برحيل رونالد ريغان انطفأت "النظرة المتفائلة المعهودة التي لا تخبو لدى ابناء العم سام"، بحسب ما قال الرئيس السابق بيل كلينتون. وكان وهجها بدأ يخبو عندما ابلغ الاميركيين عام 1994 ببدء "رحلة غروبه عن الدنيا" التي عبر عنها بخطاب متشائم وشجاع، اثر معرفته بإصابته بمرض الزايمر. وبلغ ريغان اول من امس، المحطة الاخيرة في رحلته بوفاته عن عمر ناهز ال93 عاماً في منزله في لوس أنجليس. ولفظ انفاسه الاخيرة متأثراً بإلتهاب رئوي حاد، في حضور زوجته نانسي وابنائه الثلاثة: مايكل وباتي ديفز ورون الذين لم يستطع التعرف إليهم في الفترة الاخيرة بعدما زادت معاناته مع المرض. وشكرت الاميركية الاولى السابقة نانسي ريغان كل الذين صلوا لأجل زوجها طيلة سنوات صراعه مع المرض، في حين امل نجله مايكل في ان تتذكر اميركا والده بإعتباره "رجلاً مستقيماً وذا إيمان راسخ وصاحب روح دعابة بدلت البلاد والعالم إلى الافضل". ومايكل هو نجل ريغان بالتبني من زوجته الاولى الممثلة جاين وايمان التي انجب منها ابنة تدعى مورين توفيت بمرض سرطان الدماغ عام 2001، ونقل جثمان ريغان بواسطة عربة نقل الموتى إلى قاعة في سانتا مونيكا حيث سجي، في انتظار الجنازة الوطنية على روحه في كاتدرائية واشنطن الجمعة المقبل، قبل دفن جثمانه في سيمي فالي كاليفورنيا موقع مكتبة ريغان الرئاسية. الحلم الاميركي وجسد ريغان بعصاميته الحلم الاميركي. وولد في السادس من شباط فبراير 1911 في تامبيكو ولاية ايلينوي لأب كاثوليكي ايرلندي يبيع الاحذية وأم بروتستانتية محافظة ومتدينة. وعمل مراقباً للشاطئ من 1932 الى 1937، ثم معلقاً رياضياً للاذاعة من 1932 الى 1937 بعدما انهى دراسته في علم الاجتماع والاقتصاد، قبل ان يستهل مشواره في عالم السينما ويشارك في تمثيل خمسين فيلماً. وترأس بدءاً من عام 1947 نقابة الممثلين الاميركيين التي نشط طيلة سبع ولايات متعاقبة على رأسها، لتطهير هوليوود من مناصري الشيوعية. ودخل المعترك السياسي عام 1966 بانتخابه حاكماً لولاية كاليفورنيا. واحتفظ بهذا المنصب ثماني سنوات تخللتها محاولته الاولى عام 1968 للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية. وعام 1976 كرر المحاولة لكنه انهزم بفارق ضئيل امام الرئيس جيرالد فورد الذي جدد لولاية ثانية. غير ان محاولته الثالثة تكللت بالنجاح بعد فوزه في الانتخابات التمهيدية عام 1980 وهزم الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر. البطل الحقيقي وروى ريغان في فترة رئاسته للبلاد من عام 1981 الى عام 1989 العطش الداخلي الى بطل حقيقي يرمز الى مرحلة تجديد في الحياة السياسية واسلوب ادارة شؤون السلطة. وأعاد الى الاميركيين فخراً فقدوه بتأثير نكسات حرب فيتنام وفضيحة "ووترغايت" وازمة الرهائن في ايران. ووفى بالتالي بالوعد الذي قطعه لدى انتخابه الرئيس الاربعين للبلاد والاكبر سناً 69 عاماً في آن، بأن تجسد سنوات حكمه "الفجر الجديد للامة". وتحلى بصفات الرؤساء السابقين الاكثر شعبية: تفاؤل فرانكلين روزفلت وايمان دوايت ايزنهاور بالقيم الاميركية ونشاط جون كينيدي، مما جعله بدوره احد الرؤساء الاكثر شعبية في التاريخ بدليل حصوله على نسبة 18 في المئة في استفتاء مؤسسة "غالوب" للرئيس الافضل عام 2001. وضمن ريغان التجديد له لولاية ثانية بفوزه السهل عام 1984 على منافسه الديموقراطي وولتر مونديل. رصاصة في قلب ...النجاحات وفي وقت لم يعكر صفو النجاحات المتعاقبة لريغان في فترة ولايته الاولى، ومن بينها انعاش الاقتصاد عبر تخفيف الضرائب وتحديث القوات المسلحة من خلال إطلاق المشروع الدفاعي المضاد للصواريخ المعروف ب"حرب النجوم"، الا محاولة اغتياله في 30 آذار مارس 2003 والتي اصيب فيها برصاصة قرب قلبه. وواجه الازمات السياسية الاكبر حجماً في ولايته الثانية. وكرر اخطاء سلفه جيمي كارتر في معالجة احتجاز رهائن في لبنان، واجراء صفقات بيع سرية للاسلحة الى ايران من اجل تمويل متمردي نيكاراغوا والتي عرفت بقضية "ايران غايت". وزعزعت تلك الازمات صدقيته وأضعفت نفوذه في اقناع الكونغرس بمشاريعه المقترحة وتعييناته الادارية والقضائية واتهم بإنتهاك صلاحياته الرئاسية. الا انه عوض اخفاقاته الداخلية بإتخاذ مبادرة جريئة لمكافحة الارهاب من خلال اعطاء اوامر بتنيفذ غارة على ليبيا عام 1986. وفي العام التالي، وقّع ريغان اتفاقاً مع الاتحاد السوفياتي الذي دأب على وصفه ب"امبراطورية الشر". وقضى الاتفاق بتخفيض الترسانة النووية لبلديهما ومراقبتها، مما كرس مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين في عهد آخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشوف. ومهد ذلك بحسب المحللين لانتهاء الحرب الباردة بين القوتين العظميين، وهو ما اشاد به رئيس المانيا الحالي يوهانيس راو في تعليقه على خبر وفاته حين وصفه بصديق مخلص وحليف تمسك برؤيته لاوروبا متحدة تنعم بالسلام. وذكر بأن الخطاب الذي وجهه لغورباتشوف من امام حائط برلين عام 1987 الى "هدم جدار الحرب الباردة" لن ينسى أبداً. وبدوره، حيّا غورباتشوف الدور الذي اضطلع به ريغان في رعاية حوار صعب وذات اهمية كبيرة بالنسبة الى تاريخ بلديهما وعلاقاتهما في المرحلة التالية. مؤسس الحركة المحافظة الحديثة وخلف ريغان لدى مغادرته البيت الابيض عام 1989 انتعاشاً اقتصادياً ملموساً، تمثل في تراجع نسبة التضخم من .810 الى .43 في المئة، والبطالة من .810 الى .65 في المئة. لكن ذلك لم يمنع ظهور طبقة المشردين من ضحايا اجراء خفض البرامج الاجتماعية. واستحق ريغان لقب "مؤسس الحركة المحافظة الحديثة" بعدما اخرج بلاده من مرحلة الكساد الاقتصادي الذي عايشته مطلع الثمانينات من القرن الماضي. ومهد لانجازاته الداخلية بتقليص حجم الحكومة الفيديرالية، في حين اضيف الى نجاحه الخارجي في التقرب من الاتحاد السوفياتي تمتين التحالف مع بريطانيا في عهد رئيسة وزرائها مارغريت ثاتشر، فكان بذلك عراب العلاقة الحديثة والمستمرة بين لندنوواشنطن. ردود الفعل ووصفته ثاتشر امس، بأنه "بطل كبير". ورأت ان موته "خسارة لملايين الرجال والنساء الذين يعيشون حالياً بحرية بسبب السياسة التي انتهجها". وقالت انه "عمل اكثر من اي زعيم آخر للانتصار في الحرب الباردة من دون اطلاق طلقة واحدة". كذلك اعلن رئيس الوزراء توني بلير ان ريغان "سيبقى في البال كصديق حميم لبريطانيا"، وأكد ان الادارة الحالية عززت رؤية ريغان في اسلوب الحكم في سبيل تعزيز ثقة الأمة بنفسها وضمان السياسة الخارجية الناجحة. وأبدت ملكة بريطانيا حزنها الشديد لوفاة ريغان، وكذلك البابا يوحنا بولس الثاني، والرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي اعتبر ريغان "علامة فارقة في التاريخ بعدما اسس لعالم جديد متوازن". واعتبر جون كيري المرشح الديموقراطي الى الرئاسة الاميركية ان حب ريغان للبلاد كان معدياً. وقال ان الراحل "تمسك طيلة حياته بالمثل النبيل في اننا لسنا ديموقراطيين او جمهوريين، بل اميركيون واصدقاء". وفي لبنان حيث شهدت ولاية ريغان هجوماً انتحارياً على مقر المارينز في بيروت عام 1983 اسفر عن مقتل اكثر من 240 من جنود مشاة البحرية الاميركية، ابرق الرئيس اميل لحود معزياً بالرئيس الاميركي الراحل. وقال ان رئاسته "شكلت مرحلة في الحياة السياسية العالمية ومنعطفاً بارزاً في العلاقات العميقة التي تربط بين بلدينا". زلات لسان طريفة وعلى رغم لقبه "المتحدث الماهر"، كانت لريغان زلات لسان لم تنجم عنها لحسن الحظ عواقب خطرة. فالأميركيون لم ينسوا 11 آب أغسطس 1984 عندما أعلن وهو يستعد لإلقاء خطاب اذاعي في مزرعته في سانتا باربره من دون أن ينتبه إلى أنه كان على الهواء: "أعزائي المواطنين يسعدني أن أعلن لكم أنني وقعت مرسوماً يقضي بمحو الاتحاد السوفياتي من الخريطة وإلى الأبد. وسنبدأ القصف في غضون خمس دقائق". وفي 1980، أراد ريغان التصدي لكارتر في مجال البيئة فقال إن "الأشجار تتسبب بالتلوث أكثر من السيارات". ودفع تصريحه آنذاك الطلاب إلى التهكم مطالبين ب"خطة حكومية لإزالة الغابات". وغالباً ما بررت تلك الهفوات بعمر ريغان الذي انتخب للمرة الأولى وهو في التاسعة والستين. وكان معروفاً أنه ينام أثناء اجتماعات إدارته حتى إنه غفا أثناء اجتماع مع البابا يوحنا بولس الثاني. وكان ريغان يفلت من الإرباك بروح النكتة التي عرف بها. ولم يكن موهوباً في حفظ الأسماء والأقوال المأثورة. فدعا الأميرة ديانا مثلاً "الأميرة ديفيد". وقال عن سلفه جيرالد فورد إنه كان "شيوعياً" فيما كان يريد القول إنه عضو في الكونغرس.