منذ حوالى اسبوعين وأنا أواجه أزمة شخصية هزت قناعاتي، او ما كنت اعتبره ثوابت أو مسّلمات في التعامل الانساني، أو بين الناس. الأزمة بدأت تحديداً في 19 أيار مايو الماضي عندما اجتاحت قوات آرييل شارون رفح وجوارها فقتلت ودمرت، وعندما قصفت طائرات أميركية بالصواريخ عرساً في القائم قرب الحدود العراقية مع الأردن وسورية في محافظة الرمادي فيما الضجة قائمة حول سجن أبو غريب، وكان عدد الضحايا 40 هنا و40 هناك، وزاد الرقم بعد ذلك مع وقوع ضحايا آخرين. وبدأت أسأل نفسي هل كل الاسرائيليين شارون، هل كل الأميركيين المحققون والمحققات في أبو غريب؟ وقال مسؤولون اسرائيليون انهم قتلوا ارهابيين، وقال مسؤولون دوليون ان القتلى في غالبيتهم العظمى في المدنيين، وقال مسؤولون عسكريون اميركيون انهم تلقوا معلومات عن وجود مسلحين، وقال محافظ الرمادي وشرطة المحافظة ان الضحايا كانوا في عرس تبين وجود فيديو عليه سجل قبل ان يتحول الفرح الى مأساة. القتل والتدمير في رفح جاءا على خلفية جرائم حكومة شارون التي بلغت حداً نازياً في انتهاكاتها، فميثاق جنيف الرابع، كأكثر مواثيقها، وضع بعد الحرب العالمية الثانية رداً على جرائم النازية وهو يقول في المادة 53 منه انه يمنع القوة المحتلة من تدمير ممتلكات لأفراد او جماعات، ويزيد في المادة 147 ان التدمير هذا على نطاق واسع يعتبر "جريمة حرب". واضطرت الأممالمتحدة ان تناشد اسرائيل السماح بدفن الضحايا الذين حفظوا في برادات الفاكهة والخضار في المنطقة تحت القصف الاسرائيلي. ولم ينته الحصار الا بعد قتل حوالى مئتي فلسطيني، غالبيتهم من المدنيين مع نساء وأطفال كثيرين، وتدمير حوالى 400 بيت بحسب تقديرات الأممالمتحدة، و600 بيت بحسب التقديرات المحلية. أما العرس الذي انتهى مجزرة فسبقه قتل يومي تحت سمع العالم وبصره، وفي يوم العرس نفسه قتل سبعة عراقيين في كربلاء، وقتل مئات غيرهم في الأيام التالية. وكنت اعتقد القتل اليومي كارثة، فجاءت صور تعذيب الأسرى في سجن أبو غريب لتتركني في حيرة إزاء قناعاتي القديمة، وأخذت أسأل هل اسرائيل هي القتلة الذين اطلقهم شارون على رفح، وهل الولاياتالمتحدة هي المحققون والمحققات الذين قتلوا الأسرى وعذبوهم واغتصبوهم؟ هل اخطأت؟ أليس العقاب الجماعي ما مارس النازيون؟ أليس اطلاق الكلاب على السجناء ما ترك لنا سجل النازيين ضد اليهود وغيرهم. بما أنني اهاجم آرييل شارون والمجرمين حوله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فقد حذرت دائماً من التورط في كلام لا سامي، وأصبحت لازمة، كل مقال عن الحكومة الاسرائيلية قولي ان غالبية الاسرائيليين ليست من ليكود، وانها تريد السلام، كما اكد كل استطلاع للرأي العام في اسرائيل. ولم اكتف بنفسي، فقد حاولت جهدي خلال عملي رئيس تحرير لأربع جرائد ان تبتعد جريدتي عن أي لا سامية. وكنا يوماً في "الديلي ستار" في بيروت أجرينا مقابلات مع رؤساء الاحزاب، وجاء دور جورج عبدالمسيح، رئيس جناح تاريخي صغير في الحزب القومي السوري، فهاجم اليهود، وأصرّ على مهاجمتهم بدل مهاجمة اسرائيل كما اقترحت عليه كمخرج، ورفضت نشر المقابلة معه. وفي سنة 1996، وبعد مجزرة قانا التي راح ضحيتها حوالى مئة مدني غالبيتهم من النساء والاطفال كتب الصديق الشاعر نزار قباني، رحمه الله، قصيدة بعنوان "راشيل وأخواتها" قارن فيها ما فعل هتلر باليهود وما يفعلون بالفلسطينيين، وتوقفت عند سطر يقول: "هتلر يرحمه الرحمن لم يمحقهم" ورفضت استنزال الرحمة على هتلر، واقترحت ان يقول نزار "هتلر يلعنه الرحمن..." الا انه رفض. وبعد جدل كتبت بخط يدي مكان "يرحمه الرحمن" كلمة "بالأمس" لا يزال النص الأصلي عندي غير ان نزار قباني عاد في اليوم التالي الى المحرر المسؤول، ونُشر السطر "هتلر لم يجد الوقت...". كنت استرجع ذكرياتي مع خلفية مجزرة رفح وتعذيب الأسرى في سجن أبو غريب، وأصرّ على رغم كل خبر لاحق ان اليهود ليسوا آرييل شارون كما ان الاميركيين ليسوا ليندي انغلاند. وزير العدل الاسرائيلي يوسف لابيد، رئيس حزب شينوي، دان تدمير البيوت في رفح، وقال انه ذكره بالمحرقة النازية. اما الصحافية البريطانية اليهودية سوزان غولدنبرغ فقالت ان صور ابو غريب "هي نحن"، وسجلت ان معنى نشر الصور ان ما ارتكب ليس عيباً، فالمجتمع يتجه نحو القسوة في ظل ادارة بوش. وكرر الفكرة نفسها الأميركي بول شرويدر الذي تحدث "عن العيب" في بلد فقد قدرته على الاشمئزاز من مثل هذه الفظائع. غير ان انتقادات لابيد وغولدنبرغ وشرويدر ومئات مثلهم تظهر ان الممارسات التي هزت قناعاتي القديمة عن النفس البشرية يرفضها الاسرائيليون كما يرفضها الأميركيون، فالجريمة يتحمل وزرها من ارتكبها من حكومة شارون الى ادارة بوش، لا الناس كلهم. اعتقد ان في اسرائيل عدداً أكبر من امثال أميره هاس، الكاتبة في "ها آرتز" مما هناك من امثال شارون، وان جيراني في واشنطن على مدى سنوات، وكلهم صديق يحب السلام لنفسه ولغيره، هم الأميركيون لا المحققون في العراق. القناعات اهتزت الا انها صمدت في النهاية.