مرض عرفات الخطير، حيث يرقد في مستشفى في باريس في حال الاحتضار ان لم يكن قد توفي بالفعل، كان متوقعاً عاجلا أم آجلاً نظراً الى تاريخه الطويل من الأمراض. مع ذلك، هناك علامة استفهام كبيرة عن سبب وضعه الحالي، مع اشاعات قوية بين الفلسطينيين عن تعرضه للتسميم من جانب اسرائيل. الأدلة على ذلك ظرفية فقط، والأرجح انها من صنع الخيال، في أجواء العداء والتشكك بين الفلسطينيين والاسرائيليين. مع ذلك فالاحتمال يستحق الاهتمام، على الاقل لتذكيرنا بأن ليس هناك ما يمكن استبعاده عند التعامل مع اسرائيل. اذ لا بد أن نستعيد في هذا السياق التهديدات المتكررة من شارون ووزرائه بقتل عرفات، وهي ليست بالتهديدات الفارغة أخذاً في الاعتبار سياسة الاغتيالات التي تمارسها اسرائيل منذ زمن ضد قادة الفلسطينيين. ان تاريخ الجاسوسية مليء بمحاولات الاغتيال بالتسميم بمواد يصعب التعرف عليها. هذه المواد توفرها الأبحاث في برامج التسلح الكيماوي، الحقل الذي أحرزت فيه اسرائيل تفوقاً كبيراً. وكانت صحيفة"فاينانشال تايمز"نقلت في 6 / 11 عن مسؤول أمني فلسطيني كبير عدم استبعاد تعرض الرئيس الفلسطيني للتسميم، وهو ما كرره أيضاً رئيس الوزراء أحمد قريع. كما تحدثت تقارير لم تتأكد عن تحقيقات جرت مع الطهاة في مقر الرئيس الفلسطيني. من بين ما أثار اشاعات التسميم كان فشل الأطباء الفرنسيين حتى الآن في تشخيص مرض عرفات، ولم يصدر عنهم منذ ذهابه الى باريس سوى بيانات مقتضبة قليلة لا تحمل ما يذكر من المعلومات. ما سبب هذا التكتم؟ لم نستطع، زملائي الأطباء أو أنا، ايجاد مبرر مقنع له، خصوصاً أن المعتاد في حال عدم التوصل الى تشخيص أكيد اعطاء معلومات عن الأعراض وطبيعة الفحوص الجارية والفرضيات التي يجري التحقق منها. أما القول بأنه في غيبوبة فلا يعني الكثير. وكانت صحيفة"جيروزاليم بوست"ذكرت في عددها ل4 / 11 أن الصحافي الاسرائيلي أوري دان، المقرب من ارييل شارون، تحدث عن"تخلص"رئيس وزراء اسرائيل من ياسر عرفات"عن طريق الطهاة". كما اعلنت مصادر الاستخبارات الاسرائيلية في الثاني من الشهر الجاري، متزامناً مع التقارير الأولى عن اصابة عرفات بمرض خطير، انه سيموت خلال أيام أو في أحسن الأحوال بضعة أسابيع. ربما كان هذا مجرد تعبير عن تطلع الاسرائيليين الى موته. لكن السؤال من منظور اليوم هو: هل كانوا يعرفون شيئاً يجهله كل من سواهم؟ وذكرت مصادر على الانترنت أن الأطباء الفرنسيين ارسلوا عينات من دمه للفحص عن سموم. فيما نقلت"القدس العربي"في 8 /11 الخبر نفسه، مشيرة الى أن العينات ارسلت الى مختبرات في الولاياتالمتحدة. وعبّر الزعيم النيكاراغوي دانيال أورتيغا عن الاعتقاد بأن الاسرائيليين سمموا الرئيس عرفات. لا غرابة اذن في ان يخشى الفلسطينيون أن زعيمهم أصبح آخر ضحية للاغتيالات الاسرائيلية. اذا صح هذا فالاحتمال الأبشع أن الاسرائيليين حرموه من العقار المضاد الذي كان يمكن ان ينقد حياته. اننا نعرف من وجهة النظر الطبية ان الطبيب لا يفترض وجود تسمم إلاّ بعد أن يرى ما يثير شكوكه، ليجري الفحوص بعد ذلك ويحدد العقار المضاد المطلوب. اي أن التحقق من وجود تسمم ليس أمراً تلقائياً، واذا لم يفكر به الأطباء الفرنسيون أو لم يدركوه إلا متأخراً فلن يقوموا بالفحوص اللازمة في الوقت المناسب، ومن هنا ستبدو حال المريض، مثلما لدى عرفات حالياً، غامضة وغير قابلة للعلاج. السابقة التاريخية التي تأتي الى الذهن هي حالة نابليون بونابرت عندما سجنه البريطانيون في جزيرة سان هيلانة. فقد مات في ظروف غامضة جراء"مرض في المعدة"كما زعموا وقتها، ثم سادت الشكوك في انه تعرض للتسميم من جانب البريطانيين بعدما أصبح عبئاً عليهم. وهناك من زعم أن شارون وجورج بوش أنذرا عرفات بالموافقة على خطة الانسحاب من غزة بنهاية الشهر الماضي أو"ستأتي نهايته". ورفض عرفات الاختفاء عن المسرح جسدياً أو سياسياً، وأصبح، لكونه الزعيم الوطني الذي يوحد الفلسطينيين، عقبة أمام خطة شارون لفلسطين. اذا كان شارون قد قتل عرفات، بالتسميم أو من خلال ابقائه سجين المقاطعة في ظروف صحية بالغة السوء، فهو لن يزيد على أن يكون وسيلة القتل. أما القتلة الحقيقيون فهم نحن كلنا: كل الذين اهملوه أو شاركوا في تشويه سمعته، والانتهازيين والطامحين الى الحلول محله، والذين تناسوا عمداً أو لم يدركوا أصلاً مساهمته الفريدة في الكفاح الوطني، والمتقلبين الذين تخلوا عنه ما ان اشتموا رائحة الهزيمة، ومتملقي أميركا الموافقين على ما تريده للفلسطينيين، والذين وقفوا مكتفي الأيدي أثناء تعرضه للمهانة. الاهانات التي انهالت على عرفات كان لها تأثيرها، وليس فقط في الغرب، منذ أن بدأت اسرائيل حملتها الشرسة لاضفاء صفة الشيطانية عليه، ساعية الى جعله، في الوقت نفسه"بلا معنى"، ولكن أيضاً المسؤول عن"الارهاب"الفلسطيني وفشل عملية السلام. انه الزعيم المنتخب، لكنه تعرض لمهانة لم يكن لأي زعيم منتخب التعرض اليها من دون عاصفة دائمة من الاحتجاج، عندما سجن في مقره المتداعي بفعل القصف الاسرائيلي. وأصبح اعتقاله بالتدريج أمراً مقبولاً، فيما انصاع زملاؤه من دون احتجاج الى تنحيته لصالح"رئيس وزراء"فلسطيني غير منتخب اختير من بين صفوفهم. للخرافة القائلة بأنه العقبة الرئيسية أمام السلام وما يسمونه الاصلاح الفلسطيني تأثيرها في بعض الدوائر الفلسطينية، التي تركز انتباه الجميع الآن على الوضع الفلسطيني الداخلي بدل بشاعات الاحتلال العسكري - وهو بالضبط ما يريده الاسرائيليون والغرب. انها الحالة الوحيدة في تاريخ العالم التي تجري فيها مطالبة شعب محتل ب"اصلاح"نفسه تحت ظروف الاحتلال. وهناك الآن، مع قرب مغادرة عرفات لساحة المعركة، من يتكلم عن فرصة جديدة للسلام، وكأنه كان دوماً العقبة أمام السلام. باختصار: التهجم على عرفات أصبح موضة، وليس في الغرب وحده، حيث كان التهجم بمثابة الرياضة التقليدية، بل أيضاً لدى العرب والفلسطينيين. ولم يعد الحكام العرب يشعرون بالحاجة الى معاملته حسب الاعراف والآداب الديبلوماسية. كما يحمله عدد متزايد من منتقديه الفلسطينيين مسؤولية قائمة من الأخطاء والنكسات، حتى تلك التي تورط فيها غيره. لقد أصبح الهدف المفضل لكل من يحمل شكوى أو ظلامة مهما كان سببها، ولكل الفاشلين الذي يجدون العزاء في تحميله مسؤولية فشلهم. هؤلاء سيفتقدون عرفات عند اختفائه عن المشهد أكثر من محبيه. القضية ليست ان ياسر عرفات من دون اخطاء أو ان علينا التغاضي عنها. ان على شعب ما ان ينتقد زعماءه ويطالب بالاصلاح عندما تدعو الضرورة. لكن يجب عدم السماح لاعتبارات كهذه أن تطمس دور اسرائيل التخريبي القاتل في كل هذا، أو أن تنكر لعرفات أهميته الفريدة والمكان اللائق به في التاريخ الفلسطيني. لقد كان انجازه الأكبر فرض قضية فلسطين على المشهد العالمي في ذلك الوقت الذي بدا فيه انها اودعت مزبلة التاريخ. ففي بريطانيا الخمسينات، حيث كانت نشأتي، كادت حتى كلمة"فلسطين"أن تختفي تماماً، فيما لم يعد لشعبها من اسم غير ذلك الوصف التعميمي -"اللاجئين العرب". انها المرحلة التي لم تعرف شعباً أو قضية غير قضية اسرائيل وشعب اسرائيل. وكم اشتعلنا حماساً في منافينا عندما رأينا عرفات يحظى بقبول واحتفاء المجتمع الدولي عندما القى خطاب"البندقية والزيتون"في الأممالمتحدة في 1974، وكم كان اعتزازنا باعتراف العالم بالفلسطينيين كشعب له حقوقه. لقائي الأول به كان في بيروت في 1976 عندما كانت منظمة التحرير الفلسطينية في أوجها، وجذبتني فوراً شخصيته الساحرة وتواضعه وذكاؤه الحاد. كان أبعد ما يمكن عن صورة الشرير التي سعت اسرائيل الى تروجيها في الغرب. الانجاز الذي حققه أثناء رئاسته لمنظمة التحرير كان أشبه بالمعجزة: لمّ صفوف شعب مشتت يعيش 60 في المئة منه في المنفى واحياء روح الانتماء فيه على رغم البعد عن الوطن. أما الغربيون الذين يركزون على مظهره المفتقر الى الاناقة وضعف لغته الانكليزية فهم لم يفهموا ابداً مدى حب شعبه له، خصوصاً سكان المخيمات الذين تبنى قضيتهم، واعجابهم بحكنته السياسية في الساحة العربية المليئة بالمخاطر والتقلبات. خسارة عرفات لن تعوَّض. وهذا هو ما تدركه الأسرة الدولية جيداً، كما برز من خلال تلك الموجة الكبرى من النشاط الديبلوماسي والاعلامي في انحاء العالم منذ أن اذيع نبأ مرضه. انه قدر من الاهتمام يصعب تصوره في حال مرض شارون أو أي اسرائيلي آخر. الواضح ان عرفات يبقى قطب الرحى في الصراع العربي الاسرائيلي بالرغم من كل جهود اسرائيل لجعله"خارج الموضوع". وهو بالنسبة لفلسطينية مثلي الرمز الدائم لكفاحنا والأب لشعبنا. انه قائدنا منذ أربعين سنة، الذي لم يعرف كثيرون منّا قائدا غيره. وهو يختلف عن بقية القادة العرب في افتقاره الى الحياة الخاصة، وذلك رغم تزوجه وسعادته بطفلته، والى سكن أو هوايات - اذ لا اهتمام ولا شغف له الاّ بفلسطين. وفي الوضع الخطير الذي يعيشه الفلسطينيون اليوم، مع استمرار الاحتلال الوحشي وتناقص الأراضي والتشرذم يبقى عرفات رمزا يؤكد وحدة القضية الفلسطينية في وجه مساعي اسرائيل الى تفكيكها. المفارقة هي ان شارون يفهم هذا أفضل من أي من تلك الموجة الجديدة من فلسطينيي"آخر زمان"الرافضين لعرفات ويريدون"فتح صفحة جديدة". ومن هنا حاجة شارون الى تدمير عرفات، وليس كشخص بل كذلك الرمز للشعب الفلسطيني. بدأت هذه العملية مع اتفاق أوسلو وانتقال عرفات وقيادة منظمة التحرير من تونس الى الداخل الفلسطيني في 1994، وما عناه ذلك عملياً من ترك الغالبية الفلسطينية في الشتات ومخيمات اللجوء دون قيادة، وهو ما يعانيه فلسطينيو الخارج الى اليوم. وجاء هذا التفريق المؤلم ليلبي مطمحاً اسرائيلياً قديما لتقليص مشكلة فلسطين من قضية وطنية الى محلية وازالة مسؤولية اسرائيل عنها. وأملت اسرائيل ان عرفات، اذا سارت الأمور كما يرام، سيتحول الى مختار لقرية، مع ترضيته بمظاهر الدولة، لكن من دون أراضٍ فعلية، والتخلص بذلك الى الأبد من حق العودة. لعبة"الدولة"هذه نجحت الى حد ما، اذ صدق الفلسطينيون تحت الاحتلال بأن لديهم دولة في طريقها الى الظهور. لكن كان من الخطأ كما اعتقد الذهاب الى حد تشكيل برلمان وحكومة واتخاذ علم وجواز سفر وغير ذلك من مظاهر الدولة أثناء استمرار الاحتلال. لأن ذلك جعل السلطة الفلسطينية كبش الفداء الرئيسي في ما يتعلق ب"الارهاب"الفلسطيني وخلق لدى الغرب انطباعاً كاذباً بتساوٍ حقيقي في القوى والمسؤوليات بين السلطة واسرائيل. ومهما كان الأمر، فقد سقط الفلسطينيون في فخ تلك الدولة التي ليست دولة وعلى رأسها عرفات. وعندما رفض التنازل عن القدس وحق العودة اعتبرته اسرائيل"عقبة على طريق السلام"وان من الضروري استبداله بقائد فلسطيني أكثر تجاوباً مع رغباتها. ربما كان على عرفات التنازل عن السلطة لزعيم أصغر سناً ومغادرة المشهد مرفوع الرأس. ربما كان عليه التصرف في شكل مختلف في كثير من الأمور الأخرى. لكن هذا ليس وقت استعادة أخطائه ونواقصه. كما على الفلسطينيين أن لا يظهروا كجزء من حملة اسرائيل للانتقاص من عرفات واهانته، الحملة التي لا تحترم رجلاً يرقد على فراش الموت. ان على الفلسطينيين ان يقاوموا بشدة مساعي اسرائيل لدفنه في غزة لأن القدس، حسب وزيرها العنصري يوسف لبيد"مدفن ملوك اليهود وليس الارهابيين العرب". انه بالنسبة الى الفلسطينيين وقت الحداد على رجل يستحق نهاية أفضل من الوفاة بعيداً عن أرض الوطن ومن دون اكمال المهمة، مع التعرض للسخرية والعزل. وبدل الصراع على من سيخلفه حان الوقت للوقوف بإجلال لواحد من قادة العالم العظام، ولقائد وطني لم يتوقف طوال حياته عن الصراع من أجل قضيتنا وضمن لنا الحضور في المشهد العالمي والأمل في المستقبل. * طبيبة وكاتبة فلسطينية مقيمة في بريطانيا.