كانت الغرفة الوحيدة التي ننام فيها تعتبر أكثر بقاع العالم من حيث الكثافة السكانية، كنا عشرة أطفال: ست إناث وأربعة ذكور. ينام الذكور بمحاذاة أحد أضلاعها والإناث في الضلع المقابل، لأن للغرفة سقفاً، مهمته في الشتاء أن يعمل مصفاة للأمطار تتلقاها أوعية في أرض الغرفة". ما تقدم هو فقرة من سيرة دريد لحام الذاتية، دوّنها تحت عنوان "تداعيات" وحينما سألته قبل أن أعرف أنه كتب ورقات عن سيرته عن سبب عدم كتابته لمذكراته. أجابني: "محطات كثيرة غابت تماماً من ذاكرتي، لم يبق منها شيء، ربما لو كتبت "يوميات" منذ أيام الشباب لكان ذلك مساعداً لي على كتابة مذكراتي. ويبدو ان الفنان دريد لحام تذكر أخيراً قيمة كتابة مثل هذه المذكرات بعد أن نبهته الصحافة بأسئلتها وفضولها الى ضرورة هذه المسألة. في الصفحة الأولى من تداعياته يكتب دريد لحام: "كنت في العاشرة عندما قررت أن أساعد بمصروف العائلة الكبيرة ذهبت الى جارنا لحداد أبو كعود: - دريد: مرحباً عمي أبو كعود - أبو كعود: أهلين أبو الدر - دريد: لازمك شغيل؟ - أبو كعود: الدكان صغير وأنا بكفي وبوفّي. نظرت اليه بكثير من الرجاء والخيبة، وقبل أن أرحل بادرني: بتعرف تنفخ بالكور. - دريد: بتعلم... "وقفت على أطراف أصابعي لأطال الكور أنفخ فيه ساعتين متواصلتين بشكل رتيب يميناً ويساراً تغمرني سعادة لا توصف، وأبو كعود يقول لي "عشت" ويخرج الحديد المحمر من النار ويطرقُه بهمة ودراية...". تخرج دريد لحام في الجامعة عام 1958 وأصبح مدرّساً لمادة الكيمياء في الجامعة والمدارس الثانوية وبتشجيع من الدكتور صباح قباني جذبه التلفزيون الذي افتتح عام 1960 في "الاقليم الشمالي" من دولة الوحدة - أثناء أحد الدروس كان يقف أمام الطلاب ليشرح عن حمض الكبريت، وكان في الليلة السابقة يقدم برنامجاً على شاشة التلفزيون، فاستأذنه أحد الطلاب يريد توضيح الفرق التفاعلي لحمض الكبريت المركز عن الممدد على معدن التوتياء وبدأ سؤاله قائلاً: أستاذ غوار، يومها قرر دريد لحام ترك وظيفته كمدرّس ليتفرغ للفن. ويروي دريد لحام في الورقات بعض ذكرياته الأسرية والمتعلقة بأيام الفقر، ففي عام 1969 أصبح دريد أباً لثلاثة أطفال وحين أتى العيد كان الأولاد بحاجة الى ملابس جديدة: "كالعادة ذهبنا الى دكان بالة اعتدنا عليه، كان يكرمنا بأن يغلق بابه ونحن في الداخل كي لا نشعر بالحرج إذا رآنا أحد، صدف مرة أن رآنا أحدهم فصاح قائلاً: "- شو أبو الغور بتلبس من البالة؟". وتبدو كتابة المذكرات مسألة ثانوية بالنسبة الى عدد كبير جداً من الفنانين السوريين، وإن وجدت فهي قليلة وما يتذكره القارئ هو مذكرات رفيق سبيعي التي حرّرها وأعدها وفيق يوسف، وإذا كان جزء كبير من المحطات الفنية قد غاب من ذاكرة دريد لحام، فإن ذاكرة رفيق سبيعي قد سجلت الكثير من الذكريات الفنية المشتركة بينهما، وعن آخر أخباره الفنية يقول دريد: انتهيت من كتابة سيناريو فيلم سينمائي، سيكون انتاجه سورياً - مصرياً. وقد تشارك في بطولته يسرا أو رانيا فريد شوقي، والأمر ما زال قيد الدراسة. واسم الفيلم المقترح "آباء صغار". دريد المدافع الدائم عن شخصية "أبو الهنا" على رغم كل ما أصاب تلك الشخصية من ردود فعل سلبية من المشاهدين يعبّر عن غيرته من شخصية "غوار" لأن الناس أحبتها أكثر منه. تُرى هل تتحول هذه الورقات السبع الى مشروع سيرة ذاتية وفنية "مذكرات" عند دريد لحام...؟ أم أن هذه المسألة لن تتحقق نهائياً لا سيما أن دريد لحام الفنان لا يعترف بما مضى من عمره الفني ويقول: "أشعر أنني في الخطوة الأولى من مشروعي الفني"، أو لعل كتابة المذكرات تحمل في طيّاتها شيئاً من الانسحاب من العمل الفني، لمصلحة تدوين تاريخ فني ذاتي يحمل بين جوانحه لحظات تأسيس سيرة الدراما والكوميديا السورية مع الراحل نهاد قلعي؟ وربما الأمر برمته قد يكون مؤجلاً بالنسبة الى دريد لحام بعد أن اطمأن ان بعض شركائه القدامى قد سجّلوا الكثير ممّا نسيه هو؟