عند منصّة التمثال وضعت يديّ، هناك، في مكان أوطأ من محطّ قدمي تمثالك! أتينا إليك عام 1974 متذرعين بالشعر أو بالصداقة التي جمعتنا من خلال الشعر قبل ثلاثين عاماً، كمال سبتي وأنا، صداقة صعبة وتواصل أصعب، لكنه قائم على رغم كلّ الحواجز التي وقفت في طريقنا الى الحياة أو الى الشعر في الحياة. أردتُ أن أقف قريباً منك، هارباً من بؤس القرية وفراغها الذي كنتُ أعيشه آنذاك، هارباً من المدينة التي لم تقبل بي شاعراً ولا مواطناً... انما مجرد قروي بائس وقذر وقبيح. إذاً، كانت الزيارة نوعاً من التعلّة والتوهم والإلتجاء، هرباً من العالم، من الروح المترددة التي تتراقص بين أبيات الشعر وأشباه الشعر، الروح المراهقة التي تريد أن تدفع الدفّة الى أمواج أقوى وأبعد مما هو شائع، روح تناجيها أرواح الحلاج، البسطامي والنفّري، أرواح تأتي من عوالم بعيدة، قديمة أو خفية، تفتح لها نوافذ متوهمة لكي تقفز والروح تقفز ولا تسقط إلا على الأرض لكي تُدمى وتبقى تلوك لوعتها، تكابد الحرمان من الحبّ والإعتراف. كم انتظرت أرواحنا هذا الحبّ وذلك الاعتراف، حتى فقدنا الاهتمام بالاعتراف الى الأبد وبقي لنا شيء يشبه الحب، لكنه يحمل في طياته البغض والكراهية، وهما ربما وجهان لشيء غامض كان يجرجرنا بخيوط من الأمل الغامض لكي نغامر ونسافر ونرحل ونتواعد من جديد، لكي نرغّب أنفسنا بالحياة، بالبهجة التي يمكن أن تنتظرنا في المدن البعيدة، بهجة متوهمة كما سندرك هذا في ما بعد، وسنغني وحيدين أبيات الشاعر الكبير ذاته: "الغرفة موصدة البابِ والصمت عميق وستائر شباكي مرخاةٌ... ربّ طريق...". أو: "يا غربة الروح في دنيا من الحجر والثلج والقار والفولاذ والضجر يا غربة الروح... لا شمسٌ فأئتلقُ فيها ولا أفقُ يطيرُ فيه خيالي ساعة السحرِ...". كانت هذه الأبيات وغيرها زادنا ونحن نكتشف بأننا نبكي في البعيد فراق الأهل والديار التي خرجنا منها مكرهين أو كارهين، شيء ما حلّ فيها وحوّلها من جنة طفولة متوهمة الى كابوس يشيبُ منه الطفل قبل الولادة! هكذا خرجنا إذاً، يحمل كلٌّ منّا صرّة أوهامه وأحلامه، أحياناً يقرفصُ في مكان ما، وأحياناً أخرى يباعد في ما بين خطواته لكي يبعد أكثر... نلوك حروفنا عاماً بعد عام، نخاصمها ونتخاصم جراءها في ما بيننا، حتى هجرنا العالم العادي، بل طردنا منه أيضاً، باعتبار أننا مسببي مشاكل ومحبي عنف! هكذا ببساطة تم التخلّي عنا، وقبل أن نجلس مع الآخرين، وبقينا واقفين نلوك من جديد أبيات شعرنا عن الواقع المرّ، تهرّ الكلاب علينا من كل حدب وصوب، تجرجر بأنيابها أطراف ثيابنا ونحن متشبثين بالوهم، علّ الوهم ينقذنا من الكارثة التي هي حالّة لا ريب! وبما أن الأقدار قاسية لا ترحم، فانها أعادتنا الى ديارنا والى أهلنا وقد غادر معظمهم الى المكان الذي لا رجعة منه، عُدنا، كلٌّ يتوكأ عصاه على أرض خبب، لكأنما يُطاردنا الجنّ والوحش، كنّا نريد أن نتأمل المكان وأن نتحادث الى من بقيّ منّا، أن نسمع الأنّة وأن نتشح بالسواد وأن نرى أنفسنا ونحن نبكي... وأن نرى أنفسنا عاجزين... نردد أبيات شاعرنا الكبير: "لقد سئم الشعر الذي كان يكتبُ كما ملّ أعماقَ السماء المذنّبُ فأدمى وأدمعا: حروبٌ وطوفانٌ، بيوتٌ تُدمّرُ وما كان فيها من حياةٍ، تصدّعا. لقد سئم الشعرَ الذي ليس يذكرُ...". فكان بحثنا عن الوجوه التي كانت يانعة، نريد أن نراها، عن الحيطان التي كانت عالية وقد تهدّمت، الزوايا التي كنّا نشعر حينما نمرّ قربها بعواطف جامحة ويسرع القلبُ في نبضه، عن نهرٍ طافحَ وقد غاص ماؤه ومات سمكه، عن نخلة لم تعد تعطِ ثمراً، وعن ليلٍ لم يعد أسودَ تضيئه النجوم...