الرمز عرفات قتلته خطة اسرائيل للانسحاب من غزة... اسرائيل سجان كبير، والجميع في القطاع، متمردون وممالئون ورواد مصالح انتهازية، وأصحاب مفاتيح الأمن المجيّر لأجهزة حوّلت فلسطين الدولة الحلم الى دكاكين ارتزاق... الجميع سقطوا في فخ شارون، وشرك تردد الرئيس. ... أخيراً حلم شارون يتحقق، وبعدما كسر عظم الانتفاضة، ها هو يشهد انتحار عرفات الرمز، انتحاراً سياسياً على أيدي الذين اختارهم لحماية سلطته. وفيما كان دائماً يردد أنه يشاهد من بُعد القدس، لتكون يوماً عاصمة للدولة، اعتصم أرباب الأجهزة الذين صنعهم وراء صراعات"الزواريب"، تحت شعارات لم تبنِ بيتاً لمشرد في غزة، ولم تطعم رغيفاً لفقير في جنين ورام الله. وربما لا يخلو من بعض الظلم تذكّر الخطيئة التي سجن الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين نفسه وشعبه بين جدرانها، تحت سقف الأوهام، حتى شذ عن كل عقل، وهو يقرأ متغيرات العالم، بما فيه القوى النامية والقوى العظمى والقوة الوحيدة، بعين"الفارس الوحيد"الآتي من تكريت، ليقود العراق كله الى جهنم حروب ودمار وخراب، غباره يشيع في الأمة. بعض الظلم في مقارنة عرفات بصدام؟ ربما، لكن ما لم يدركه الرئيس الفلسطيني أبداً، ان لكل قرار متأخر ثمناً، وان السكين لا تأتي بالضرورة من شارون وحده. دحلان أم غيره، لا يهم، فالواقع ان رئيس الوزراء الاسرائيلي حين سجن الرئيس الفلسطيني في مقره في المقاطعة، غذى عزلته عن العالم، عن غزة والضفة، بل عن ذراعه"كتائب الأقصى"نفسها، فبات لا يسمع إلا من يصفق له، وكثيرون ممن صفقوا كانوا ينتظرون نهايته، طمعاً بحصة. آخرون، خارج الضفة وغزة، كانوا ينتظرون أدواراً، على جثة الزعيم الرمز، لكن ذلك لا يعفيه مع كل مستشاريه من مسؤولية الفشل في الاعتراف بالوقائع، والفشل في اجتراح حلول تأخرت كثيراً، وكانت تتطلب بالضرورة اجراءات قيصرية... ليس لحماية السلطة فحسب، فهي انهارت منذ زمن، بل لحماية ما تبقى من القضية. ألم تُصِب صحيفة"يديعوت احرونوت"في اختيار الوصف الملائم لنهاية سلطة ورمز، حين كتبت ان"حلم شارون يتحقق أمام عينيه"؟ بديهي أن يتشفى زعيم حاخامات"ليكود"، وكثيرون من الاسرائيليين الذين يستطيعون منذ الآن رد الفضل في تفتيت سلطة عرفات، وعرفات الرمز"الأبدي"، الى شارون نفسه الذي طارده منذ حصار بيروت، سنوات طويلة، كأنه قدره، حتى سجنه في المقاطعة. هناك لم يترك له سوى نصائح المستفيدين والانتهازيين، ليحطم صورته ورصيده في العالم بسلاح الفساد. نهاية مأسوية، لكنها نتيجة حتمية للجبن أمام الحقائق، أو رفض الاعتراف بها، رغم كل سوداويتها. كان من حق شارون، بحسابات الاسرائيليين أن يستنزف العدو بكل وسيلة، ان يحرق كل أوراق المقاومة، أن يشيع الشكوك والهواجس بينها وبين السلطة الفلسطينية، فلا يطمئن عرفات الى ورقة المعارضة، بل يستخدمها في مواجهة ضغوط اميركا واسرائيل، بحسب رياح"المقاطعة". ولكن، هل كان من حق الرئيس المعزول في المقاطعة، أن يسجن السلطة في أوهام الثورة، بالأحرى مرحلة الثورة، حين كانت التنظيمات الفلسطينية محاصرة بحسابات المصالح العربية؟ هل كان من حق تلك السلطة أن تبني رصيدها كله على الشكوى من وحشية شارون؟... وألا تعترف باهترائها، طالما عرفات قادراً على التغاضي عن توزيع رموز الفساد موارد"الدولة"حصصاً، والهائهم الشارع بمعارك كلامية مع الاحتلال الاسرائيلي، وبغطرسة الجبن في الاعتراف بكارثة عسكرة الانتفاضة في الزمن الخطأ؟ ما يحصل في غزة، ليس بداية النهاية، بل نهاية الفصل الأخير في عمر سلطة يعرف الفلسطينيون ان صراعاتها جلبت لهم الويلات، ولو نددوا بكل أقوال شارون ونياته. والنكبة الكبرى التي ربما تعادل نكبة 1948، ان عرفات نفسه باصراره على الترفع عن الإصغاء، لم ينحر نفسه كرمز فحسب، بل ابتعد كثيراً ومعه جميع الفلسطينيين عن أسوار القدس، وحلم الدولة. السلطة قتلت الحلم، وداعاً عرفات، شارون يحتفل.