عادة جديدة وطيبة هي تلك التي باتت عليها السينما اللبنانية. انتاجها قليل نعم. انتاجها فقير بالتأكيد. هي كاليتيم على مائدة اللئيم من دون شك، لكنها على رغم هذا كله تنتج مرة كل عام أو كل عامين شريطاً يحقق كل أنواع النجاح ويجمع من حوله النقاد والمهرجانيين، وفي أحيان كثيرة جمهوراً كبيراً من متفرجين متحمسين. شرائط تصنع بقروش قليلة ومن اسماء مجهولة تماماً ومن دون نجوم ومن دون صخب اعلامي كبير... ثم تحدث المفاجأة: جوائز في مهرجانات ذات قيمة، مقالات ودراسات لا تتوقف واحلام بمستقبل سعيد لصاحب العمل. صحيح يستغرق صاحب العمل وقتاً طويلاً قبل ان يكرر محاولته، أي قبل أن يحصل على مال يكفيه للتكرار ولكن حتى هذا لا يردع آتين جدداً من خوض التجربة. نقول هذا وفي ذهننا أسد فولاذكار و"لما حكيت مريم" وبهيج حجيج و"زنار النار" وسمير حبشي و"الإعصار" أولاً ثم فيلمه عن السيدة نظيرة جنبلاط "سيدة القصر". ونقول هذا ايضاً وفي ذهننا عشرات المحاولات في أفلام قصيرة ومتوسطة معظمها لا ينقصه شيء ليكون فيلماً كبيراً أو ليعد بأن يكون لأصحابه أفلام كبيرة. دانيال عربيد من هؤلاء الاخيرين. كانت برزت خلال السنوات الأخيرة ببضعة أفلام متوسطة وقصيرة الطول ولكن في حلقات النخبة والهواة لا أكثر. في ذلك المناخ حققت نجاحات ونالت جوائز لكن هذا لم يدفعها الى الواجهة، فكان عليها أن تنتظر فيلمها الروائي الطويل الاول لتحققه وسط صمت شديد ثم تعرضه في "كان" وسط تواضع اشد منتقلة به الى مهرجان السينما العربية في باريس حيث بدا واضحاً منذ ردود الفعل الاولى على عرضه أنه "لن يخرج من المولد بلا حمص". بل كان واضحاً أن جائزة كبرى ستكون من نصيبه وبالفعل حصل على الجائزة الكبرى، مجسداً بذلك نجاح سينما لبنانية شابة صادقة أنيقة متقشفة وذات فاعلية في الوقت نفسه. الجانب الآخر من المدينة الفيلم هو بالطبع "معارك حب". وهو فيلم تحدثنا عنه كثيراً على صفحات هذا الملحق وبالتأكيد سنتحدث عنه أكثر حين يعرض جماهيرياً. أما هنا فنفضل أن نتحدث الى صاحبته التي عرفت على أي حال بقلة كلامها. بالنسبة الى دانيال عربيد كل ما يجب أن تقوله عن الفيلم موجود داخل الفيلم نفسه. موجود من خلال حكاية لينا الصبية التي تقف عند عتبة المراهقة، تعيشها في الجانب الشرقي المسيحي للأسف بحسب تعابير تلك المرحلة من بيروت أوائل الثمانينات حين كانت الحرب مندلعة على اشدها والناس يموتون والعائلات تتفكك والوطن يضمحل. إنها الفترة نفسها التي كانت فيها دانيال عربيد نفسها على أعتاب المراهقة. أما لينا بطلتها وربما أناها - الآخر أيضاً فعاشت تلك المرحلة من خارجها ومن داخلها في آن معا. من داخلها لأنها كانت ترصد كل ما يحصل من حولها. تشاهد التفكك والدمار والموت. ولكن من الخارج أيضاً حيث أن همها كان تفتح احاسيسها ووعيها للحب والحياة من خلال علاقتها بالخادمة السورية سهام. كل الفيلم مبني من حول هذه العلاقة المبنية في شكل يضع لينا على تماس مع ذاتها، مع مشاعرها واحاسيسها. وهذا بالتحديد ما صورته دانيال عربيد في شكل متميز وأثار الاعجاب أكثر مما أثاره وصفها للحرب ولو فعلت لما جاء فيلمها بأي جديد طالما أن الحرب اللبنانية عولجت الف مرة من قبل. اذن، من اين اتت دانيال عربيد بفكرة الفيلم؟ ولماذا قررت اليوم دخول عالم الافلام الروائية بعد تجربة طويلة مع الافلام التسجيلية؟ تجيب دانيال: "لا يولد الفيلم بالنسبة الي من فكرة انما من احساس، وفي شكل عام انطلاقاً من احساس عنيف. أما فيلمي الروائي الأول "معارك حب" فيصور القسوة داخل العائلة وصراع المراهقة. هو ليس فيلماً عن الحرب، وان كان زمنه ابان الحرب اللبنانية، اذ أن أحداثه ممكن أن تتم في اي مكان آخر وزمان مختلف، في أي بلد يعيش السلام أيضا. الحرب في الفيلم ديكور لا أكثر. لا نراها... فقط نسمعها، لكون أبطال الفيلم يعيشون وسطها. في هذا الفيلم تدور القصة من وجهة نظر داخلية وخاصة من خلال عيني "لينا" ابنة الاثني عشر عاماً حول يوميات عائلة، يوميات هي من الفوضى الى درجة تفوق فوضى الحرب". وبالفعل ليس فيلم دانيال عربيد فيلماً عن الحرب، ذلك أن الحرب لا تشكل فيه سوى خلفية الأحداث التي يتكون منها الموضوع: حكاية "لينا" بطلة الفيلم، تكاد تكون مرتبطة في شكل أو آخر بسيرة دانيال عربيد الشخصية، هذا اذا ما افترضنا أن لينا ما هي الا صورة من المخرجة نفسها. "بالفعل الفيلم هو سيرة ذاتية"، تقول عربيد، وتضيف: "علماً أنني لا أروي فيه قصة حياتي انما فقط بعض المشاعر التي خالجتني في مراحل معينة. أما بالنسبة للأحداث فقد احتفظت بجزء منها واضعة مفاتيح في الفيلم من دون اقتحام الابواب. فأنا من عائلة ممثلين وعمتي هي شخصية في الفيلم، أما الباقي فلا يهم لأنني أنا نفسي اليوم أشك في ذكرياتي كما لم أعد متأكدة من صحة بعضها. أن أصنع سينما أمر في رأيي أكثر اهمية من رواية قصة حياتي. في أفلامي الأحاسيس تحتل المرتبة الأولى، اضافة الى الفن والطريقة التي استخدمها لايصال ما أريده الى الجمهور". حرب وسياسة جال فيلم دانيال عربيد "معارك حب" في مهرجانات عدة ونال الجائزة تلو الجائزة، والسؤال ماذا يعني هذا الأمر بالنسبة لسينمائية شابة مثل دانيال عربيد؟ تقول دانيال: "حتى الآن لاقى الفيلم ترحيباً جيداً حيثما حلّ. في مهرجان "كان" برز الفيلم بين نخبة من الأفلام المختارة في "أسبوعي المخرجين" حيث نال جائزة أوروبا. وهي جائزة تدعم تسويقه متى خرج الى الصالات في كانون الثاني 2005. في معهد العالم العربي في باريس، تميز الفيلم أيضاً بنيله الجائزة الكبرى وجائزة الموزعين. أنا سعيدة جداً بهذه الجوائز لكونها تسمح للفيلم بالوصول الى جمهور الشرق الأوسط والمغرب، كما تعطي الرغبة في اكتشافه. ومع هذا يتابع "معارك حب" طريقه المهرجانية قبل عروضه التجارية إذ عليه طلب قوي في شكل خاص من عدد من مهرجانات العالم، الأمر الذي يشعرني بنشوة كبيرة". من يتابع مسيرة دانيال عربيد يرى أن الحرب والسياسة لطالما كان لهما دور بارز في أفلامها، فهل أضحى ذلك هاجساً لديها أم هو مجرد تعويذة تخرج همّ الحرب من داخلها ؟ تجيب: "غموض كبير واجهته أثناء وجودي في لبنان في زمن الحرب.. فأن تكون وسط المخاطر يجعلك دائم الدوخان، وهذا هو تحديداً الشعور الذي أعبر عنه في الفيلم. من جهة اخرى أنا لا أكترث للسياسة، اذ لا أملك أي معرفة أو فهم أو منطق في هذا المجال. الى درجة أنني في أفلامي الوثائقية أعيد كل شيء الى تجربتي الخاصة. فأنا أصور فقط ما أعرفه: ولدت في قلب الحرب في أسرة خاصة وكما الكثير من المراهقين في هذا العمر اكتشفت موسيقى الروك أكثر مما اكتشفت السياسة وأبعادها الايديولوجية. إن العناصر - التي نجدها في الفيلم - سجلت رؤيتي للحياة وهي تعبر عما لدي من ميل الى النظر الحاد الحاسم الى الأمور، وهذا، مما لا شك فيه، سبب حبي لصناعة الافلام، وذلك كي أصحح هذه العلاقة المليئة بالشغف مع العالم". اليوم تعيش دانيال عربيد بعيدة عن الوطن فهي تقيم في فرنسا منذ ما يقارب السبعة عشر عاماً، والسؤال: هل تسعى الى البقاء في فرنسا أم تريد الرجوع الى الوطن والمشاركة في نهضة سينمائية باتت اليوم ممكنة بعد سلسلة النجاحات التي تلاقيها الافلام اللبنانية في الخارج؟ تجيب: "قضيت نصف حياتي في فرنسا. وأنا اعيش حالياً في باريس وأبغي البقاء هنا لكوني أعتبر نفسي فرنسية مثلما أنا لبنانية. في المقابل أقصد لبنان في شكل مستمر حيث من ضمن نشاطاتي هناك اشارك في ادارة مهرجان "ولد في بيروت" الذي يقع في شهر آب أغسطس من كل سنة. في هذا المهرجان السينمائي نختار افلاماً لسينمائيين لبنانيين شباب كما أننا نعيد الاعتبار الى أفلام قديمة ونحاول ان نبث نفساً طليعياً في عالم صناعة الأفلام السينمائية، وتحديداً من خلال برمجة فنية ذات نوعية مميزة". وفي النهاية ماذا عن المشاريع المستقبلية والى أي مدى ستخدمها الضجة التي أثيرت حول فيلمها الطويل الاول في ايجاد تمويل للفيلم المقبل؟ تجيب عربيد: "أنا الآن في صدد كتابة مشروعين جديدين. حتى الآن لم أواجه مشاكل لتمويل أفلامي. وفي النهاية آمل أن تبقى رغبتي في صناعة سينما دائماً في ذروتها، كما اتمنى أن أتمكن من نقل هذا الشعور الى المؤسسات التي تمولني والأشخاص الذين أعمل معهم".