المحامي، مثل اي مواطن، له الحق في أن يكون صاحب رأي سياسي، وأن يكون مناضلاً في حزب. هذا الحق مكفول في كل البلدان، بما فيها العربية، حيث تنص الدساتير والقوانين على مثل هذه الحقوق. وعندما يطغى الهم السياسي على وظيفته الاساسية كمحام، يتحول رجل سياسة. يَنتقد ويُنتقد، يخوض المعارك السياسية في بلده، في الحكم او المعارضة. بكلمة، يفقد احدى مقومات اخلاق مهنة المحاماة التي توجب الحياد ازاء السياسة وشعاراتها العامة، في ممارسة الدفاع عن موكله. اي ان تعامله مع القوانين التي تطبق في حالة موكله، هي التي تحدد مدى المسؤولية التي تقع تحت طائلتها، وليس الموقف السياسي من الموكل. واحياناً يجد المحامي نفسه ملزماً، بحكم اخلاق مهنته، الدفاع عن موكل لا يتعاطف معه شخصياً او سياسياً. في هذا المعنى، لا يمكن ان تلحق بالمحامي صفة. فهو ليس ليبرالياً او يسارياً او ديموقراطياً او اسلامياً او رجعياً الخ... انه محام فحسب يتولى الدفاع عن موكل بما تتيح له قدرته على اقناع المحكمة بتخفيف العقوبة القانونية وصولاً الى البراءة. وظيفته ان يحل محل موكله الذي لم تسعفه الظروف بأن يكون مثل محاميه ضليعاً بالقوانين. هذه البديهيات التي تدرس في السنوات الاولى في كليات الحقوق غابت تماماً في هبات "وطنية وقومية" لمحامين عرب. ربما لأنها هبات حجبت عنهم معنى المسؤولية القانونية. لكن، في العمق، حجب طغيان الشأن السياسي الرؤية امام الشأن القانوني. قد يتذرع المحامون العرب الذين هبوا للدفاع عن الرئيس العراقي السابق صدام حسين بأنهم مثل ذلك المحامي الفرنسي الذي جاء من باريس للدفاع عن اركان في النظام العراقي السابق. لكنهم لم يتوقفوا عند كون جاك فيرجيس قبل توكيلاً رسمياً من أسرة المطلوب الدفاع عنهم، ولم يهب متبرعاً بخدماته. كما انه ليس من الذين شدّتهم يوماً الشعارات الوطنية والقومية التي رفعها النظام العراقي السابق. اشتهر فيرجيس بالدفاع عن متهمين في قضايا جنائية - سياسية، من اقصى اليسار وصولاً الى نازيين. لكنه لم يعلن يوماً انه يدافع عن رأي سياسي يمثله احد موكليه، أو أنه وافق على المرافعة في قضية لأنها تمثل رأياً سياسياً يرغب في الدفاع عنه. وذلك على رغم تعاطفه المعروف مع قضايا العالم الثالث والذي لم يؤثر يوما في اختيار موكليه. اما الهبة العربية للدفاع عن صدام، خلال محاكمته المقررة، فانطلقت من الشعار القومي لتبرير الممارسة السياسية. فصدام، هنا، ليس رأس النظام العراقي المسؤول عن انتهاكات واسعة للحقوق الاساسية وعمليات قتل فردي وجماعي. انه عدو اسرائيل والولايات المتحدة. ويكفي هذا العداء، بحسب الهبة العربية، لاعتبار ان الرجل بريء. واذا ما سئل صدام مثلاً، امام المحكمة عن ضرب حلبجة بالسلاح الكيماوي، قد يرد احد محامي الدفاع، من أهل الهبة، بأن صدام مناضل كبير ضد الصهيونية الى حد أنه هدد بحرق اسرائيل ب"المزدوج الشهير"، وهذا الموقف العربي الشهم يلغي تهمة حرق مواطنيه بالكيماوي. واذا ما سئل صدام عن المقابر الجماعية، قد يرد آخر، من أهل الهبة، بأن الرجل صمد صمود الابطال في وجه الهجمة الاميركية الشرسة على العرب والمسلمين، ولن تؤثر مثل هذه الممارسات في موقفه البطولي. ان هذا الخلط لا يبرر الجنائي بالسياسي، ويشوه المستويين معاً، فحسب، وانما يلغي المسؤولية التي هي اساس فكرة القانون والدولة. وشهدنا مثل هذا الخلط، قبل ان تُطرح محاكمة صدام، في قضايا كثيرة لامست السياسة في اكثر من بلد عربي. وعندما يصل محامون عرب، من أهل الهبة، واتحادهم المدعوم من اتحادات مهنية اخرى، الى هذا المستوى من الخلط والى هذا الحد من تجاهل البديهيات، يمكن ان نقترب من فهم هذا الخلل العضوي الذي لا يزال يشدنا، افراداً ومجتمعات، الى الوراء. لأننا لم نكتشف بعد أن ثمة مكاناً لعمل رجال القانون غير تعقب المعاملات وغير الايديولوجيا.