عندما صدر كتاب ادوارد سعيد "الاستشراق"، وعندما نُقل على وجه الخصوص، الى العربية، ووجه بردود فعل مختلفة، وجرى التعامل مع نصه بأشكالٍ متباينة من المواقف، بل العواطف. يمكن أن نرصد في سلسلة هذه المواقف حدّين أقصيين متناقضين: موقف بعض الكتّاب الأميركيين، ولا سيما المتصهينين منهم الذين وقفوا من الكتاب وصاحبه موقف التجني والكره، وموقف الايديولوجيين العروبيين والإسلاميين المشيدين والمحبين، اضافةً الى كم واسع من المثقفين العرب الذين درجوا على سب الاستشراق بمناسبة وغير مناسبة، بمعرفة وغير معرفة. ما يهمنا في هذه المقالة، وبعد الإشارة الى ذاك المناخ الفكري الذي ساد في الذهنيات العربية حيال الاستشراق، القول ان ادوارد سعيد اختار من نماذج الاستشراق، ومن مراحله لا سيما من المرحلة الكولونيالية ما يثبت فرضيته في منهج تفكيكه لخطاب الاستشراق كخطاب معرفة بسلطة. هذا، وقد قلنا حينها ان تلك الفرضيات لا تنطبق على كل نماذج الاستشراق وعلى كل مراحله. فالمدرسة الفرنسية على سبيل المثال، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية، لا تنتظم في مسار الاستشراق حتى الفرنسي منه الذي ساد في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، والذي شاعت فيه مناهج الفيلولوجيا الاختبارية وايديولوجيا القوميات والحضارات والأعراق المتفوقة. من المعروف أن أبرز من مثل هذا الاتجاه الاستشراقي هو ارنست رينان الذي كان عضواً فاعلاً في هيئة تحرير "المجلة التاريخية" الفرنسية 1876 والتي كانت بدورها المعبر بامتياز عما عرف "بالمدرسة المنهجية" الفرنسية Ecole mژthodique في كتابة التاريخ. على أن هذه المدرسة المنهجية بدأت تشهد في الأوساط الأكاديمية بعد الحرب العالمية الأولى وفي غضون العشرينات والثلاثينات والأربعينات تحدياً معرفياً وعلمياً جاء من جهات متعددة. * فمن جهة المنهج الماركسي، شهدت الأوساط الأكاديمية الفرنسية في تناولها التاريخ الاقتصادي، ولا سيما بعد أزمة 1929 خروجاً أو محاولات خروج من التبسيطية الاقتصادية لتعير اهتماماً أكبر لدراسة "البنى الفوقية" أي الثقافة. * من جهة المنهج "الوضعاني" للمدرسة المنهجية والتي غرقت في بحر الاهتمام بالتاريخ السياسي القومي لفرنسا تاريخ الدولة/ الأمة دخل البحث التاريخي حقول المجتمع وأساليب عيش الناس وطبقاتها وفئاتها وعقلياتها... * ومن جهة منهج الجغرافيا، يبرز النقد لمبدأ الحتمية الجغرافية ذات النفوذ في المانيا لتنشأ في فرنسا مدرسة الجغرافية البشرية التي تعطي للعلاقة بين الأرض والإنسان بعداً جدلياً. * ومن جهة علم الاجتماع، وهي الجهة التي كانت أكثر تأثيراً في الثقافة التاريخية وفي كتابة التاريخ، تاريخ الشعوب والثقافات والمجتمعات والحضارات، كانت نظريات علم الاجتماع على يد دوركهيم، ومن بعده مارسل موس ترسي منهجاً جديداً لعلم جديد هو "علم الاجتماع التاريخي"، وكانت أيضاً تدشن منهجاً جديداً في دراسة الإنسانيات، ولا سيما في مجال الانتروبولوجيا، هو منهج دراسة "الإنسان الشامل"، أي دراسة الإنسان بكل أبعاده البيولوجية والنفسية والاجتماعية. * من جهة علم االتاريخ، تجدر الإشارة الى انه على موازاة ذلك أو بالأحرى تفاعلاً معه، كانت مبادرة عدد من المؤرخين الفرنسيين الشباب تأسيس مجلة "الحوليات" Les Annales في العام 1929. حيث قدمت نماذج في الدراسة التاريخية تجمع بين الاقتصاديات والاجتماعيات والحضارات Economies, Sociژtژs, Civilisations. السؤال، بعد كل هذا، هل يمكن عزل الاستشراق الفرنسي، أو بالأحرى الاستعراب الفرنسي، عن كل هذه السياقات والتحديات في تطور المعارف الإنسانية؟ نحسب أن جيلاً مبدعاً من المؤرخين الفرنسيين، منذ ثلاثينات القرن العشرين وحتى أواخر السبعينات، نمت أفكارهم وتطوّرت مناهج أبحاثهم في ظل هذه المناخات العلمية والقفزات الابستمولوجية. وأحسب أن الكتّاب والباحثين المستعربين لم يكونوا خارج هذه المناخات. يمكن أن نذكر منهم أسماء كثراً: مكسيم رودنسون، كلود كاهين، موريس لومبار، سوفاجيه روبرت مونتران، اندريه ريموند، جاك بيرك... نحسب أن نقول لا يندرجون في المنهج الاستشراقي الذي درسه ادوارد سعيد، ولا في الايديولوجيا "المعادية للعروبة والإسلام" التي يتوهمها ويتوجسها بعض القوميين والإسلاميين. بل ان هؤلاء يندرجون في مرحلة جديدة كلياً هي مرحلة تحوّل الاستشراق من حالٍ الى حال. من حال الشعور بالتفوق المعرفي الى حال المشاركة في المعرفة بين الذات الدراسة والغرض المدروس. ولا شك في أن الصحوة العالمثالثية وحركات التحرر الوطني لعبت بعد الحرب العالمية الثانية دوراً جاذباً ودافعاً نحو هذا التحوّل. لا يتسع المجال هنا لعرض تجليات الانتاج لدى بعض من ذكرت أسماءهم. ولكن يمكن أن نشير الى عينات من تلك الأعمال حيث نلحظ استدخالها لمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية والانسانية واستخدامها التكاملي لها وانفتاحها الإنساني على قضايا العصر والعالم الثالث وشعوب المنطقة العربية، وحيث نلاحظ أيضاً، وفي شكل أساسي أنها أحدثت نوعاً من القطيعة المزدوجة: قطيعة مع استشراقٍ كولونيالي. وقطيعة أيضاً مع تواريخ أوروبية قومية محلية لا سيما مع مناهج التأريخ القومي الألماني ومناهج التأريخ القومي الفرنسي. وتتفاوت درجة الاهتمام بمصائر الشعوب لدى المستعربين الفرنسيين بين التزام وحرص على امكانات التقدم الكامنة في المجتمعات العربية والإسلامية، كما نلحظ عند رودنسون وجاك بيرك وبين العرض الهادئ والموثق والنقدي لآراء مغلوطة عن التاريخ العربي. فموريس لومبار، بمعالجته التاريخية لدوائر التجارة العالمية الإسلامية وتداول العملة وسكها يطرح اشكاليتين أساسيتين: - قدرة السيادة الإسلامية السياسية والثقافية على توحيد أسواق ذات دوائر حضارية قديمة متنوعة: آسيوية ساسانية، مشرقية بيزنطية، أفريقية - أوروبية - متوسطية في اقتصاد عالمي معتمد على "دينار اسلامي". - ودحض الفكرة الشائعة التي قدمها كتاب هنري بيرين محمد وشارلمان والتي مفادها انه مع ظهور الإسلام انقطع التبادل التجاري بين الشرق والغرب وأن انعزال أوروبا كان سببه ازدهار العالم الإسلامي. يبين لومبار من خلال الوثائق والمخطوطات والمسكوكات أن هذه العلاقات لم تنقطع بين الشرق والغرب مع ظهور الإسلام وسيادته، بل على العكس ازدهرت هذه العلاقات وكانت سبباً من أسباب نهضة أوروبا. وهذه الإشكالية المهمة التي يستكملها كلود كاهين في مرحلة تاريخية لاحقة، حيث يظهر أيضاً عمق العلاقات التي قامت بين الشرق الإسلامي وأوروبا المتوسطية في أكثر المراحل محنة وصعوبة، أي في مرحلة الحروب الصليبية بالذات. يوسع اندريه ميكيل من زاوية منهج الجغرافيا - التاريخية حقل هذه الرؤية، فينقلها من حيز النظرة في التاريخ الاقتصادي الى حيز الجغرافيا الاتنولوجية، حيز دراسة الذهنيات والتصورات لدى الجغرافيين العرب في تناولهم البلدان والشعوب التي زاروها. ومن الاهتمام بالتاريخ القديم الساميات الى الاهتمام بالوسيط وأنماط العيش في البيت وأنواع الطعام في المطبخ العربي يتنقل مكسيم رودنسون بين مرحلة وأخرى وموضوع آخر، وهمه كيف يقدم معرفة مفيدة للمثقفين العرب ومن ضمن الاشكاليات المعرفية التي كانت تطرح في أوساطهم: الإسلام والرأسمالية، الماركسية والعالم الإسلامي، الصراع العربي - الاسرائيلي... الخ... يذكر في مقدمة كتابة "الماركسية والعالم الإسلامي" 1971، انه وقد عزم على جمع مقالاته في هذا الموضوع لإصداره في كتاب، كتب أحد "الظلاميين" في الجزائر في جريدة المجاهد يحذّر من قراءة هذا الكتاب قبل صدوره Livre a ne pas lire. ويضيف رودنسون ان هذا المقال زاده اقتناعاً بضرورة الاصدار للتواصل مع المثقفين العرب. على أن ماركسية رودنسون، لم تكن ماركسية دوغمائية أو حزبية، كانت منهجاً منفتحاً على شتى النظريات في علوم الإنسان والمجتمع. في كتابه الأهم "الإسلام والرأسمالية" يستعيد ردونسون المنهج التعبيري في دراسة الرأسمالية: دور البنى الثقافية والدينية في النهوض الرأسمالي أو في الإعاقة الرأسمالية؟ يحشد رودنسون كماً هائلاً من المعلومات التاريخية والفقهية ليقول ان الثقافة الإسلامية لم تشكل عائقاً في وجه نمو العلاقات الرأسمالية. بل ان المجتمعات الإسلامية الوسيطة شهدت نمو قطاع "رأسمالوي" capitalistique، كان بالإمكان أن يتحوّل الى وضعية رأسمالية صناعية. أما حول سؤال، لماذا لم تتشكل صناعة رأسمالية عندما حاول المسلمون ذلك مع التحديث العثماني، ومشروع محمد علي باشا، فإن الإجابة الفرضية عند رودنسون تكمن لا في ممانعة الثقافة الإسلامية، بل في العوائق الكثيرة وفي مقدمها اللاتكافؤ الذي كرّسته المعاهدات اللامتوازنة على مستوى الضرائب المفروضة على الصادرات والواردات بين دول العالم الإسلامي ودول أوروبا. هذا وعلى رغم أن الإجابة تبقى في حيز الافتراض، فإن الإشكالية لا تزال تلح على الباحث، ولا سيما الباحث العربي في استكمال الاجابة عليها وخصوصاً عبر مزيد من الحفر في الثقافة العربية. المختارات التي انتقيناها - وهي قليلة - تعبر عن حالة تجاوز للاستشراق. لم يعد "الاستشراق" في طرح تلك الاشكاليات استشراقاً، لقد أضحى اختياراً لحقل دراسة بمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية التي شهدت بدورها قفزات هائلة في غضون الخمسينات والستينات، ولقد أضحى هذا الاختيار مشاركة علمية ومعرفية مع الباحثين العرب في وعي قضايا لا تهم العرب وحدهم، بل تهم كل المشتغلين بدراسة التاريخ العالمي واستشراق مستقبل العالم. لقد جاء هذا الخيار يُعبِّر في حينه عن دور عالمي للمثقف - الباحث والأكاديمي، الى أي بلد انتمى والى أية ثقافة انتسب، وفي مرحلة تاريخية تصاعدت فيها النضالية العالمية بشقيها: بشقها الديموقراطي الأوروبي، وبشقها العالمثالثي التحرري. * أستاذ التاريخ والمناهج التاريخية - الجامعة اللبنانية.