في العام 1749، أجرت جامعة ديجون الفرنسية نوعاً من المباراة/ الاستفتاء من حول سؤال، كان يبدو أساسياً في ميدان الفكر الفلسفي - الأخلاقي في ذلك الحين: هل يمكننا أن نقول أن العلوم والفنون أسهمت في تنقية الأخلاق في عصرنا الحديث هذا؟ يومها، من بين الذين أرادوا المشاركة في خوض تلك المباراة، كان هناك مؤلف في نحو الثامنة والثلاثين من عمره، لم تعرفه الأوساط الثقافية والاجتماعية من قبل إلا بصفته ناقداً موسيقياً، ومؤلفاً مسرحياً الى حد ما. وكان صاحب "الموسوعة" ديدرو كلفه، قبل ذلك تحديداً، بكتابة معظم المقالات الموسيقية التي أدرجت في "الموسوعة". لكن ذلك الكاتب الشاب كان، كما سيتبين لاحقاً، يخفي في أعماقه خامة فيلسوف، ومفكراً أخلاقياً وتربوياً حقيقياً. لذلك، ما إن أحس أن فرصة تتاح له، من خلال تلك المباراة ليظهر كفايته في المجالات الفكرية النظرية الخالصة، حتى سارع الى الاشتراك في المباراة. والجدير ذكره هنا هو ما يقوله مؤرخو تلك المرحلة من أن أعضاء الأكاديمية حين طرحوا ذلك السؤال ما كان في وسع أي منهم أن يعتقد أن الإجابة قد لا تكون ايجابية. بمعنى أنه يمكن لمشارك ما، أن ينفي نقاوة الأخلاق إذ تتم من طريق تلك الفنون والعلوم. وفي هذا الإطار، عرف الشاب، ويدعى جان - جاك روسو، كيف يطور، في اجابته أفكاراً، هي التي ستتحول على الفور لتصبح متن أول كتاب ينشره، بل أول نص ينشره باسمه الصريح، هو الذي كان قبل ذلك ينشر نصوصه بأسماء مستعارة أو غفلة من الأسماء. والحال أن تلك الأفكار المشاكسة يومها، هي التي أسبغت على روسو كل ما كان في حاجة اليه من الشهرة، بين ليلة وضحاها، ليكتشف أهل الأوساط الثقافية والفكرية، وجود مفكر من طينة جديدة ومتميزة، يقف خلف مشاكسته الفكرية، نزوع عميق الى التحليل والاستنباط والطلوع بغير المتعارف عليه. إذاً، كان ذلك النص في أساس الكتاب الذي عرف لجان - جاك روسو لاحقاً باسم "خطاب حول العلوم والفنون" والذي صدرت طبعته الأولى في العام 1750... وعرف الناس به، ليصل الى ذروة شهرته بعد ذلك بخمس سنوات حين أصدر كتابه الكبير "خطاب حول جذور اللامساواة بين البشر"... ومع هذا يمكن القول، مع مؤرخي حياة روسو وفكره، أن جذور هذا الفكر كلها يمكن العثور عليها في ذلك النص الأولي الذي كان مجرد مساهمة في مباراة. يقول الباحثون في عمل روسو إن الأطروحة التي يدافع عنها في هذا النص "تنقسم قسمين، في الأول منهما يبرهن الكاتب، من طريق أمثلة مستقاة من التاريخ العام، أن العلوم والفنون هي المسؤولة عن ذلك التعارض الذي نجده بين تهذيب المجتمع المتمدن ورهافته من ناحية، وبين وحشية الأخلاق التي تختفي خلف القناع في ذلك المجتمع نفسه من الناحية الثانية". وفي هذا الاطار يعمل روسو على البرهنة على أن "الشعوب المظفرة كانت ذات فضيلة حينما كانت لا تزال همجية، لكن انتصارها كان من نتيجته أن أحدث ارتخاء في شخصية خصومها الذين كانوا أكثر منها مدنية، كما أنه تسبب في انحطاط أخلاق هذه الشعوب". بمعنى أنه حين انتصر شعب همجي على آخر متمدن كانت النتيجة أن انحطت أخلاق هذا الشعب المتمدن وتراخت صفاته. هذا في القسم الأول من الأطروحة، أما في القسم الثاني فإن جان - جاك روسو، يبرهن لنا على أن الأمور ما كان أبداً في امكانها أن تكون على غير تلك الشاكلة"، طالما ان "أساس الفنون والعلوم ما كان شيئاً آخر غير الفضول، وان ممارستها لم يكن ممكناً إلا للذين لا يعملون بل يبحثون عن أشياء يزجون فيها أوقات فراغهم". وفي هذا المعنى لا يفوت جان - جاك روسو أن يؤكد أن وجود العلوم والفنون انما يفترض وجود اللامساواة الاجتماعية. أو حتى أنه يترتب على وجوده هذه اللامساواة بالضرورة، طالما ان البحث عن الحقيقة نفسه، نادراً ما يكون مساوياً بحجم المجازفات التي يغامر بها العقل إذ يسعى للبحث عن تلك الحقيقة". وإذ يخلص جان - جاك روسو من تحليلاته المشاكسة، انما المستندة الى عمق فكري لا شك فيه، كما في محاججات ديالكتيكية من الصعب المماراة فيها، الى هذه النتيجة غير المتوقعة، ينتقل في النهاية للاستنتاج بأن ما يتعين علينا عمله ازاء هذا كله انما هو الثناء على الحكماء. فمن هم هؤلاء الحكماء في نظرهم؟ انهم، في كل بساطة، أولئك الأشخاص الذين أفادوا الانسانية بأعظم الفوائد... ولا يفوت روسو هنا أن يتوقف، في شكل محدد، عند بعض الأسماء، مثل بيكون وديكارت ونيوتن، طالباً من الأمراء ألا يتوانوا عن احاطة أنفسهم بهذا النوع من المفكرين الحكماء المستشارين. أما بالنسبة اليه هو فإنه، بحسب ما يقول في خاتمة النص، وبحسب ما يقول عنه متناولو سيرته وموقع كتابه "خطاب حول العلوم والفنون" في هذه السيرة، يفضل أن يبقى في الظل، هو الذي يختتم كتابه قائلاً: اواه أيتها الفضيلة، أيها العلم الأسمى لدى الأرواح البسيطة... ترى هل علينا أن نعيش كل تلك المعاناة، وأن نلجأ الى قدر كبير من الأدوات لكي نعرفك؟ أفليست مبادئك، في نهاية الأمر محفورة في كل قلب من القلوب؟ وألا يكفينا، لكي نتعلم قوانينك، ان نعود الى دواخلنا ونصغي الى صوت الضمير في سكون العواطف؟". وكما قلنا أعلاه، ونقلاً عن دارسي حياة روسو وأعماله، من المؤكد أن في امكاننا أن نعثر داخل "خطاب حول العلوم والفنون"، على تسلسل تلك المحاججات العقلية التي نجدها في أساس كتب روسو كلها، أو معظمها على أي حال: وأولها أن "الطبيعة خلقت الإنسان صالحاً، لكن المجتمع هو الذي أفسده"" وان "الإنسان كان في البداية حراً وسعيداً، لكن المجتمع هو الذي عاد وجعله عبداً وبائساً"" وان "فساد البشرية بدأ حين هيمن العقل على الغريزة"" وأن "مصيبة المجتمع الكبرى هي اللامساواة"" وأنه "كلما كانت الحال الاجتماعية أكثر تطوراً وتقدماً، كلما كانت فاسدة أكثر"" وان "تقدم الفنون والعلوم يسير بالتوازي مع انحطاط الأخلاق والفضائل... بل انه يزيد من وتيرة هذا الانحطاط بشكل متسارع". والحال أن جان - جاك روسو 1712 - 1778 الذي كان يسير في ذلك الحين في طريقه الحثيث ليصبح أحد أكبر مفكري عصر التنوير في فرنسا وفي أوروبا، اتخذ في ذلك الكتاب الأول له موقفاً شخصياً من المجتمع، مؤكداً سلفاً موقفه المحتقر لكل أولئك الذين سوف يسبغون عليه مجداً اجتماعياً مزيفاً بفضل كتابه هذا، وربما بفضل كتبه التالية، فهذا النوع من "الجد" هو بالتحديد النوع الذي يرفضه روسو قائلاً: "أن لا أهتم أبداً بأن أعجب أصحاب العقول النيرة هؤلاء ولا أهل الموضة". والحقيقة أن روسو لم يحد عن ذلك الموقف بعد ذلك أبداً... ومن هنا، اضافة الى كونه - الى جانب فولتير وديدرو ومونتسكيو - من مؤسسي الفكر التنويري الذي قاد الى الثورة الفرنسية، وبالتالي الى نزعة الحداثة التي طغت على العالم من بعد تلك الثورة ولا تزال، صار روسو حديثاً في شكل خاص، وعلى طريقته، حداثة تزداد وضوحاً مع استشراء أفكار أنصار البيئة والعودة الى الطبيعة... ذلك ان كل الأفكار التي عبر عنها روسو في كتابه هذا كما في الكثير من كتبه التالية "العقد الاجتماعي"، أو "اميل" أو "الاعترافات" بين كتب أخرى خالدة تسير في ذلك الاتجاه الذي لم يفت البعض أن يجدوا فيه أقصى درجات الرومانطيقية... هو الذي شاء لنفسه أن يكون عقلانياً.