تواجه الولاياتالمتحدة، رغم تردد إدارة بوش بالاعتراف بذلك، أسوأ أزمة عرفتها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية. إنها أزمة قيادة وأزمة سمعة وأزمة قدرات عسكرية وهيبة معنوية. ولذا فالمطلوب هو تغيير عاجل وجذري في الاستراتيجية وفي المناصب الحكومية العليا. ولكن هل يمكن للرئيس جورج بوش في وضعه الحرج المتأزم أن يقدم على هذا التغيير وهو الذي أثبت أن إمكاناته الذهنية والخلقية يرثى لها؟ يندر أن نجد بين المراقبين من يعتقد أن بإمكانه مواجهة التحدي. ولقد وصفت مجلة"نيوزويك"الإدارة الحالية بأنها"أخرق قيادة مدنية في تاريخ أميركا الحديث". وفي إشارتها إلى الحرب في العراق، قالت المجلة"إن الجنود الأميركيين وضعوا في المكان السيئ وفي الوقت السيئ وللأسباب السيئة". وسوف يأتي الرئيس بوش إلى أوروبا في هذا الشهر في محاولة يائسة ليدعم مركزه داخلياً وصورته دولياً. ولكن الخلافات عميقة، يصعب إخفاؤها أو تجاهلها. فالعلاقات مع الدول الأوروبية الكبرى بلغت حداً من السوء وأوشكت على القطيعة بسبب ازدرائه لحلفائه واعتداده المفرط بالقوة العسكرية وسياساته الأحادية الطرف ونظريته الخطيرة في الحرب الاستباقية ولاستهتاره الواضح بأبسط حقوق الإنسان واتفاقات جنيف. وفي هذا الصدد، نشرت صحيفة"فاينانشال تايمز"اللندنية هذا الأسبوع مقالاً للورانس فريدمان، أستاذ علم الحروب في جامعة"كينغز كوليج"جاء فيه بأن هناك"فراغاً حاصلاً في أجواء السياسات العالمية كان يفترض بالقيادة الأميركية أن تملأه". غير أن بوش قامر على حرب العراق فخسر، ولم يعد بإمكان أميركا أن تفرض إرادتها على العراق"لأنها تفتقر إلى الهيبة المعنوية كي تستطيع تحقيق ذلك". لا شك أن ملاحظات كهذه يبديها معلق بريطاني بارز تكتسي مغزى خاصاً ولا سيما أن فريدمان كان من أول المؤيدين للحرب، وأن موقفه هذا قوبل بالتجاوب من قبل العديد من الأميركيين. ولعل الحقيقة الماثلة للعيان هي أن إدارة بوش قد أخفقت في كل ما حاولت فعله. فالحرب على العراق استناداً إلى أسباب كاذبة انتهت إلى كارثة. وجاءت أنباء تعذيب السجناء العراقيين لتنسف نهائياً شرعيتها المشوبة بالشكوك، وأما"الحرب على الإرهاب"فقد ضاعفت خطر الأصولية الإسلامية السياسية بدلاً من أن تنال منه أو تخفف وقعه سواء بالنسبة لأميركا ذاتها أم بالنسبة الى أصدقائها، كما أدركت بلاد مثل السعودية وباكستان تعاظم هذا الخطر. ونرى من ناحية أخرى أن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو لب أسباب النقمة في المنطقة، ترك يغرق في أعماق البربرية والوحشية بفضل دعم بوش اللا مسؤول لرئيس حكومة إسرائيل البلدوزر آرييل شارون. لهذه الأسباب جميعها تردت العلاقات الأمريكية مع العالمين العربي والإسلامي إلى الدرك الأسفل وبلغت كراهية الأميركيين ذروتها. وقد أشارت الأنباء إلى أن الإرهابيين الذين احتجزوا الرهائن في مجمع الخبر كانوا يبحثون عن الأمريكيين ليقوموا بقتلهم. ما الذي أدى إلى هذا الوضع ؟ تواجه إدارة بوش التي لاقت دعما كبيرا في بدء عهدها، سيلاً من الانتقادات، سواء في لجان الكونغرس أو من خلال التحقيقات الصحفية وبخاصة ما نشره سايمور هرش في مجلة"نيو يوركر"عن فضائح التعذيب، ومن خلال تصريحات الجنرالات المتقاعدين وكبار المسؤولين السابقين، والخبراء من كل حد وصوب الذين نشروا عشرات الكتب تضمنت قائمة طويلة بأسباب الفشل. ويلقي الكثيرون مسؤولية هذا الوضع على المحافظين الجدد، أي على المنظرين الموالين لإسرائيل في قلب الحكومة الأميركية الذين وضعوا أجندة السياسة الخارجية للرئيس بوش. فلقد دعا الجنرال أنتوني زيني، القائد العام السابق للقوات الأميركية في الشرق الأوسط، دعا صراحة كبار المسؤولين المدنيين في البنتاغون إلى الاستقالة، إذ قال أخيراً:"ليس هنالك من قائد سياسي أو عسكري محترم، أو دبلوماسي في واشنطن يجهل أجندة المحافظين الجدد، وكيف أدت هذه الأجندة إلى الحرب". وأما بريزينسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس السابق كارتر، فقد أدان السياسة الخارجية المتطرفة للإدارة الحالية التي تلاعب بمحتواها الاستراتيجي بعض المسؤولين الذين يهتمون بإعادة رسم السياسة الأمنية في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل أكثر من اهتمامهم بالمحافظة على قدرة أمريكا على ممارسة دورها القيادي عالمياً. تلك هي أهم الاتهامات التي توجه حالياً للمحافظين الجدد. فرغبتهم في دعم قدرة إسرائيل على ابتلاع الضفة الغربية وإلحاق الهزيمة بالفلسطينيين قادتهم إلى وضع استراتيجية تقوم على مهاجمة واحتلال وقلب أنظمة عدد من بلدان الشرق الأوسط. ولم يكن العراق بالنسبة الى هؤلاء المحافظين سوى الأول على قائمة هذه البلدان بحيث يتم احتلاله وتحويله إلى دولة عميلة لأميركا تعقد صلحاً مع إسرائيل، ومن ثم يتم الانتقال إلى بلدان أخرى في المنطقة، وبخاصة سورية وإيران وربما السعودية ومصر بعد ذلك. وما الإدانات التي صدرت عن بريزينسكي وزيني سوى أمثلة على النقمة العارمة التي تسود الأوساط الأميركية العسكرية والسياسية والمؤسسات الثقافية بسبب الأذى البالغ الذي لحق بهذه السياسة الخارجية التي فقدت كل صدقية. وأما أهم هؤلاء المحافظين الجدد، فهم أولئك الذين يقفون خلف نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وأهمهم شأناً في الإدارة. وقد يتجرأ بوش فيصرف رامسفيلد من الحكم، وأما تشيني فلا يمكن صرفه إلا بمبادرة من الكونغرس. ولكن على الرئيس بوش، قبل أن يفكر في اتخاذ مثل هذه التدابير الجذرية، أن يعترف علناً بأن"الحرب على العراق"قد أسيء تخطيطها، وكانت خطيئة باهظة الثمن، وأنه قد خدع من قبيل أولئك الذين اعتمد على آرائهم وأنه ينوي الاستفادة من عبرة هذه الأخطاء كي يضع الأمور في نصابها. زلزال في العلاقات الأميركية الإسرائيلية أما بقية كبار المحافظين الجدد فقد جاء ذكرهم مراراً في الصحافة العالمية وهم بول ولفوفيتز ودوغلاس فايث، ثاني وثالث المسؤولين في البنتاغون، وريتشارد بيرل الرئيس السابق لمجلس السياسة الدفاعية، وإليوت أبراهامز، مدير شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، ولويس ليبي، رئيس مكتب تشيني... وكثيرون غيرهم على كل المستويات. أما بالنسبة الى ريتشارد بيرل ، فقد اضطر إلى الاستقالة من منصبه، وأما الآخرون، فيتشبثون بوظائفهم ويصعب صرفهم. فإذا ما أقدم بوش على التخلي عنهم فسوف يلاقي ذلك تصفيق الناس في معظم أنحاء العالم، وسوف يعتبر زلزالاً في السياسات الأميركية وفي العلاقات مع إسرائيل، الأمر الذي يصعب تصور حدوثه قبل خمسة أشهر من استحقاق الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل. ولكن هل يستطيع بوش تفادي"إعادة تقدير جذرية للاستراتيجية الأميركية"التي طالبه بها بريزينسكي وغيره؟ لا أحد يعرف في الواقع كيف سيفعل ليحرر نفسه وإدارته من المأزق الحالي. وربما كان لقاؤه بالقادة الأوروبيين وسواهم خلال هذا الشهر فرصة يغتنمها ليوضح ويبرر ما قام به. ولعل ما نشهده الآن من عنف يجتاح الشرق الأوسط ومن الفشل في حل مشكلة انتشار السلاح النووي، ومن تزايد عدد المجموعات الإسلامية الأصولية المصممة على الرد على ما تراه من صلف ووحشية لدى الغرب، كل ذلك يجعلنا شهوداً على إخفاق الهيمنة الأميركية الأحادية القطب، الذي بقي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي منذ نيف و12 عاماً. وقد يكون السؤال الجدير بالطرح هو هل يمكن لعالم متعدد الأقطاب أن يكون أفضل؟ لعل الأوروبيين يجيبون عن هذا السؤال وهم يقبلون قريباً على انتخابات البرلمان الأوروبي، وهو مؤسسة قلما يعرفها الناس وإن كانت هيئة ذات نفوذ كبير. ذلك أن السؤال وراء هذه الانتخابات هو هل ستسعى أوروبا إلى المزيد من الوحدة السياسية لتصبح ذات يوم الولاياتالمتحدة الأوروبية التي تملك من أسباب القوة ما يمكنها من أن تلعب دور مركز ثقل مقابل القوة الأميركية، أم أنها ستكتفي بأن تكون واحة للتجارة الحرة والازدهار والديموقراطية وحقوق الإنسان في عالم يلفه العنف والخطر. وفي رأيي أن بريطانيا تحت حكم بلير ارتكبت خطأً فادحاً حين عارضت الوحدة السياسية الأوروبية ووقفت إلى جانب السياسات الأميركية الفاشلة في الشرق الأوسط. وهي بموقفها هذا أضعفت أوروبا وأسكتت صوت بريطانيا المستقل وعليها بالتالي أن تتحمل نصيبها في المسؤولية عن الفوضى الراهنة. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.