤلاء المحامين. وكما أساء أنصار صدام إليه بالأمس حين شجعوه على المضي على العناد والمكابرة، يسيئون إليه اليوم... فالهدف ليس الدفاع بمقدار تصفية حسابات سياسية. من يريد الدفاع عن موكله لا يشن حملة دعائية ضد الحكومة والقضاء العراقي، ثم يعقد مؤتمراً ليقول إن المحاكمة غير شرعية ولن نعترف بنتائجها، وانها محاكمة تقوم على شريعة الغاب، ولا شرعية للسلطة العراقية... ثم في الوقت نفسه يطالبون الحكومة العراقية والتحالف والصليب الأحمر بتوفير ضمانات أمنية كالتنقل في سيارات مصفحة. هذا تهريج سياسي وعبث يراد به الظهور الإعلامي وبخاصة أنهم وجدوا في عائشة القذافي خير ممول. نقابة المحامين في الأردن، دبّ فيها الحماس والحيوية للدفاع عن صدام، أين كانوا عن ضحايا صدام وهم بالملايين، لم نسمع لهم صوتاً؟ أين كانوا عن مروان البرغوثي وهو أمام محاكم إسرائيل؟ أين كانوا عن انتهاكات حقوق الإنسان؟ من حق صدام أن يجد من يدافع عنه من أبناء وطنه قبل الآخرين، فذلك أمر مشروع، ومن حق رغد أن توكل محامين للدفاع عن أبيها، فذلك واجب. وحق من تكريت المقهورة أن تبكي ابنها، فذلك مفهوم. ومن حق الدور وسامراء أن تتظاهرا مؤيدة لصدام وترددان الشعارات المنددة بمحاكمته، بل وتعتبرانه الرئيس الشرعي، فذلك، أيضاً، معقول. ولكن ما ليس مشروعاً ولا مقبولاً ولا معقولاً أن تتمسك زمرة المحامين، وهم ليسوا عراقيين وبعضهم من غير العرب، بالولاية الشرعية لصدام!! وما ليس معقولاً، أيضاً، أن يهدد الرشدان بأنه سيدخل العراق ولو بعملية فدائية!! ذلك تهور أو حماقة، ثم يصرح "الشرق الأوسط"5/7/2004 بأن حلبجة والمقابر الجماعية أكاذيب أميركية!! رجل حلبجة والمقابر، اعترف بنفسه بهما - وإن بررهما - ومحاميه من الآن ينفيهما. فكيف يضمن سلامته؟ وهل مثل هذا المحامي تأتمنه رغد على مصير أبيها؟ يشنون حملة كاذبة على القضاء العراقي ثم يطالبون بمحاكمة عادلة نزيهة لموكلهم!! إنه"لشيء مثل الكذب"كما يقول مأمون فندي. لقد أسقط في أياديهم عندما ذهبوا إلى باريس، إذ أعلنت أن محاكمة صدام شرعية، وتخبطوا - ثانية - حينما أعلن اتحاد المحامين العرب عدم جدوى أو قانونية مشاركة الاتحاد في الترافع، فانقسموا وانسحب بعضهم، ولكن الرشدان مصمم على الذهاب - فدائياً-!! هؤلاء لا يهمهم صدام بمقدار دوافعهم وأهدافهم السياسية، فمن الآن يكشف المحامي الفرنسي فيرجيس في تصريحه "الحياة"1/7/2004، بأنه إذا دافع عن صدام، فإنه سيتهم أميركا بالتواطؤ وارتكاب جرائم حرب، ولكن غاب عنه أن ذلك لا ينجي صداماً وصحبه، وكيف النجاة وقد تكاثرت الأدلة والاتهامات؟ أعدت إيران لائحتها، وهناك في الكويت هيئة للدفاع عن أهل الكويت، وهناك لائحة للأكراد غير لائحة الشيعة. وقد أعلن المدرسي أن لائحة الاتهامات الرسمية افتقرت إلى الاشارة إلى كثير من الجرائم، منها الاستيلاء على السلطة بطريقة غير شرعية واصدار قوانين جائرة واحراق المكتبات وتدمير المساجد وبخاصة في كربلاء. والمشكلة، كما يقول الربعي، ليست في تكاثر الأدلة والاتهامات، بل في ترتيبها، وقد وصلت إلى 27 ألف صفحة، مما يتطلب وقتاً طويلاً للمحاكمة سيستغلها صدام للتكلم في القضايا السياسية ومهاجمته الاحتلال والكويتوإيران والشيعة والأكراد وسيتظاهر بأنه اراد حماية العراق وفلسطين. وذلك كله يرضي اتباعه وأنصاره وبعض الفضائيات العربية وأصحاب الكوبونات، ولكن صدام سيكون هذه المرة في القفص، فهل يصمد طويلاً أمام عيون الضحايا التي تريد افتراسه؟ محاكمة صدام والزبانية ال11 ليست محاكمة لهم وحدهم، بل محاكمة نهج وأسلوب، وفصل كريه في حياة العرب، كما يقول الربعي، محاكمة مرحلة بنيت على شعارات جوفاء وانتصارات وهمية ووعود كاذبة، محاكمة للفكر السياسي العربي، كما يقول عبدالرحمن الراشد، ذلك الفكر الذي ساد واستوطن العقلية العربية عقوداً من الزمن مُنيت بالاخفاق والفشل الذريع في كل مناحي الحياة. هي محاكمة لثقافة سياسية عربية، فرّقت العرب وزرعت بينهم الشقاق وسوء الظن والنفاق. ثقافة لم تُحصن شبابنا أمام تيارات التطرف والإرهاب، وسرقت مستقبلهم وأسلمتهم إلى الموت والانتحار بحجة الشهادة والجهاد، فأصبح المواطن العربي قنبلة موقوتة ضد مجتمعه ونظامه. ثقافة ضاق بها العالم الذي أجمع أمره على ضرورة إصلاح أوضاع العرب حماية لمصالحهم وأمنهم بعد أن تكاثرت موجات الهجرة لشبابنا إلى أوروبا وأميركا وتفاقمت مشاكل الجاليات العربية والإسلامية هناك. إن صدام وصحبه سيواجهون نوعاً جديداً من العدالة لم يحلموا به أبداً، عدالة تلتزم بمعايير قانونية دولية. فتحية للقضاء العراقي على حرصه على توفير الضمانات اللازمة، وتحية لقاضي التحقيق الشاب الذي التزم بأدب القاضي الرفيع أمام من يهذي بذاءة في حق الشعب العراقي وجيرانه. * كاتب قطري.